|
رؤية ليسارٍ معاصر: في سُبل استنهاض اليسار العراقي
رشيد غويلب
الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 21:44
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في الثامن من آب 2025، أطلقت مجموعة الدراسات والبحوث التابعة لمجلة الثقافة الجديدة العراقية، مبادرةً لمناقشة أسئلة معاصرة بشأن اليسار عمومًا، ومشتركات وآفاق اليسار العراقي. طُرحت في الفعالية ملخصات لعدد من الأوراق، وهي جزء من عدد أكبر وصل إلى المجموعة المنظمة. ودُعي طيفٌ واسع من الباحثين والكُتّاب والمهتمين والمتابعين للاشتراك في حوارٍ حضوري، غاب عنه العديد من المعنيين المقيمين أو المتواجدين خارج العراق لأسباب فنية. هذه المساهمة لا تهدف إلى عرض مجريات الفعالية، التي سينشر تقريرٌ وافٍ عنها، بل ترمي إلى طرح رؤيةٍ متواضعة لجوانب من الملف الواسع قيد النقاش.
شيء عن الورقة
إن طرح ورقةٍ للنقاش خطوةٌ في الاتجاه الصحيح. وهي صادرة عن مجموعة عمل، وبالتالي قد تشكل مساهمةً أساسية، ولكنها ليست بديلاً عن جهدٍ جماعي لاستنهاض قوى اليسار المجتمعي في العراق، الذي أنهكه الخراب المستمر، على الأقل منذ خمسين عامًا.
لا أعتقد أن مهمة الورقة هي "تجديد المشروع الماركسي"، لأن الماركسية منهجٌ للتحليل ورؤيةٌ للعالم. وتذهب الورقة إلى القول: "لا يكتفي بالمراجعة، بل ينخرط في مساءلة الواقع بأدوات تحليلية وتجريبية"، وهذا صحيح، لكنها تعود للتساؤل: "فالسؤال لم يعد: كيف نحافظ على ما تبقى؟ بل: كيف نعيد التأسيس على أسس أكثر تماسكًا واتصالًا بالناس وبالزمن". يبدو التساؤل غير واضح، سواء كنا بصدد المشروع الماركسي أو مشروع اليسار عمومًا، فكلاهما لم يُفقد جلّه، ولا يحتاج إلى إعادة تأسيس، بل المطلوب هو الإسهام في إغناء وتطوير الماركسية، ومراجعة وتقييم التجربة اليسارية عالميًا وعراقيًا.
ثم تطرح الورقة جملة من الأسئلة الجوهرية، التي كان الجانب النظري منها مادةً للنقاش الواسع، منذ انهيار تجربة الاشتراكية الفعلية في الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية السابقة. وقد تراكم كمٌّ هائل من المعرفة النظرية والبرامج السياسية في سياق عمليات المراجعة والتجديد، التي ظل اليسار العراقي، في الجوهر بعيدًا عن معظمها. ولهذا، فإن الجهد المستقبلي لعمل المجموعة أو الحوار المرجو داخل أوساط اليسار العراقي، منظمات وأفرادًا، يجب أن يركّز على مراجعة التجربة التاريخية لليسار، في ضوء المتحقق عالميًا، فضلًا عن متابعة المستجدات.
وقد أشارت الورقة بشكل سريع إلى ضرورة المراجعة والتجديد في محورها "نحو مشروع فكري ونضالي مشترك"، لكنها تحدثت عن "يسار جديد"، وهذا التوصيف استُخدم في ستينيات القرن العشرين في فرنسا، ارتباطًا بالانتفاضة الطلابية حينذاك. وكان أصحابه يريدون التميّز عن اليسار السائد آنذاك، الذي كانت الأحزاب الشيوعية الحاكمة وغير الحاكمة جزءًا محوريًا فيه. لكن استخدام هذا التوصيف بعد عام 1990 اكتسب بُعدًا آخر، يرمي إلى تجاوز التجربة التاريخية لليسار. بينما أرى أن المشروع اليساري التاريخي، في اتجاهاته العامة، كُلٌّ لا يتجزأ، عالميًا وإقليميًا وعراقيًا. لذلك، أن استخدام توصيف "يسار جديد" غير دقيق، ومن الأنسب الحديث عن "يسار كلاسيكي" وآخر معاصر (متجدد)، لأن التيارات الفكرية والسياسية من هذا النوع يصعب أن تكون مقطوعة الجذور.
موقف اليسار من العملية السياسية
تناولت الورقة أيضًا موقف اليسار من "العملية السياسية" التي أعقبت غزو العراق وإسقاط الدكتاتورية. ورغم أن التعامل هنا طغى عليه الطابع السياسي، إلا أنه ينطوي على موقف فكري يتطلب نقاشًا عميقًا وموضوعيًا. ووفق تصوري المتواضع، فإن قوى اليسار، المنقسمة بين الاشتراك في العملية السياسية أو رفضها، لم تنجح في التحول إلى قوة مؤثرة في تحديد شكل واتجاهات الصراع. لكن هذا لا يعني أنها كانت غائبة. بل كانت، في لحظات تاريخية معينة، تمتلك فرصة لتعزيز موقعها، خصوصًا أثناء احتجاجات 25 شباط 2011، والسنوات القليلة التي تلتها. لكن الفرصة ضاعت، بين تشدد البعض، وسعي البعض الآخر لتحقيق نتائج سريعة، أو التوجه نحو حركة احتجاجية أوسع جاءت على حساب خلق التراكم المطلوب.
مما كشف عن خطأ التمسك بتكتيكات تقليدية ومكرّرة لإنجاز مهام غير تقليدية، بعضها لا سابق لليسار بها، وتفتقد لتعليل فكري نابع من قراءة جديدة للواقع المتغير.
كان بإمكان اليسار أن يختطّ لنفسه خيارًا ثالثًا، بين العملية السياسية التي حدّد الأمريكيون اتجاهاتها الرئيسة، وبين قوى الإرهاب المتحالفة مع القاعدة الاجتماعية للنظام المنهار. ولكن يبدو أن هذا التصور بدا في حينها صعبًا، بسبب تشتّت اليسار الذي عاش قرابة ثلاثة عقود تحت قمع منظَّم، وضياع البوصلة بين التطرّف، الذي لم يكن بعيدًا عن العجز، والاعتدال الساعي إلى تحجيم الخسائر المتوقعة.
أما بخصوص مفهوم اليسار، فسيجد القارئ أدناه محاولة متواضعة لتناول هذا المفهوم وراهنيته.
مفهوم اليسار وراهنيته
بشكل عام، اليسار يعني تبني رؤية إنسانية وتقدمية للتغير بشكل عام، اليسار يعني التغيير، عبر تبني رؤية إنسانية وتقدمية، جوهرها الحرية والعدالة. وعلى النقيض منه، يُعبّر اليمين عن روح محافظة، فاليسار عنوان للتقدمية، بينما اليمين هو الرجعية. اليسار يعني الثورة بأشكالها وأدواتها المختلفة، في حين يمثّل اليمين حصن الثورة المضادة. ولهذا، فاليمين مرادف للرأسمالية، واليسار مرادف للاشتراكية كنظام بديل (في العصر الراهن، فقد كان هناك يسار ويمين في مراحل التطور الاجتماعي السابقة).
اليسار مفهوم نسبي، يختلف من قارة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، ووفق حاجات الصراع، وتوازن القوى، والتجربة التاريخية، وطبيعة البنية الثقافية في البلد المعين. لذا، فحدود التوصيف في الولايات المتحدة تختلف عنها في أوروبا أو أمريكا اللاتينية.
أما في العراق والبلدان العربية، فإن تجربة قوى اليسار فيها متأثرة بأوروبا، الموطن الأول لليسار المعاصر. ولا تزال تأثيرات النموذج السوفيتي بنسخته الستالينية تشكّل، إلى جانب الظروف الموضوعية الصعبة، عائقًا أمام نهوضه. وعلى صعيد الممارسة، وبغض النظر عن خلفياتها التاريخية، والرموز والسرديات التي تتبناها، فإن بعض قوى اليسار العراقي أشد مركزية وهرمية من النموذج الستاليني في "عصره الذهبي".
بالنسبة لي، وعلى الصعيد المنهجي، أرى أن اليسار مضادٌ للرأسمالية، ويناضل من أجل بديلٍ جوهره العدالة الاجتماعية الجذرية، وإعادة توزيع الثروة لصالح الأغلبية. هذا البديل هو الاشتراكية. وينبغي أن يكون علميًّا، أمميًّا، تضامنيًّا، تحرّريًا في موقفه من حقوق المرأة، وفي رؤيته للعلاقات الاجتماعية وخصوصيات الأفراد.
عراقيًا، وعلى هذا الأساس، تتسع دائرة القوى والأفراد الذين يمكن أن يشاركوا في نشاط اليسار دون أن يكونوا جزءًا منه، ارتباطًا بالمهام الآنية الملقاة على عاتق اليسار، في سعيه لإنهاء حالة الخراب العميقة والمتعددة الأوجه، التي تنخر البلاد ونظام الدولة الفاشلة السائد فيه.
مع تصاعد اليمين المتطرف وتراجع نموذج الليبرالية الجديدة، وعودة حروب الهيمنة لتقاسم مناطق النفوذ، وتراجع العديد من المجتمعات، خصوصًا في البلاد العربية والعديد من بلدان الجنوب، إلى أشكال ما قبل الدولة، فإن كل المضامين التي ارتبطت بصعود اليسار تكتسب راهنية استثنائية.
ويجمع باحثو الماركسية وعموم اليسار على أن الرأسمالية لا تحل، ولن تحل، بأي شكل من الأشكال، مشاكل البشرية الحالية أو المستقبلية، رغم إمكانياتها على التكيّف وتجاوز الأزمات. وبالمقابل، ليس هناك بديل جذري مناهض للإمبريالية خارج منهجية اليسار التحررية.
إن واقع الخراب المجتمعي الذي يعيشه العراق يستدعي وجود يسار حيوي ومؤثر، لمواجهة مشاريع تفتيت الدولة الوطنية، والتيارات الطائفية والقومية التي تعمل على تأبيد نموذج دولة المكونات والمحاصصة والفساد. ويكتسب الدور التنويري لليسار أهمية تتجاوز عقود نشأته وصعوده الأولى في العراق.
اليسار العراقي: الإشكاليات، التحديات، والآفاق
لا يوجد في العراق الراهن تيار فكري سياسي متعدد الأطياف يدعو إلى دولة عصرية، يمتاز بالتقارب والوضوح والعمل المشترك، واليسار ليس استثناءً من هذه الحالة.
لقد اتّسمت تجربة اليسار المعاصر في العراق بضعف التعددية التي عرفها اليسار الأوروبي مثلاً؛ فهذه التعددية كانت محدودة الحضور لأسباب عديدة، لعلّ من أهمها القمع الذي واجهت به السلطات المتعاقبة المشروع اليساري منذ تأسيس الدولة العراقية. وعلى هذا الأساس، غابت التحالفات اليسارية في تاريخ هذه الدولة، لتحلّ محلها تحالفات وطنية ديمقراطية. وكذلك الهيمنة التي امتازت بعدائية تجاه رؤية وموقف المختلف الاخر وشوهته.
إن أي جهد جماعي لاستنهاض اليسار العراقي يجب أن ينطلق من وحدة مشروع اليسار، على أن لا يُلغي هذا التوجه حقيقة التنوع والتباين داخل معسكره. فالمشتركات هي المدخل للتعامل بين قواه، أفرادًا وجماعات، مع بعضهم البعض، ليس من منطلق القبول الكلي أو الرفض الكلي؛ فهكذا منطق يجعل أي تعاون بين أطراف اليسار عملية مؤجلة إلى إشعار آخر.
والرؤية النقدية لمشاريع التغيير ضرورة لاستمرارها وتجددها، على أن تبتعد هذه الرؤية عن الاتهام، وأحيانًا التخوين، وكأن استمرار نشاط هذه المجموعة مرهون بالتقاطع مع الآخر، ووضعه في خانة العدو، وتحميله الفشل في تقارب ألوان الطيف اليساري. ان من أكبر عيوب اليسار رفض الآخر، وعدم إتقان فنّ سماع المختلف، والتكرار الشكلي لأهمية النقد، الذي يُعامَل بروح اقصائية طاردة لدى البعض.
إذا كان أحد أهم دروس تراجع اليسار عالميًا هو الانفتاح على الشركاء ضمن المشروع الواحد، فإن قوى اليسار ومناصريه بحاجة أكبر إلى هذا الانفتاح، لتجاوز التعصّب، والمناقشات والمعارك الداخلية، التي يكون خاسرها الأول هو ما يسعى اليسار إلى تحقيقه. إن الانشغال بالذات يُغيّب طاقات وإمكانيات ضرورية للتعامل مع أسئلة الواقع، وبالتالي يُؤجّل الوصول إلى الأهداف الآنية، التي تُمثّل، في الحالة العراقية، منطلقًا لا يمكن بدون تحقيقه الحديث عن أهداف اليسار الكبرى. وهذا السلوك يتعارض مع جوهر الماركسية؛ فكيف ترفض قوى تُريد تغيير الواقع، عملية التغيير الموضوعية داخلها؟
وأكثر من ذلك، فاليسار مدعوٌّ لمغادرة مساحات التبرير والحضور الشكلي، واعتماد أدواته المعروفة عالميًا، ورؤية ومنهج علميَّين، لدراسة الخراب الاجتماعي القائم، وسيادة التخلف، بترابط بين الفترات المختلفة، وكذلك قراءة الأحداث اليومية المتسارعة، وعدم الانجرار إلى التفسيرات السطحية التبسيطية القائمة على التجييش الطائفي، والمقارنات الساذجة من جانب، أو الهروب إلى الجُمل الثورية والشعارات البعيدة عن الواقع من جانب آخر.
من الضروري وضع التثقيف في المقدمة، وهو يشمل كل الفاعلين. ويجب أن يكون تثقيفًا مبدعًا في جميع جوانبه، في مضمونه وفي الشكل الذي يُقدَّم به. وللأسف، فإن التثقيف السياسي، في كثير من الأحيان، لا يتعدى تكرار البديهيات، وبأسلوب لغوي قديم، وكأن شيئًا لم يتغير في العالم. والتحدّي هنا هو: قدرة اليسار على أن يكون خلاقًا مرة أخرى. فهو بحاجة إلى معرفة ذاته بشكل أعمق، وتعزيز وعيه، على أساس الالتقاء اليومي لروح النضال الثوري مع الحياة اليومية للمجتمع.
ولهذا، فليس أمامه خيار سوى مغادرة أخطاء الذهنية السابقة؛ وإذا كان الإبداع يعني دائمًا القطيعة مع أخطاء الماضي، فإنه يعني الاستمرارية أيضًا.
بين الفكري والسياسي: نحو تكامل لا تناقض
توقّف العديد من المشاركين في الندوة المشار إليها عند ما يبدو تعارضًا بين الجهد الفكري النظري والسياسي العملي، أو بين البحث الأكاديمي والنشاط التنظيمي. لكن من الضروري التأكيد على أهمية التكامل بين الأكاديميين اليساريين وباحثيهم من جهة، وبين النشطاء والمناضلين من جهة أخرى. فالباحث أو الأكاديمي اليساري بحاجة إلى حاضنة اجتماعية وجماهيرية خارج أسوار الجامعات ومعاهد البحث، ليُثمِر جهده النظري فائدة علمية تُترجم إلى فعل ملموس في سياق الصراع الاجتماعي.
وبالمقابل، فإن قوى اليسار في العراق بحاجة إلى هذا التكامل من أجل النهوض بمهمة التنوير، التي تحتل الأولوية في المعركة على تشكيل الوعي في البلاد. ومعركة التنوير اليوم أصعب بكثير مما كانت عليه في عقود صعود اليسار وعصره الذهبي؛ فحينها تعامل اليسار مع مجتمعٍ بكْرٍ، مستعدٍ لتقبّل الجديد. أما اليوم، فالمعركة تدور حول إزالة تراكمات الديكتاتورية والحروب والحصار، وعقدين من السياسات الطائفية التي راكمت التخلف، وتعمل على تأبيده عبر نشر وعي زائف وتقديسه. وفي هذا السياق على اليسار ان يستفاد من تجربته السابقة بشأن حرية المفكر او المبدع اليساري، وضرورة تحريره من قيود الانضباط التنظيمي، ومنحه مساحة الحرية الكافية لتقديم نتاج مثمر، ان التجربة الراهنة لقوى اليسار الديمقراطي في أوربا وامريكا اللاتينية والشمالية، تؤشر اعتماد هذه القوى على اشكال ومستويات متنوعة للعلاقة مع المفكرين والمبدعين بما في ذلك احترام خيار وسط منهم البقاء خارج اطر التنظيم.
الفكر والممارسة: وحدة عضوية لا يمكن تجاهلها
إن الربط بين الفكر والممارسة هو عنصر أساسي في العلم، وبالتالي، يجب أن يكون الفكر اليساري مصحوبًا بالنشاط. فـ"يسارٌ يفكر فقط"، يحدد المواقف والحجج، ولا يمارس فعلًا سياسيًا عمليًا، ولا يتجشّم المخاطر، ولا ينخرط في الصراع المجتمعي المباشر، سيصبح، في الواقع، معزولًا ومفتقرًا إلى الفهم العملي. وما عدا ذلك، فسيكون ضئيل الأثر أو عديم الفائدة للمجتمع، ويساهم، عن غير قصد، في تسريع عملية تهميشه، وهي العملية التي يعمل خصومه ومنافسوه على تغذيتها.
وقد أشارت مداخلة لأحد الشباب المشاركين في الندوة إلى ضرورة استعادة الروح النضالية التي عُرف بها اليسار العراقي في محطاته التاريخية الكبرى.
تجديد الفكر وتجديد السلوك
إن الربط بين الفكر والممارسة يشمل كذلك وحدة السلوك والممارسة؛ أي يجب أن يتوافق السلوك اليومي للناشط اليساري مع ما يُفكر به. هذا يعني أن بناء عالم جديد يبدأ منّا، في تعامل كل فرد ضمن هذه الحركة، وفي بناء نوع جديد من العلاقات داخل اليسار نفسه، يقوم على أخلاقيات جديدة، وممارسة مختلفة.
إن تجديد الفكر يستلزم بالضرورة تجديدًا للسلوك، على الصعيدين الفردي والمجتمعي. وفي هذا السياق، من الضروري تحصين مناضلات ومناضلي اليسار من آثار الخراب المجتمعي العميق السائد، عبر مكافحة النفعية بكل أشكالها، وكذلك دحض الدعوات لـ"تفهم" سلوكيات الفساد المالي والإداري، أو تبريرها بأي شكل.
فكلنا يعلم أن السلوك الشخصي للناشط اليساري هو أحد عوامل النجاح في الاقتراب من الناس وتعبئتهم، وهو جزء لا يتجزأ من مصداقية المشروع اليساري نفسه.
الشباب والخبرة: تكامل لا إقصاء
لا شك أن النهوض بمشروع اليسار يحتاج إلى دماء الشباب، وقدراتهم الذهنية والجسدية. لكن من المطبّات التي يعاني منها اليسار العراقي اليوم، اعتماد معيار السنّ كأداة أساسية للتجديد. إن ما يحتاجه اليسار، في الحقيقة، هو التكامل بين حيوية الشباب وخبرة المناضلين المتراكمة، خصوصًا في بلدٍ مثل العراق، عاش عقودًا من الاستبداد، أدت إلى قطيعة حقيقية مع متابعة التطورات الفكرية والسياسية العالمية.
إن الاعتماد الحصري على جيل شاب، دون امتلاك هذا الجيل للمنهج المعرفي، وفهم التجربة التاريخية لحركة اليسار، يُحوّل عملية التغيير إلى عملية قيصرية، قد تنعكس سلبًا على حاضر اليسار ومستقبله.
فهناك فارق كبير بين بلد مثل العراق، يعاني من التخلف وسيادة قوى سلطوية استبدادية، وبين تجارب قوى اليسار في أميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة، حيث تتقدّم شبيبة مناضلات ومثقفات نسويات إلى المواقع القيادية في الأحزاب والحركات والبرلمانات، لكنهن يمتلكن أدوات الفكر، ويستوعبن تطورات الثقافة والسياسة عالمياً. في حين، للأسف، لم تُتَح فرصة مماثلة للشباب والنساء في اليسار العراقي، بسبب تركة الاستبداد، وتحديات الواقع المحلي.
الموضوعية لا تعني الاستسلام
ما تم ذكره لا يعني تجاهل الظروف الموضوعية التي عمل فيها اليسار العراقي تحت وطأتها القاسية. فقد كانت هذه الظروف، في معظم فترات التاريخ المعاصر، ليست لصالحه؛ فلم تكن هناك نقطة شروع عادلة في صراعه مع السلطات الاستبدادية أو القوى المجتمعية المحافظة والمعادية. لقد هيمن هؤلاء على السلطة والمال والإعلام والمؤسسات الثقافية، وتلقّوا دعمًا إقليميًا ودوليًا غير محدود.
واليوم، أصبحت الظروف الموضوعية أكثر صعوبة، لكن يجب أن لا تتحوّل هذه التحديات إلى شماعة تُعلَّق عليها أسباب التراجع، أو تتحوّل إلى تبرير دائم للفشل.
من المعروف أن تغيير هذه الظروف لصالح مشروع اليسار لا يرتبط بالرغبة وحدها، ولا يمكن أن يُفرَض بقرار من اليسار. إن ما يستطيع اليسار فعله والتأثير فيه هو أداؤه الذاتي، ومدى صدقه ومصداقيته ومثابرته على تقديم مشروع بديل.
لا للسوداوية... نعم للتجارب المُلهمة
لاحظتُ، في وسائل التواصل الاجتماعي، تصاعد نظرة سوداوية حول دور اليسار ومستقبله، لا سيما في العراق. نعم، هناك تراجع عالمي لليسار، ولكن هناك أيضًا نجاحات ملموسة لا يمكن إنكارها، وتمثل إشارات مهمة على إمكانية النهوض، رغم العقبات.
يمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى:
نجاحات تحالفات اليسار في أميركا اللاتينية. تجربة حزب العمل البلجيكي. عودة اليسار في الانتخابات الأوروبية، لا سيما في شمال أوروبا. صعود غير متوقع لحزب اليسار الألماني في انتخابات شباط 2025 البرلمانية المبكرة. التجربة الواعدة لـ الحزب الشيوعي النمساوي. هذه النجاحات لم تأتِ من فراغ، بل جاءت على أرضية مراجعة تفصيلية شملت السياسة، والفكر، والهياكل التنظيمية، ووسائل التعبئة. كما قامت على المشاركة الواسعة، وتعزيز الديمقراطية والشفافية.
التجارب الناجحة... تُدرَس لا تُستنسَخ
إن الاهتمام بتجارب اليسار الناجحة لا يجب أن يكون بهدف استنساخها، بل من أجل الاستفادة من اتجاهاتها العامة ودروسها المستخلصة. فالتجارب تُدرَس ولا تُستنسَخ، وهذا ما تعلمنا إياه تجربة الحركة العمالية العالمية. فالاستنساخ الميكانيكي، وتجاهل الفروقات الموضوعية بين بيئات العمل وإمكانات الأحزاب وساحات نضالها المختلفة، يؤدي حتمًا إلى الفشل، أو على الأقل إلى تحجيم أي نجاح محتمل.
بالمقابل، يجري تفريغ هذه الفكرة أحيانًا من محتواها، لتبرير الانغلاق والعزلة التي تعاني منها بعض الأحزاب اليسارية، مما يؤدي إلى المراوحة في المكان، ثم إلى التهميش.
لكن، في الوقت نفسه، فإن المعركة المشتركة التي يخوضها اليسار العالمي ضد المراكز الرأسمالية العالمية، والأنظمة التابعة لها في الأطراف، تُؤكّد وحدة مشروع اليسار العالمي في الإطار العام، وتجعل من الطبيعي تبادل الدروس والخبرات بين تجاربه المختلفة بروح تضامنية.
فالنجاح في بلد ما هو حافز ومثال، ويُثبت للآخرين أن النهوض والانتصار ممكنان، مهما بدت لوحة الصراع في العالم قاتمة وغير مشجعة.
أزمة الخطاب والتموضع: اليسار لا يجب أن يكون ظلًا للواقع
من بين الموضوعات المطروحة في سياق المراجعات الجارية لليسار في أوروبا، سؤال مهم: لماذا يعجز اليسار عن الاستفادة من أزمات الحكومات؟
أحد الأسباب الرئيسية هو أن اليسار يُنظر إليه أحيانًا كجزء من النظام السياسي القائم، وليس كقوة تغيير جذرية كما كان في عقود صعوده. إنه لم يعد القوة الأشد حسماً في صفوف المعارضة، ولم يعد قادرًا على استقطاب ناخبي الاحتجاج، الذين باتوا يتجهون أحيانًا نحو البدائل الخطأ: نحو قوى اليمين المتطرف في أوروبا، أو نحو قوى السلطة في بلداننا.
وهنا يجب التأكيد: لا ينبغي أن يُكيّف اليسار مواقفه مع ما هو سائد. لا استسلام للسائد، ولا رضوخ لروح العصر! مهما بدت التبريرات مغرية من الناحية الشكلية، ومهما توهّم البعض أن الانفتاح يعني تبنّي خطاب ليبرالي مُخفف.
اليسار لم يأتِ ليكون انعكاس للأغلبية السائدة، بل جاء ليغيرها. ولا يمكنه التنازل عن قناعاته فقط لأنها لا تحظى حاليًا بالأغلبية. ففكر اليسار قائم على تجاوز اللحظة، لا الرضوخ لها.
اليسار والناس
من الضروري أن يضع اليسار دائمًا حياة الناس اليومية في مركز اهتمامه وخطابه. لا يكفي أن يتحدث عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بصيغ مجردة، بل يجب عليه أن يُبرز أثر هذه الأزمات على التفاصيل الملموسة في حياة الناس، وأن يُعيد ربطها بجذورها الطبقية والاجتماعية، عبر تحليل واضح وبعيد عن العموميات.
كما يجب أن يكون اليسار قادرًا على طرح بدائل حقيقية، لا الاكتفاء بشعارات أو تصورات ضبابية. فالمعركة مع الوعي السائد لا تُحسم بالكلمات، بل بالاقتراب من معاناة الناس، وبناء الثقة من خلال مواقف عملية وميدانية واضحة.
"مظلّة شعبية" لا تعني جمهورًا عابرًا
تتحدث الورقة عن ضرورة بناء "مظلّة شعبية"، والمقصود هنا – على الأرجح – هو ضرورة أن يترسّخ اليسار في النقابات العمالية والحركات الاجتماعية، لا أن يكتفي بدور المراقب أو الداعم عن بُعد، بل أن يكون جزءًا أصيلًا منها.
يمتلك اليسار جناحين رئيسيين:
جناح سياسي: يمثّله الأحزاب والمنظمات اليسارية. جناح اجتماعي: يتمثل بالنقابات، والحركات الاجتماعية، والمبادرات الشعبية والوطنية والإقليمية والعالمية. وهذا الجناح الاجتماعي، في كثير من الأحيان، يكون أكثر قربًا من الناس، وأكثر تأثيرًا من الخطاب السياسي العام. لذا، فإن أي يسار يُريد أن يرى نفسه بديلًا حقيقيًا للأحزاب الأخرى، عليه أن يُثبت تمايزه عنها بوضوح، وخاصة في السياسات التي تمسّ حياة الناس، وفي التفاعل معهم. فبدون معارضة جذرية حاسمة، لن يكون هناك تقدم اجتماعي حقيقي. وتحديد موقع اليسار في الصراع الاجتماعي والسياسي، يجب أن يكون واضحًا وغير قابل للالتباس.
يجب أن يكون يسارًا مناضلًا من أجل المساواة والحرية، حاضرًا في كل الجبهات المؤثرة:
في سوق العمل، في السياسات الضريبية والدخل، في الحريات العامة وحقوق الإنسان، وفي الدفاع عن السيادة الوطنية الحقيقية. وقد أحسنت الورقة حين أشارت إلى ضرورة العودة إلى التحليل الاجتماعي – الأدق، التحليل الطبقي – وربط ذلك بالتحرر الوطني والاجتماعي في آنٍ معًا.
اليسار و"الشرق الأوسط الجديد": مشروع الهيمنة ومحو فلسطين
تطرقت الورقة إلى مسألة الموقف من مشروع "الشرق الأوسط الجديد". ومن الطبيعي أن يكون موقف اليسار منه رافضًا تمامًا، كونه مشروعًا إمبرياليًا يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق مصالح الرأسمال العالمي، وتكريس الهيمنة الأمريكية – الغربية، مع إعطاء دور مركزي لإسرائيل، بوصفها القاعدة المتقدمة للمشروع الإمبريالي في المنطقة.
هذا المشروع يستهدف تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، وإدماج إسرائيل في نسيج المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بما يضمن إخضاع الشعوب ونهب مواردها، وإدامة الصراعات الطائفية والإثنية.
حين يُعيق الشكلُ المضمونَ
إن تراجع اليسار، لا يعود إلى انحسار أهمية أفكاره أو ضعف تأثير قيمه، بل يرتبط – في كثير من الأحيان – بـتقادم أُطره التنظيمية، وعجزها عن التجديد، وعدم قدرتها على استيعاب قوى اجتماعية جديدة، خصوصًا الشباب والنساء، الذين يشكلون الأغلبية السكانية، ويعانون من التهميش المتواصل.
هذا تحدٍ كبير، وعلى اليسار أن يُطوّر آليات عمله الداخلية، أنظمته التنظيمية والديمقراطية، وسائل تعبوية جديدة تتناسب مع العصر، وقنوات فعل تسمح بمشاركة أوسع. فهناك آلاف ممن يؤمنون بقيم اليسار ويتفقون مع مشروعه العام، لكنهم لا يجدون أنفسهم في الأطر القائمة، بسبب غياب المرونة أو الديمقراطية أو حداثة الخطاب.
إن قوى اليسار في العراق، بحاجة إلى مراجعة فكرية، سياسية، وتنظيمية جذرية، تتجاوز الأساليب التقليدية المعروفة. مراجعة تقوم على المشاركة الواسعة، الشفافية، روح التضامن بدلًا من التنافس الداخلي، وعدم استخدامها كذريعة لتصفية حسابات داخل التنظيم الواحد أو بين أطراف اليسار المختلفة.
إن التمسك الذي يجمع بين الحنين والدوغمائية في ارتباطه ببعض التجارب النضالية السابقة، رغم رمزية شهدائها وأمجادها، لا يجب أن يتحول إلى عائق أمام البناء الجديد. فكثير من هذه التجارب انتهى إلى نهايات مأساوية، بسبب خلل فكري أو تنظيمي أو سياسي، وعلى اليسار أن يتعلم منها لا أن يكررها.
نحو يسار عراقي يستحق المستقبل
فلنمنح المشروع اليساري المشترك في العراق المستقبل الذي يستحقه، بشجاعة نقدية، ومثابرة، واعتراف بالأخطاء، بعيدًا عن تبريرها أو التهرب منها. وأن نتحلّى باستعداد دائم للتعلم والتجدد، باعتبار أن هذه هي الطريقة الوحيدة ليصبح اليسار أقوى، أعمق، وأكثر تأثيرًا في حياة الناس.
#رشيد_غويلب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رداً على عنف السلطة.. محتجو صربيا يدافعون عن أنفسهم
-
بعد عسكرة ترامب للعاصمة.. الشيوعي الأمريكي يحذر: {مدينتكم قد
...
-
بسبب صراعات اليسار الداخلية / بعد 19 عاماً.. هزيمة تاريخية ل
...
-
الشرق الأوسط الجديد وتصفية القضية الفلسطينية
-
أمن زائف وصفقات سرية.. الدكتاتورية في السلفادور تكشر عن أنيا
...
-
ماركس يرد على عنف اليمين الشعبوي
-
في الذكرى الـ80 لمأساة هيروشيما وناغازاكي يتزايد خطر الحرب ا
...
-
العقوبات الاقتصادية والجوع أشد فتكا من الحروب
-
قراءة اليسار الإسباني المتحد لراهن إسبانيا
-
حزبا اليسار الأوروبي: مسارات منفصلة واتجاه واحد
-
التشيك.. معاداة الشيوعية بداية للأستبداد
-
راهن الولايات المتحدة يذكر ببواكير العهد النازي!
-
أيدي قادة الاتحاد الأوربي ملطخة بدماء ضحايا الشعب الفلسطيني
-
كولومبيا.. مصادرة أصول شركة النفط البريطانية - الفرنسية لدعم
...
-
من أجل تعزيز دور اليسار.. مشروع حزب جديد في بريطانيا
-
قوى اليسار والاقتصاد المخطط
-
في الهند.. 250 مليون يُضربون ضد حكومة مودي العنصرية
-
التحول من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية
-
لماذا يثير مرشح نيويورك اليساري مخاوف وغضب اللوبي الصهيوني؟
-
الشيوعية جانيت جارا مرشحة تحالف اليسار التشيلي الحاكم لانتخا
...
المزيد.....
-
السيول تجتاح مدينة عدن اليمنية وتتسبب في كوارث إنسانية
-
-تمت السيطرة عليه سريعًا-.. حريق في فيلا محمد صبحي
-
قمة أوكرانيا: هل يمكن لأوروبا الاعتماد على الولايات المتحدة؟
...
-
خبير عسكري: تدمير غزة يتطلب أكثر من عام وسط تحديات إستراتيجي
...
-
الاحتلال يقتلع مئات أشجار الزيتون بالضفة ومئات يقتحمون الأقص
...
-
ساعر: على أوروبا أن تختار بين إسرائيل وحماس
-
كاتب بمعاريف: هذا هو المرض المزمن الذي يهدد إسرائيل
-
النرويج تدعو لبناء تحالفات قوية ضد إسرائيل وترفض تصريحات ساع
...
-
حقيقة فيديو بيان مشيخة عقل الدروز بعد -عزل حكمت الهجري-
-
شاطئ أبو تلات بالإسكندرية: كيف انتهت رحلة تدريب طلاب، بكارثة
...
المزيد.....
-
رؤية ليسارٍ معاصر: في سُبل استنهاض اليسار العراقي
/ رشيد غويلب
-
كتاب: الناصرية وكوخ القصب
/ احمد عبد الستار
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|