أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان محمد السعيد - عصر الكلاب















المزيد.....

عصر الكلاب


حنان محمد السعيد
كاتبة ومترجمة وأخصائية مختبرات وراثية

(Hanan Hikal)


الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 15:12
المحور: الادب والفن
    


في البدء، كانت الكلاب. لم تكن مجرد كائنات تابعة، بل جزءًا لا يتجزأ من النسيج الحيوي لكوكب الأرض. عاشت في تناغم مدهش مع الطبيعة، محكومة بغريزة البقاء والتوازن.
كانت أعدادها مناسبة، لا تزيد فتهدد الموارد، ولا تنقص فتختل السلسلة الغذائية. كانت الطبيعة، بقدراتها اللامحدودة، بمثابة الأم الحكيمة التي تضمن هذا التوازن. كانت الكلاب تفترس لتأكل وتنمو، وتفترسها كائنات أخرى لتبقى دورة الحياة مستمرة.
في هذا العصر الذهبي، كانت الكلاب تعرف مكانها، وكانت الطبيعة تحتضنها كأحد أبنائها. كانت الغابات موطنًا لها، والأنهار مصدرًا لحياتها، وكانت السماء سقفًا لأحلامها.
مع نشوء المدنية، بدأت علاقة جديدة تتشكل بين الكلاب والبشر. لم تعد العلاقة صراعًا للبقاء، بل أصبحت نوعًا من الاتفاق غير المكتوب بالتعايش. كان البشر يوسعون مدنهم وقراهم، والكلاب، التي كانت في السابق جزءًا من البرية، وجدت لنفسها دورًا جديدًا.
أصبحت الكلاب تحرس بيوت البشر وتطرد الآفات الصغيرة مثل الجرذان والأفاعي التي قد تهدد حياتهم. كما كانت تطارد الذئاب وغيرها من الحيوانات المفترسة بعيدًا عن المستوطنات البشرية، لتصبح بذلك حماة غير رسميين.
في المقابل، سمح لهم البشر بالعيش في محيطهم، وقدموا لهم بقايا من طعامهم أو ما تجود به عليهم نفوسهم، لتصبح هذه العلاقة رمزًا للتعايش بين عالمين مختلفين.
ومع مرور الزمن، بدأت خيوط هذا الاتفاق غير المكتوب بالتمزق. فمع تطور المدنية، اختفى الأعداء الطبيعيون للكلاب من المشهد، وتطورت وسائل الأمان لدى البشر. أصبحت الكلاب عبئًا في نظرهم بدلًا من كونها حامية. تحولت أعداد كبيرة منها إلى كلاب ضالة، تجوب الشوارع بحثًا عن أي شيء يسد جوعها.
لم تعد الطبيعة الأم تتحكم في أعدادها، ولا البشر يكترثون بذلك، فاستمرت في التكاثر بلا حساب حتى أصبحت أعدادها هائلة. يمكن رؤية مجموعات منها تجوب الشوارع ليلًا، تتعارك فيما بينها على مناطق النفوذ والسلطة. وفي أحيان كثيرة، لم يكن الأمر يخلو من هجماتها على البشر. فطفل يسير وحيدًا قد يتعرض للعقر، أو امرأة عائدة ليلًا من الخارج قد تجد نفسها محاصرة، مما يجبرهم على اللجوء إلى المستشفيات وأخذ جرعات السعار الموصوفة.
أصبح التعايش القديم ذكرى بعيدة، وبدأ عصر جديد من الصراع بين الكلاب والبشر يلوح في الأفق.
انتبه البشر أخيرًا إلى المشكلة. لم تعد حوادث العقر مجرد قصص فردية، بل أصبحت مادة للتداول على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتم تداول صور الكلاب الضالة في الشوارع، وأخبار العقر من حين لآخر.
بدأ الجدل يحتدم حول كيفية التعامل مع هذه الكائنات. انقسمت الآراء إلى معسكرين: الأول طالب بـقتل الكلاب، مُعتبرًا ذلك الحل الوحيد للقضاء على الخطر المتنامي. لكن هذا الرأي قوبل باعتراض شديد من مجموعة أخرى، خشية أن يؤدي ذلك إلى زيادة أعداد الأعداء الطبيعيين للبشر، مثل الذئاب والثعالب، الذين أصبحوا يخشون الكلاب ويظلون بعيدًا.
المعسكر الثاني رأى أن الأمر لا يستدعي كل هذا القلق، وأن الكلاب مثل البشر لها حق الحياة، ودعا إلى تركها على حالها. بعد نقاشات طويلة ومحتدمة، توصل البشر إلى حل وسط بدا عادلًا للجميع، وهو تعقيم الكلاب وتطعيمها. كان الهدف هو السيطرة على أعدادها المتزايدة، مع الحفاظ على حياتها، وفي نفس الوقت حماية البشر من الأمراض التي قد تنقلها.
توجه البشر بالحل الوسط إلى الجهات المختصة، التي رحبت بالفكرة كثيرًا. وفي كل بلاد العالم، أعلنت هذه الجهات عن شن حملات واسعة النطاق لـتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة.
كانت الحملات لا تعرف هوادة، وهدفها المعلن هو علاج مشكلة زيادة أعداد الكلاب والحفاظ على صحة الجميع. تناقل الناس صورًا وتسجيلات تؤكد قيام هذه الحملات، حيث تُظهر فرقًا من الأطباء البيطريين والمتطوعين وهم يمسكون بالكلاب الضالة ويعملون على تطعيمها وتعقيمها، في صورة تبدو للوهلة الأولى رمزًا للرحمة والتعايش الجديد.
على الرغم من كل الإعلانات الرسمية والصور المتداولة، ظل عدد الكلاب الضالة في تزايد، حتى إنه فاق عدد البشر أنفسهم. لم تكن الحكومات جادة حقًا في تنفيذ حملات التعقيم والتطعيم، بل كانت في أغلبها مجرد "شو إعلامي" لتهدئة الرأي العام الغاضب. وحتى عندما قامت بعض الجهات بحملات جادة، كانت الأدوية المستخدمة إما مغشوشة أو منتهية الصلاحية، مما جعل كل الجهود تذهب سُدى.
وفي ظل هذا الفشل، ظهرت جماعات سرية من كارهي البشر، وجدت في هذا الكائن البسيط أداة مثالية لتحقيق أهدافها الشريرة. لقد اكتشفوا أن الكلاب يمكن التحكم بها عن بعد من خلال الموجات الفوق مغناطيسية. تحولت الكلاب من مجرد كائنات ضالة تبحث عن الطعام إلى جيش سري، يُوجَّه عن بعد، لتبدأ مرحلة جديدة وأكثر خطورة في تاريخ العلاقة بين الكلاب والبشر.
لم يفطن البشر إلى أن مؤامرة تُحاك في الظلام. كل من تحدث عن سلوكيات غريبة للكلاب الضالة ووصفها بالهجمات المنظمة، قوبل بالاستهزاء والإنكار. لقد وُصفوا بالجنون أو بالخوف المبالغ فيه. حتى جاءت "ساعة الصفر".
في ليلة واحدة، هاجمت الكلاب البشر بشكل لم يسبق له مثيل. لم تكن هجمات عشوائية، بل كانت منظمة وموجهة. انقضّت المجموعات على المدن والقرى، مُنهيةً الوجود البشري على الكوكب في وقت قصير. لم تنجُ إلا القلة القليلة.
وبعد أن أتمّت الكلاب مهمتها، انتقلت إلى الهدف التالي: أولئك الذين ظنوا أنهم يتحكمون بها من خلال الموجات الفوق مغناطيسية. لقد قضت عليهم هم أيضًا، مُعلنةً بذلك تحررها الكامل.
وهكذا، انتهى عصر البشر وبدأ عصر الكلاب. أصبح الكوكب تحت سيطرة هذه الكائنات التي، بعد أن كانت جزءًا من الطبيعة، ثم حامية للبشر، ثم ضالة، أصبحت أخيرًا سيدة العالم.
في البدء كانت الكلاب، عاشت في تناغم مع الطبيعة. ثم جاء البشر، فأفسدوا ذلك التوازن. واليوم، وبعد أن عادت الكلاب للسيطرة على الكوكب، لم تكرر أخطاء البشر. لقد عادت إلى الطبيعة الأم، واستعادت غريزة التوازن التي كانت لديها. أصبحت المدن المهجورة موطنًا جديدًا لها، ولكنها لم تعد تبني أسوارًا أو تسن قوانين. لقد عادت إلى التناغم، وأصبحت جزءًا من الطبيعة مرة أخرى، مُعلنةً بداية عصر جديد من السلام، حيث الكوكب يعيش مرة أخرى في سلام مع نفسه.



#حنان_محمد_السعيد (هاشتاغ)       Hanan_Hikal#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فارس من هذا الزمان
- حكاية ليلى
- دولة سارّاس
- عيد ميلاد الكونت دراكولا
- دكاكين ابليس
- القفص اللامرئي
- مشروع ما بعد الانسان: تعديل الجينات وزرع الغرسات الالكترونية
- حال المرأة في اليوم العالمي للمرأة
- كيف تحمين نفسك في وسط مجتمع يفتقر للشهامة؟
- الهستريا وبضع الفص .. أساليب قديمة ووسائل حديثة
- حيل الشخصية النرجسية للتهرب من المسؤولية
- إنهم يمتنون عليك بالأخذ
- بين مفهوم الستر ومفهوم التستر
- شنق الضحية وسياسة لوم الطرف الأضعف
- تحوّل من جاني إلى ضحية في ثلاث خطوات بتقنية DARVO
- القيم -المهزوزة-
- حلاق النزاهة ولانجيري الشفافية
- هل أنتِ ضحية للتلاعب العقلي Gaslighting؟
- مدرسة المخابرات الألمانية في التجسس على الشعوب
- البحث عن الرجولة المفقودة


المزيد.....




- فيلم -صائدو شياطين الكيبوب- يحقق نجاحًا باهرًا.. ما سرّه؟
- موسيقى -تشيمورينغا-.. أنغام الثورة في زيمبابوي
- قائد الثورة الإسلامية يعزي برحيل الفنان محمود فرشجيان
- -عندما يثور البسطاء-: قراءة أنثروبولوجية تكسر احتكار السياسة ...
- مدن على الشاشة.. كيف غيّرت السينما صورة أماكن لم نزرها؟
- السعودية.. إضاءة -برج المملكة- باسم فيلم -درويش-
- -الدرازة- المغربية.. حياكة تقليدية تصارع لمواكبة العصر
- بيت جميل للفنون التراثية: حين يعود التراث ليصنع المستقبل
- هرر.. مجَلِّد الكتب الإثيوبي الذي يربط أهل مدينة المخطوطات ب ...
- هرر.. مجَلِّد الكتب الإثيوبي الذي يربط أهل مدينة المخطوطات ب ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان محمد السعيد - عصر الكلاب