|
الهند كأزمة عالمية مركبة: بين سندان النيوليبرالية، ومطرقة الفاشية، ومخاض قوى اليسار
دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 02:23
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
ما الذي يجري في شوارع الهند؟
منذ مطلع 2020، تشهد الهند انفجاراً اجتماعياً واسع النطاق، يشارك فيه مزارعون وطلاب وعمال ونقابيون ونسويون وحركات داليت وأقليات دينية. هذه الانتفاضة متعددة الطبقات لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة مباشرة لسلسلة سياسات تحت مسمى "الهند الجديدة" التي دشنتها حكومة حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) بقيادة ناريندرا مودي، تحت غطاء الإصلاح الاقتصادي وتعزيز الهوية الوطنية الهندوسية. لكن ما يبدو من الخارج حراكاً مطلبياً عابراً، يكشف من الداخل عن انهيار التوازنات الاجتماعية القديمة، وتصاعد مقاومات جديدة تمزج بين السياسي والمعيشي. لم تكن الاحتجاجات مجرد رد فعل على قانون، بل لحظة تبلور جيل جديد من الحركات الشعبية القاعدية، تتحدى الأطر الحزبية، وتعيد إنتاج مفردات الصراع في قلب الرأسمالية الطرفية.
1. القوانين النيوليبرالية وتفكيك الهند الاجتماعية
عبر ثلاث حزم تشريعية محورية، مضت حكومة مودي في إعادة هيكلة الهند من اقتصاد اجتماعي مختلط إلى سوق رأسمالي متوحش، عبر تفكيك منظومة الدعم، تقويض حقوق العمال، وتغيير البنية القانونية للمواطنة. هذه الحزمة لا تمثل فقط تغيراً تقنياً أو إدارياً، بل تعكس انتقالاً حاداً من دور الدولة كحامٍ اجتماعي إلى دور الوسيط بين المواطن والرأسمال العالمي. وباستخدام ما يسميه ميشيل فوكو "العقلانية الحكومية"، أعادت الدولة تعريف المواطنين لا كمستحقين للحقوق، بل كأفراد مسؤولين عن البقاء في سوق حرة بلا ضمانات، متخلية عن دور الحامي الاجتماعي.
قوانين الزراعة الثلاثة (2020-2021)
- قانون تجارة المنتجات الزراعية: يُجيز للشركات الخاصة شراء المحاصيل مباشرة من الفلاحين متجاوزاً أسواق الدولة، ما يعني تقويض نظام التسعيرة الدنيا المدعومة (MSP). - قانون اتفاقيات المزارعين: يسمح للشركات بإبرام عقود زراعية مباشرة مع الفلاحين، دون حماية قانونية متينة، ويحول العلاقة الإنتاجية إلى تعاقد فردي هش. - قانون السلع الأساسية: رفع القيود عن تخزين المواد الغذائية، ما يفتح الباب أمام احتكار الشركات الكبرى ورفع الأسعار.
خلّفت هذه القوانين موجة احتجاجات ضخمة قادها اتحاد "ساميوكت كيسان مورشا" الذي ضم أكثر من 40 نقابة فلاحية، اعتصم فيها مئات الآلاف على أطراف العاصمة دلهي لمدة عام، ما أدى إلى تعطيل حركة التجارة ودخول البلاد في صراع سياسي مكشوف. وواجه الاعتصام عنفاً شرساً من الشرطة. قُتل أكثر من 700 مزارع ، وتم اعتقال المئات، ورفض مودي لأسابيع سحب القوانين، قبل أن يُجبر على ذلك في نوفمبر 2021 تحت الضغط الشعبي. لكن التراجع عن القوانين لم يُلغِ بنيتها الفكرية ولا استمرار الخصخصة التدريجية في الريف الهندي.
قوانين العمل الأربعة (2020)
- قانون العلاقات الصناعية: يُقيّد الحق في الإضراب ويحيد النقابات ويسلب قوتها التفاوضية عبر فرض إشعارات مسبقة، ويسمح بفصل العمال في المنشآت التي يقل عدد عمالها عن 300. - قانون الأجور: يوحّد الحد الأدنى للأجور شكلياً، لكنه يضع تطبيقه بيد السلطات المحلية التي تتجاهله غالباً. - قانون الضمان الاجتماعي: يُدرج العمال غير الرسميين في التأمينات، لكن بدون تمويل كافٍ أو بنية تنظيمية عادلة. - قانون الأمن المهني: يُخفف من شروط السلامة الصناعية، ويقلص الرقابة الحكومية على المصانع.
هذه القوانين تجسيد نموذجي لما يسميه غرامشي بـ"الهيمنة القانونية–الاقتصادية": تُصاغ تشريعات باسم الشمول الاجتماعي، لكنها في الواقع تُنتج مزيدًا من الهشاشة الممنهجة في سوق العمل حيث العمال المؤقتون يشكلون 90% من القوى العاملة . إنها النيوليبرالية كما صاغها ديفيد هارفي: إعادة صياغة الدولة لتخدم منطق الربح لا منطق العدالة. خلفت هذه القوانين اضرابات شاملة دعت لها النقابات العمالية الكبرى ( AITUC ، CITU، INTUC ) وشارك أكثر من 250 مليون عامل في تعبئة غير مسبوقة، أعادت الاعتبار للقوة الجماعية رغم ضعف التغطية الإعلامية.
قانون تعديل الجنسية (CAA) ومشروع السجل الوطني (NRC) القانون يمنح الجنسية فقط لغير المسلمين من اللاجئين القادمين من باكستان، أفغانستان، وبنغلاديش، في انتهاك مباشر للدستور العلماني. وقد رُوّج لهذا القانون كإصلاح، لكنه في الحقيقة جزء من مشروع تمييزي أوسع لتجريد ملايين المسلمين من أوراقهم، وتحويلهم إلى "مهاجرين غير شرعيين". عُدّل سجل المواطنين القومي ليشمل وثائق إثبات قديمة يعجز كثيرون عن تقديمها، ما أثار خوفاً جماعياً من التهجير الجماعي القانوني، على غرار ما يجري في فلسطين. وقد وصف نشطاء حقوق الإنسان هذا القانون بأنه "استعمار داخلي" يُنتج مواطنين من الدرجة الثانية، ويحوّل الهوية إلى امتياز طائفي. وهكذا، يصبح التمييز الديني جزءاً من مشروع إعادة هيكلة اجتماعية–اقتصادية، لا مجرد خطاب كراهية، بل هندسة ممنهجة لمواطنة طائفية في خدمة السوق والسلطة. هذا الثلاثي التشريعي – قوانين الزراعة والعمل وتعديل الجنسية – أعاد صياغة الهند كدولة نيوليبرالية سلطوية ذات طابع قومي–ديني، تمزج بين القومية الهندوسية وتفكيك البنية الاجتماعية. كل قانون من هذه القوانين أسهم في إعادة إنتاج علاقات القوة، في ما يشبه ما أسماه ميشيل فوكو بـ"بيروقراطية الاستبعاد"، حيث تصبح أدوات القانون آليات للهيمنة والإقصاء. هذا التحول البنيوي لا يشكل مجرد تعديلات تقنية، بل يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويشرعن الطرد الطبقي والطائفي ضمن أطر قانونية. من هنا، يمكن فهم تصاعد التظاهرات الشعبية التي لم تعد تقتصر على المطالب القطاعية، بل تحوّلت إلى حركات سياسية شاملة تطعن بشرعية النظام نفسه. ويُشكّل هذا المسار خلفية ضرورية لفهم القسم التالي، حيث نرصد أنماط المقاومة الجديدة التي بدأت تتبلور في مواجهة هذا التفكيك، ليس فقط عبر الاحتجاج، بل من خلال بناء بدائل من الأسفل، تستند إلى إرث النضال التحرري وتخلق سرديات مضادة تتحدى خطاب الدولة القومي–النيوليبرالي.
2. صعود اليمين الهندوسي وبنية الحكم (الهندوتفا)
لفهم جوهر الأزمة الراهنة في الهند، لا يكفي تحليل السياسات والقوانين بمعزل عن البنية الأيديولوجية التي تؤطرها. فالهند، في ظل حكم حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) ، تعيد تشكيل هويتها السياسية والثقافية عبر أيديولوجيا "الهندوتفا" ، وهي تصور قومي–ديني يعتبر أن الهند أمة هندوسية بالجوهر، وأن كل ما هو غير هندوسي – من المسلمين والمسيحيين والداليت – إما دخيل أو خطر داخلي. هذه الأيديولوجيا ليست اختراعاً جديداً، بل تعود جذورها إلى ثلاثينيات القرن الماضي، مع تأسيس تنظيم راشتريا سوايامسيفاك سانغ (RSS) ، المتأثر بالفاشية الأوروبية، والذي يشكّل اليوم الذراع العقائدي لـ (BJP) وحاضنته الفكرية والتنظيمية.
منذ صعود ناريندرا مودي إلى سدة الحكم في ولاية غوجارات عام 2001، بدأ مشروع "الهند الجديدة" الذي يمزج النيوليبرالية المتطرفة بالقومية الهندوسية. لعب مودي دوراً محورياً في مجازر غوجارات عام 2002 التي راح ضحيتها أكثر من ألف مسلم، وسط تواطؤ أمني وسياسي. وقد منعته هذه الجريمة من دخول الولايات المتحدة حتى عام 2014، تاريخ صعوده إلى رئاسة الوزراء. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الهندوتفا ليست مجرد عقيدة متطرفة على الهامش، بل أيديولوجيا الدولة، تُترجم في المناهج التعليمية، والإعلام، والقوانين، والبنى الأمنية، لإعادة تشكيل الوعي العام. تشمل هذه الهندسة الأيديولوجية حملات كراهية ممنهجة ضد المسلمين، كحظر الزواج بين الأديان، وتحويل التنوع الاجتماعي إلى تهديد أمني. كما يترافق هذا المشروع مع تركيز اقتصادي غير مسبوق للثروة، عبر دعم شركات قريبة من السلطة مثل (Adani) و(Ambani) ، بما يشبه "اقتصاد زكاة هندوسي" غير معلن، حيث تُكافأ الولاءات الطائفية بالامتيازات الاقتصادية. الدولة هنا لا تكتفي بإقصاء الفقراء والأقليات، بل تعيد إنتاج نخبة اقتصادية–هندوسية تُحتكر عبر القمع والتفضيل المؤسسي. في هذا السياق، لا تبدو السياسات النيوليبرالية المعتمدة – في الزراعة والعمل والجنسية – انحرافاً عن خط الدولة، بل تجسيداً له. فهي أدوات لضبط الطبقات الدنيا، وإعادة تشكيل المواطن كذات طيّعة، مطيعة، منزَعة من الحقوق، لكنها معتدة بهويتها الهندوسية. وكما يقول ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تعمل فقط عبر القمع، بل عبر إنتاج الذات، والهندوتفا تُنتج ذاتاً ظاهرها "وطنية" تفتخر بانتمائها، حتى وهي تُسحق اقتصادياً واجتماعياً.
3. خرائط جديدة للتحرر: بين الحراك القاعدي واليسار التقليدي
في مواجهة هذا التوسع السلطوي النيوليبرالي–الهندوسي، ظهرت سلسلة من الحركات المجتمعية والنقابية والنسوية التي تعيد تعريف النضال من خارج الأطر الحزبية التقليدية. هذه الحركات لا تكتفي برفض القوانين، بل تشتبك مع البنية ذاتها: علاقات القوة، منطق التنمية، وتوزيع الهوية.
- الاتحاد العام لعمال الهند (AITUC)، والمركز النقابي الهندي للعمال (CITU)، واتحاد نقابات العمال الهند (INTUC) : هذه النقابات الثلاث شكلت رأس الحربة في مقاومة قوانين العمل الجديدة، وهي تمثل العمود الفقري للعمال المنظمين في الصناعات الكبرى والنقل والخدمات. ترفض هذه النقابات الخصخصة، وتقويض شروط التوظيف، وتؤكد على الربط بين النضال النقابي والسياسي. - جيش بهيم (Bhim Army) : حركة داليتية تأسست في 2015 بقيادة تشاندراشيخار آزاد، تسعى للدفاع عن حقوق (المنبوذين) ، وتربط بين كفاح الداليت والنضال ضد النيوليبرالية. تنتشر شعاراتها في الأحياء المهمشة وتستخدم وسائل الإعلام البديلة لتوثيق العنف الطبقي والطائفي. - التحالف الوطني لحركات الشعب (NAPM) : شبكة من الحركات المناهضة للخصخصة وتهجير المجتمعات، تضم مزارعين، سكان عشوائيات، وناشطين بيئيين. ترفع شعار "الناس أولاً"، وتعارض مشاريع البنية التحتية الكبرى التي تجرّد السكان من أراضيهم لصالح رأس المال. - تحالف تشادي الوردي (Pink Chaddi Campaign) : بدأ كاحتجاج نسوي ضد عنف الميليشيات الهندوسية على النساء، لكنه تطور إلى فضاء مقاومة نسوي–تحرري، يربط بين الجندر، الطائفة، والسياسة النضالية. يقاوم تحكم الدولة والمجتمع بجسد المرأة، ويواجه خطاب الشرف الذكوري الذي يتبناه اليمين. - الحركات الطلابية ( JNU، AMU، Jamia) : واجهت هذه الحركات موجات من القمع بعد قيادتها مظاهرات ضد قانوني ( CAA وNRC ) ، وتم اعتقال طلاب ومثقفين بتهم الإرهاب. ولعب اتحاد طلاب (JNU) دوراً قيادياً في إعادة الاعتبار للفكر النقدي والماركسي، مما جعله هدفاً دائماً لهجمات البروباغندا اليمينية. - شبكة التضامن الأمبيدكرية–الماركسية: رغم التوتر التاريخي بين الماركسيين وأتباع أمبيدكر، بدأت تظهر تحالفات جديدة ترى في المزج بين نقد الطبقة والطائفة أفقاً تحررياً شاملاً. هذا التيار الناشئ يرفض الحتمية الاقتصادية الصرفة، ويؤكد على البعد الثقافي–الرمزي في التحرر.
كل هذه القوى، محاولات لصياغة مجتمع لا تهيمن عليه الطائفة أو السوق أو الدولة الاقصائية. وتظهر قدرتها على التنظيم الأفقي، واستعمال الفنون، والشعر، والميديا البديلة، لتُركام وعيا جديداً مقاوماً، يفكك مفاهيم الوطنية، التنمية، والمواطنة. رغم نهوض هذه الحركات من خارج الأحزاب الشيوعية التقليدية، إلا أن العلاقة لم تكن دائماً عدائية. ففي الإضرابات العامة الكبرى، لوحظ تعاون تكتيكي بين نقابات يسارية تابعة للأحزاب الشيوعية مثل الحزب الشيوعي الهندي (CPI) والحزب الشيوعي الماركسي (CPI-M) وبين تحالفات أكثر أفقية مثل (NAPM) و(Bhim Army) ، خاصة حول قوانين العمل و الاجور. غير أن أزمة الأحزاب الشيوعية في الهند تكمن في فقدانها القدرة على تجديد خطابها التنظيمي، وإصرارها على مركزية القرار، وهو ما دفع شريحة واسعة من الشباب والمهمشين إلى البحث عن أدوات أكثر مرونة واتساعاً، كما ظهر في صعود الماركسيين المستقلين في الجامعات، وتحالفاتهم مع شبكات نسوية وأمبيدكرية.
تأريخياً، لعبت الأحزاب الشيوعية أدواراً محورية في المشهد الهندي: من إصلاحات الأراضي إلى قيادة حركات عمالية وجماهيرية. يُعد CPI أقدم الأحزاب وأكثرها ارتباطاً بالعمل البرلماني، بينما انشق عنه (CPI-M) عام 1964 بتوجه أكثر راديكالية. إلى جانبهما، نشأ الحزب الشيوعي الهندي الماوي (CPI-Maoist) ويتبنى الكفاح المسلح، خصوصاً في المناطق القبلية المهمشة. ورغم حظره رسمياً، يواصل هذا الحزب مقاومته المسلّحة والمدنية، رافضاً النيوليبرالية وشركات التعدين الأجنبية. في العقود الأخيرة، تراجع نفوذ هذه الأحزاب بفعل الجمود والانفصال عن الديناميات الاجتماعية، مع اختراق اليمين للطبقات الشعبية. لكنها احتفظت بتمثيل نقابي قوي من خلال نقاباتها مثل (CITU) ومشاركتها الفاعلة في الانتفاضات الكبرى، مثل احتجاجات المزارعين 2020–2021، والإضرابات العامة في قطاعات التعليم والنقل والطاقة.
وقد تبنت هذه الأحزاب، رغم اختلاف تكتيكاتها، مواقف واضحة من التحالفات الإمبريالية، خاصة دعم فلسطين ورفض التطبيع مع إسرائيل، ومناهضة اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. كما أن حركات مثل (All India Kisan Sabha) التي تمثل الذراع الزراعي لــ (CPI-M) ، أدت دوراً حيوياً في تعبئة الفلاحين ضد قوانين الزراعة، مما يؤكد أن هناك محاولات متقدمة لإعادة تشكيل الجبهة الاجتماعية اليسارية. لا يمكن اختزال المشهد في ثنائية الحزب والحراك؛ بل إن التنوع والتقاطع بين القوى اليسارية يفتح أفقاً لإعادة تشكيل يسار متعدد الجذور. وبدأت محاولات لتجسير الهوة عبر تنسيقيات احتجاجية وجبهات مطلبية في قضايا الأجور والتعليم والخصخصة.
4. الهند والهيمنة الإمبريالية: تحالفات جديدة، طموحات قديمة
تبدو الهند، في العقد الأخير، وكأنها تعيد صياغة موقعها ضمن منظومة الهيمنة الإمبريالية العالمية، لا كدولة هامشية بل كفاعل طامح إلى لعب دور وكيل إقليمي رأسمالي في آسيا وإفريقيا. هذه الطموحات تُلبس خطاب التنمية والاستقلالية، لكنها تنكشف عند تفكيك تحالفات الهند الخارجية، وموقعها ضمن النظام النيوليبرالي العالمي. على مستوى التحالفات المركزية، تُقدّم الهند نفسها كحليف استراتيجي للولايات المتحدة – خاصة عبر تحالف (QUAD) الذي يضم أستراليا واليابان، أما اتفاقية (BECA) اتفاق التبادل الأساسي للتعاون الجغرافي المكاني، واتفاق (LEMOA) تبادل الدعم اللوجستي، فهما اتفاقيتان دفاعيتان مع الولايات المتحدة تتيحان للهند وأميركا تبادل البيانات الجغرافية العسكرية الدقيقة، وتسهيل استخدام قواعد بعضهما البعض للتموين والصيانة. يُعد توقيعهما خطوة مركزية في تعميق التحالف العسكري الهندي–الأميركي، بما ينزع عن الهند حيادها السابق في السياسة العالمية وتجعل من الهند ركيزة في مشروع احتواء الصين وإعادة تشكيل نفوذ واشنطن في آسيا.
كما أن تحالفها الوثيق مع إسرائيل تجاوزت الاقتصاد لتصل إلى التنسيق الأمني، خاصة في مجالات الطائرات المسيّرة، وبرامج المراقبة، تحت خطاب مشترك لمكافحة "الإرهاب الإسلامي"، ما يشرعن الإسلاموفوبيا في الداخل. إقليمياً، تروّج الهند لنفسها كقوة تنموية بديلة في جنوب شرق آسيا من خلال سياسة (ACT East)، لتكرس نفوذها الاقتصادي والسياسي على دول كنيبال وسريلانكا وبنغلادش، باستخدام المساعدات المشروطة من خلال مشاريع للبنى التحتية والطاقة والتجارة تصب في مصلحة رأس المال العالمي وتكريس التبعية، دون تحفيز إنتاج محلي حقيقي. أما مشروع (IMEC) الذي يربط الهند بالخليج وأوروبا بتمويل أمريكي–أوروبي، فهو تجسيد لدور الهند كقناة لنقل البضائع والاستثمارات ضمن نمط الإنتاج العالمي. تتكرس هذه الأدوار في تحالف (I2U2) الذي يضم (الهند–إسرائيل–الإمارات–الولايات المتحدة)، منصة أمنية–اقتصادية للتحكم بسلاسل الغذاء والماء والطاقة في المنطقة، تدار من واشنطن. كذلك، تتعمق علاقات نيودلهي مع الاتحاد الأوروبي عبر شراكات في الطاقة الخضراء والتكنولوجيا. أما في إفريقيا، فتخوض شركات هندية –مدعومة حكومياً– استثمارات في الزراعة والطاقة بأساليب استعمارية ناعمة. هذا التوسع الخارجي يترافق مع تحولات داخلية، حيث تطرح حكومة مودي خطاب "الهند الجديدة" كغطاء لتحالف يميني–قومي–رأسمالي، يحتكر سردية التقدم ويحوّل التنوع الاجتماعي إلى تهديد أمني.
تحليلاً بنيوياً، لا تنفصل هذه السياسات عن دور الهند في بنية الهيمنة الإمبرياليةـ فهذه ليست مجرد تحالفات سياسية أو تجارية، بل بنية متكاملة من التبعية المعولمة، فالهند ليست فقط شريكاً في الحروب بل ثغرة إمبريالية جديدة ، وشريكا في نمط الإنتاج العالمي. كما حذّر إدوارد سعيد، تُمارس الهيمنة أيضاً عبر تمثيل العالم. والهند، رغم مظهرها التنموي، تُعيد إنتاج الهيمنة تحت خطاب السيادة: اقتصاد السوق، أمننة الداخل، وتطبيع الطائفية كسياسة دولة. وهو ما يجعل مهمة الحركات الاجتماعية ليست فقط مناهضة الداخل النيوليبرالي القمعي، بل تفكيك موقع الهند في منظومة الاستغلال العالمي.
5. تجريم التضامن مع فلسطين: قمع داخلي يكشف موقعاً إمبريالياً
تُظه استجابة الدولة الهندية تجاه التضامن مع فلسطين كيف تُترجم تحالفاتها الخارجية إلى سياسات قمعية داخلية. ففي حين تكرّس الهند تعاونها الأمني والعسكري مع إسرائيل، فإنها تُعامل كل تعبير شعبي داعم للقضية الفلسطينية كتهديد أمني. منذ أكتوبر 2023، واجهت مسيرات طلابية وشعبية في عدة ولايات قمعاً مباشراً؛ طُرد طلاب، واعتُقل ناشطون، ووجّهت لهم تهم التحريض على العنف أو تهديد الأمن القومي، بموجب قوانين مثل قانون السلام العام (FIR) وقانون منع الأنشطة غير المشروعة (UAPA)، ما جعل التضامن فعلاً مجرّماً قانونياً واجتماعياً. في المقابل، أُجيزت تظاهرات مؤيدة لإسرائيل دون اعتراض يُذكر. رغم هذا القمع، استمر الحراك التضامني في حزيران/يونيو 2025، دعت الأحزاب اليسارية (CPI) و (CPI-M) و (CPI-ML) و (RSP) ليوم وطني للتضامن مع فلسطين، شهد مظاهرات في دلهي والبنغال وولايات أخرى، طالبوا خلالها بوقف التعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة. كما نظمت اتحادات طلابية مثل (AISA) و (SFI) تظاهرات في آذار/مارس 2025 تطالب بوقف مبيعات الأسلحة، بينما اعتُقل نواب عنهم في مسيرات نحو السفارة الإسرائيلية. يبرر مودي ذلك بأن إسرائيل والهند "تواجهان نفس الأعداء"، في حين يهيمن الصمت الرسمي على المجازر في غزة والسودان واليمن حفاظاً على المصالح الاستثمارية. وتُستخدم القومية الإعلامية لتحييد الاحتجاجات وتهميش أي بديل اشتراكي أو شعبي حقيقي. هذا القمع ليس استثناءً، بل يعكس موقع الهند في منظومة الهيمنة العالمية: دولة تتبنّى منطق السوق والأمن الإمبريالي، وتقمع من يرفض هذا الاصطفاف
6. اليسار الهندي – منظومة النضال وأدواره الفكرية بين واقع ونقد
يواجه اليسار الهندي لحظة انعطاف تاريخية، بين تراجع نفوذه التقليدي وتصاعد الديناميات الاجتماعية القاعدية. لم تعد المعضلة محصورة في تراجع الأحزاب، بل في ضرورة إعادة ابتكار الأفق السياسي ذاته. فخارطة اليسار اليوم لم تعد تقتصر على الأحزاب الكبرى، بل تضم تيارات ماركسية، أمبيدكرية، نسوية، وبيئية، قد تختلف في التكتيك والموقع، لكنها تتقاطع جميعها في مناهضة النيوليبرالية والسلطوية والقومية الهندوسية. قوته تكمن لا في توحيد الشكل، بل في قدرته على بناء جبهات نضالية تعترف بالاختلاف وتراهن على جوهر تحرري مشترك. وتؤسس لتحالفات مرنة، كما يُظهر التكوين الأمبيدكري–الماركسي الناشئ، الذي لا يكتفي بنقد البنية الطبقية، بل يربطها بنقد منظومة الطوائف، ويفتح أفقاً لتجذير النضال في الهامش لا في البرلمان فقط. كما أن ربط هذا التكوين بالمواقف الأممية، كدعم فلسطين ومناهضة الإمبريالية، يضيف له بعداً رمزياً مضاداً للهيمنة الامبريالية.
لفهم هذه الديناميات، يمكن الاستعانة بعدسة غرامشي، الذي صاغ مفهوم "الكتلة التاريخية" التي لا تتشكل من فوق، وان التغيير لا يأتي من مؤسسات النخبة، بل من تقاطع البنية الاقتصادية التحتية والبنية الإيديولوجية لأشكال الوعي الشعبي. ورغم أن هذه الكتلة لم تتبلور بعد في الهند كجبهة موحدة، إلا أن التقاطعات القائمة – بين الطلاب، النساء، العمال، المزارعين، الداليت، والأقليات – تشي بطاقة كامنة لتحول عضوي في بنية النضال التحرري.
7. من يراقب الهند؟ ومن يعيد تعريف الممكن؟
بينما يُعاد إنتاج السلطة في الهند – دولة بحجم قارة – من خلال بنيات نيوليبرالية متناقضة ومموهة بالقومية الهندوسية، تتبلور في المقابل ديناميات مقاومة مجتمعية متعددة تعيد طرح سؤال العدالة من منظور جديد. هذه اللحظة لا تخص الهند وحدها، بل تشكل اختباراً لليسار العالمي: هل يرى في الهند حليفاً تحررياً محتملاً ضد الامبريالية، أم كوكيل نيوليبرالي جديد في آسيا؟ من هنا، تُطرح أسئلة مهمة: كيف يُبنى التضامن؟ وعلى أي أسس؟ مبدئية أم على اصطفافات جيوسياسية عابرة؟ وهل يُمكن تفكيك الاستشراق السياسي الذي يجمّل السلطوية بدعوى السيادة؟ فالهند تقف اليوم في صلب معركة سردية عالمية حول المعنى والعدالة. ربما تكون هذه اللحظة، بكل تناقضاتها، لحظة نادرة يُعاد فيها طرح السؤال الجوهري: "هل تكون هذه التحركات الجنينية بداية ولادة لكتلة تاريخية جديدة بوصفها أفقاً مغلقاً على التحرر، وتمتلك الشروط المادية والرمزية للصمود والتوسع، لتفكيك البنى العميقة التي رسّخت شكل الدولة الهندية الحالي، أم أنها لحظة مؤقتة في مسار احتواء طويل الأمد؟ وما الذي يجعل من التحرر والتغيير فعلًا ممكناً، لا مجرد رد فعل؟" هذه ليست مجرد احتجاجات، بل محاولات لإعادة تخيّل الهند من جديد: أكثر عدلاً، أكثر تعددية، وأكثر مقاومة لسلطة الدولة–السوق–الطائفة. والسؤال لم يعد "ما العمل؟" بل "ما الذي لا يمكن التنازل عنه؟".
ربما لا نملك إجابات جاهزة، لكننا نملك سؤالاً ملحّاً: إذا لم نرَ في ما يحدث في الهند ملامح الممكن، فمتى نراه؟ هذه ليست نهاية تحليل، بل بداية أسئلة. وهذا ما يجعل من تحرر الهند اليوم، شأناً أممياً بامتياز. من الهند تبدأ الأسئلة، وربما منها يأتي الجواب.
24/8/2025
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرجل الذي حمل التنوير ومضى: رفيقنا الكاملُ بنُبله .. سبعة ع
...
-
صوتٌ لا يُقمع: تسعون عاماً من نضال الصحافة الشيوعية العراقية
...
-
ثورة 14 تموز: ما زال وهجُها يَفضحُ التبعية
-
أين اليسار الأممي: الإمبريالية الإمريكية المأزومة خارجياً، ت
...
-
شرقٌ بلا ردع: كيف تُخاض الحرب الإمبريالية على الشعوب بإسم ال
...
-
في زمن الارتباك: لا حياد مع جرائم الصهيو-امبريالية
-
الحركة الإحتجاجية رحم التغيير المنشود
-
ساحة التحرير .. و للحلم بقية ...
-
القوى المدنية الديمقراطية و إعادة إنتاج عناصر التغيير
-
الشيوعيون العراقيون .. و صراع مبادئ لن ينتهي ...
-
على طاري المعارض و كلب الوزير
-
وطني .. طوفان الدم ...
-
الكورد ليسوا مسؤولين عن مقتل البديوي يا دعاة الفتنة و حملة ا
...
-
يا بحري اللافاني
-
شغف عالي
-
نعيب زماننا و العيب فينا .. زيارة أوغلو مثالا ...
-
يا رجائي العظيم ...
-
هوية الأمة العراقية بين الريف و الحضر
-
الأمة العراقية .. صفة وجودها و إستنهاضها ...
-
مساومات سياسية رخيصة
المزيد.....
-
في الذكرى الثامنة لنزوحهم.. عشرات الآلاف من الروهينغا يتجمعو
...
-
اجتماع استثنائي لمنظمة التعاون الإسلامي بشأن غزة ومندوب فلسط
...
-
إدارة ترامب تنفتح على المجالس العسكرية بغرب إفريقيا..ماذا ور
...
-
ألعاب فيديو لا تُكرر.. الذكاء الاصطناعي في قلب مغامرة -غيمزك
...
-
جرافات الجيش الإسرائيلي تقتلع آلاف أشجار الزيتون الفلسطينية
...
-
-فلسطين حرة، حرة-.. فرقة -نيكاب- الإيرلندية تحيي حفلا قرب با
...
-
ترامب يلوح بنشر الحرس الوطني في معقل آخر للديمقراطيين بالولا
...
-
مكتب نتنياهو: إسرائيل مستعدة لدعم لبنان في جهوده لنزع سلاح ح
...
-
على خلفية مشروع الموازنة.. مواجهة -ساخنة- بانتظار الحكومة ال
...
-
مهرجان البندقية في نسخته الـ82... تألق فني مرتقب وقضايا سياس
...
المزيد.....
-
اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات
/ رشيد غويلب
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
المزيد.....
|