|
ميكافيللي الثاني
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 07:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سأظل أتذكر، قصة الفلاح وكيس الخيش، تحكي قصة الفلاحٍ المصري البسيط وكيس الخيش: "أن فلاحا كان يحمل كيسا من الخيش مملوءا بالفئران الحية، وكان مسافرا في أحد قطارات الريف إلى القاهرة، وكان يجلس إلى جوار هذا الفلاح أحدُ المهندسين، لاحظ المهندس أن الفلاحُ يهزَّ الكيس عدة مرات بين الفينة والأخرى، سأل المهندسُ الفلاحَ عن محتويات هذا الكيس، قال الفلاح: في الكيس عدد كبير من الفئران اصطدتها حية لأبيعها لمركز الدراسات والأبحاث في القاهرة، ليُجروا عليها التجارب العلمية، وهذا مصدر رزقي"! سأل المهندس الفلاح مرة أخرى: ولكن لماذا تهزُّ الكيس بين الفينة والأخرى؟ رد الفلاح: "أنا أهزُّ الكيس حتى لا تتمكن الفئران من قرض الكيس المصنوع من قماش الخيش لتحرر نفسها، فأنا أهزها باستمرار لتنشغل بمعاركها الداخلية بين بعضها البعض، لأن الفئران تعتقد أن حركة هزِّ الكيس ناتجةٌ عن مشاغبة وعبث بعض الفئران داخل الكيس، لذلك فهي تقتتل مع بعضها البعض، وتنشغل بحروبها الداخلية، وتنسى استخدام أسنانها الحادة لقرض كيش الخيش، فهي تنسى الحرية وتقتتل داخليا! تعتبر قصة كيس الفئران السابقة دراسة صادقة عن تجربة فلاح بسيط، لأليات حكم جماهير العامة في المجتمعات المتخلفة غير الديموقراطية، لأن التخلص من ثورات الجماهير على الحكام الطغاة لا تتم إلا بإشغال الجماهير بقضايا فرعية تسبب الألم والخصام، مثل قطع التيار الكهربي والماء عن السكان، أو توقيف شبكة الإنترنت، أو إشغالهم بالمباريات الرياضية المقامة على أساس عرقي أو جهوي، وليس على أساس رياضي ديموقراطي، أو فرض الضرائب على وسائل الحياة، كل تلك الإشغالات بقضايا فرعية هي بالضبط مثلما فعل الفلاح البسيط، عندما واظب على هز كيس الفئران المصنوع من الخيش، بين الفترة والأخرى، ليحول المعركة من معركة على الانعتاق والحرية، إلى صراع داخلي بين الفئران! هذه القصة أعادتني لدراسة كتابٍ مشهور جدا له علاقة بآليات التحكم في الجماهير، على الرغم من أنه كُتب عام 1895م، هذا الكتاب اسمه، سيكلوجيا الجماهير لمؤلفه الطبيب وعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، غوستاف لوبون المتوفى عام 1931م، لأنه يتحدث عن جماهير العامة في المجتمعات كافة، ظل الكتاب عمدة في تحليل نفسية الشعوب ومرجعا في علم النفس الاجتماعي، وقد تتلمذ على هذا الكتاب كثيرون من زعماء الفاشية في العالم مثل، هتلر، وموسوليني، عاش الكاتب في عصر العلماء والمكتشفين مثل، دارون، وفرويد، وبودلير وغيرهم، وقد أسمى بعضُ العلماء كتاب، سيكلوجيا الجماهير، أسموه (ميكافيللي الثاني) أي أنه يشبه كتاب، الأمير لكاتبه، نيقولا ميكافيللي المتوفى عام 1527م! هذا الكتاب المعتمد عالميا كان أشهر بكثير من مؤلف الكتاب نفسِه، لأن مؤلف الكتاب لم يحظَ بشهرة كتابه، لأن الكاتب، غوستاف لوبون ظل محجوبا عن البروز كمؤلف يستحق الاحترام، غير مسموح له أن يكون محاضرا في جامعات فرنسا، لأن كثيرين اعتبروه كاتبا فاشيا، كثيرون أشاروا إلى أن السبب في سمعته المُضللة يعود إلى رأيه النقدي في اليهود ونفسياتهم وسيكلوجيتهم في كتابه الثاني المشهور(اليهود في تاريخ الحضارات الأولى) وأرجع آخرون السببَ إلى أنه نشر كتابا ثانيا، (حضارة العرب) أشاد فيه بتأثير الحضارة العربية على دول الغرب، وجعل حضارة العرب هي السبب في ازدهار الحضارة الغربية، مع العلم أن كتاب، حضارة العرب ظلَّ محظورا من الانتشار مدة طويلة! كتاب، سيكلوجية الجماهير الذي ترجمه للعربية، هاشم صالح رصد بدقة طريقة تحول الفرد المثقف الواعي إلى أداة طائعة في أيدي الجماهير، بحكم انتمائه إلى عرقٍ وجنس معين، يصبح الفرد المثقف حين يلتحق بجماهير العوام غوغائيا، يتخلى عن ثقافته الذاتية وتميزه العلمي وفرادته، ويتحول من قائد إلى تابع للجماهير الغوغائية، يُقاد ولا يقود! عاش غوستاف لوبون في عصر انحدار فرنسا وهزيمتها من الدول الأوروبية، وشخص سبب الهزيمة، وأرجع السبب إلى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ بدون أن يتمكنوا من ابتداع برنامج ثقافي وعقلي قادر على مواجهة الهزيمة مواجهة علمية محكمة! تأثَّر عالم النفس، سيغموند فرويد بكتاب، سيكلوجيا الجماهير كتب عنه قائلا: "إن تركيز غوستاف لوبون على اللاوعي عند الجماهير يشبه نظريتي في اللاشعور، وهو المحرك الرئيس للبشر"! من أبرز أقوال، غوستاف لوبون في سيكلوجيا الجماهير: "صحيحٌ أن الجماهير قد تكون مجرمة، وقد تكون بطلة أيضا، فمن السهل اقتياد الجماهير لارتكاب القتل باسم النضال من أجل انتصار عقيدة إيمانية، أو انتصار ما، ويمكن بث الحماسة في نفوس الجماهير، وتجييشهم وزجهم في الحروب بدون طعام أو سلاح كما حدث في الحروب الصليبية، حين رفعوا شعار تخليص قبر المسيح من الكافرين، كما أن الجماهير لا تعتمد العقلانية بل هي انفعالية، لذا فهي أدني كفاءة من الفرد" (الكتاب صفحة 63) وهو قد أشار إلى السرعة الفائقة في انتقال الجماهير بسرعة البرق من فكرة إلى فكرة نقيضة، تحت تأثير المحرضين ممن يقودون الجماهير، وهو أيضا يعتقد بأن الجماهير غير مؤهلة للتفكير العقلي والتأمل، وهي غير مؤهلة للمحاكمة العقلية، فهي تصدق أي شيء تسمعه، بلا تمحيص، الجماهير عند، غوستاف لوبون مؤهلة فقط للانخراط والعمل، كما أنها كأوراق الشجر، تذروها الرياح وتلقى بها في أي مكان بلا حساب أو معرفة، وهو يصف كيف استطاع نابليون أن يضحي بثلاثة ملايين فرنسي في حروبه المتواصلة لتحقيق طموحه الشخصي فقط، لأنه كان واعيا بنفسية جماهير شعبه الفرنسي فقط، ولكنه كان قاصرا عن فهم جماهير الشعوب الأخرى التي خاض حروبه ضدها! نعم تمكن غوستاف لوبون من وضع مبادئ استراتيجية ليدعم فكرته في ذوبان الشخصية الفردية في الجماعة، وقد وضع المبادئ التالية: يجب على القائد أن يعرف نفسيات الجمهور، لأن الفرد الواعي بالجماهير يكتسب القوة الفائقة بعد أن يتخلى عن قدراته وكفاءته الخاصة، وينزل من المرتبة الثقافية والفكرية عندما كان وحيدا إلى مرتبة جماهير العوام، ويتحول إلى إنسانٍ آليًّ تقوده الجماهير، وهو أيضا يضرب مثلا عن أعضاء البرلمانات ممن كانوا قبل أن يصبحوا أعضاء في البرلمان لطيفين مفكرين حينما كانوا أشخاصا وحيدين، ولكنهم تحولوا إلى حكام قامعين يصدرون أحكاما بالموت والإعدام على مخالفيهم حينما وصلوا إلى سدة البرلمان اصبحوا تابعين لأعضاء البرلمان! أشار غوستاف لوبون إلى أن الحكام يستطيعون التغرير بالجماهير بواسطة فرض الضرائب بمبالغ صغيرة على البضائع كلها، بحيث تجمع دخلا كبيرا للحاكم، وهم عندما يفرضون الضرائب الكبيرة على مرتبات الجمهور وتجارتهم دفعة واحدة، فإن ذلك يؤدي إلى ثورة الجماهير على نظام حكمهم!
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديكتاتورية مرض أم عبقرية؟
-
(هرتسل) دولة فلسطين!
-
سنطعم غزة بالملعقة!
-
احتجاج سفير أمريكا في إسرائيل!
-
هل كان هرتسل علمانيا؟
-
لا تنتقدوا المقاومة!!
-
غزة صفقة تجارية!
-
إسرائيل والأسلحة النووية!
-
وصية نتنياهو في الحائط الغربي!
-
أديبان إسرائيليان!
-
حرب شمشونية في غزة!
-
الحكومة العميقة لنتنياهو!
-
تهجيري الخامس!
-
ماذا تريد إسرائيل من غزة؟!
-
تشرشل وشكسبيرّ
-
صحغيو فلسطين آهداف عسكرية!
-
في ذكرى المبدع جمال حمدان!
-
أين اختفى اليساريون الإسرائيليون؟!
-
قصتان عالميتان عن مرض الحزبية!
-
مخطط إسرائيل للسلطة!
المزيد.....
-
عاش بالمغرب قبل 165 مليون سنة... اكتشاف بقايا لأحد -أكثر الد
...
-
أعضاء مجلس الأمن باستثناء الولايات المتحدة يدعون لوقف إطلاق
...
-
وسط جمود مساعي السلام.. القوات الروسية تتوغل في منطقة جديدة
...
-
قانون الحشد الشعبي تحرير للعراق من نفوذ طهران أم تكريس له؟
-
المخيم الصيفي لسنة 2025:التثقيف لدعم المقاومات من أجل بدائل
...
-
مولدوفا: قلق أوروبي
-
إسرائيل: ماذا تحقق المظاهرات؟
-
عشرات الشهداء والمصابين بالقصف والتجويع في غزة
-
الجزائر تستدعي القائم بأعمال سفارة فرنسا وترفض بيانها عن الت
...
-
المفوضية الأوروبية تجيز طرح دواء وقائي جديد للإيدز من شركة -
...
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|