|
قمة ألاسكا وتحوّلات الخطاب الروسي: قراءة في ثلاثة مقالات لألكسندر دوغين
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 13:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي
19 أغسطس 2025
مقدّمة
تعكس كتابات الفيلسوف والمفكر السياسي الروسي ألكسندر دوغين مزاج النخبة الأيديولوجية في موسكو والتحوّلات في الخطاب الإستراتيجي الروسي تجاه الحرب في أوكرانيا والعلاقة مع الغرب. في هذه الدراسة، نعتمد على ثلاثة نصوص نشرها دوغين على فترات متقاربة (10 – 11 – 16 أغسطس 2025)، قُبيل إنعقاد القمة بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أنكوراج بألاسكا، ثم بعد إنتهائها مباشرة.
المقالات الثلاث هي:
مقال 10 أغسطس 2025 بموقع DISCRED.RU بعنوان: "لا يستحق الأمر السفر إلى ألاسكا إلا إذا كان النصر ساطعًا هناك."
مقال 11 أغسطس 2025 بصيغة منشور مطوّل في قناة تيليغرام وموقع تساريغراد بعنوان: لم نخسر الحرب بعد. اقترح دوغين حلاً غير عادي لأهداف الحرب.
مقال 16 أغسطس 2025 في موقع تساريغراد تحت عنوان: «اللقاء كان رائعا».
يتكامل مضمون هذه النصوص ليشكل ثلاث مراحل خطابية: الدعوة للتصعيد الحاسم، التوسع في نقد التباطؤ التاريخي وربط ذلك برمز ألاسكا، ثم إعلان إنتصار رمزي بعد عقد القمة. يقدم دوغين هنا نموذجًا تطبيقيًا لإنتقال الخطاب الروسي من التعبئة الهجومية إلى تسجيل النقاط الإستراتيجية على طاولة السياسة الدولية.
أوّلًا: مقال 10 أغسطس – خطاب الحسم والقوة قبل التفاوض
في مقاله الأول، يرفض دوغين فكرة التراجع أو قبول حلول وسط مع الغرب. يدعو إلى تصعيد الضغط العسكري، وتأكيد التفوّق الروسي ليس فقط على أوكرانيا وإنما على منظومة الغرب بأكملها. يقول: «مبدأ التفاوض لدى روسيا هو التالي: لا نتخلى عن شيء، ونأخذ كل شيء... يجب معاقبة كييف بشكل نموذجي وقاسٍ، لكي يتذكروا ذلك لقرون». ويتابع بأن الذهاب إلى ألاسكا لا يجوز إلا إذا كانت الرحلة مشروطة بالنصر: «إلى ألاسكا يستحق الذهاب فقط إن كان يشرق فيها النصر. وإن لم يشرق، فليذهب إليها زيلينسكي وكايا كاللاس دوننا». هذا المقال يُظهر لغة حربية واضحة، وإعتبار أي توقف بمثابة إعتراف بالهزيمة. إنه خطاب يعزز فكرة «الفعل الإستباقي» و«ضرب العدو بلا إستئذان» كشرط للنصر.
ثانيًا: مقال 11 أغسطس – الحرب مستمرة والوقت لا يرحم
في اليوم التالي، يستكمل دوغين نفس الروح التعبوية، لكن بمزيد من التفصيل النظري والتاريخي. يشدّد على أن الحرب لم تُحسم بعد، وأن التباطؤ أو الميل إلى التسويات سيُقرأ كضعف قاتل: «لم نهرم في الحرب، وإن لم تُحسم. وإذا توقفنا الآن، فإننا نعترف بالضعف والعجز عن الإستمرار». ويكرر عبارة مركزيّة: «نحن من بدأنا العملية الخاصة، وقد ربحنا كل ما يمكن ربحه فيها منذ اللحظة الأولى، وعلينا أن نواصل على هذا الأساس، بدون تحذير».
ويُضيف بُعدًا جديدًا يتمثل في ربط الرمز الجغرافي – التاريخي لألاسكا بالخسارة القيصرية القديمة. يذكِّر بأن بيع ألاسكا للولايات المتحدة شكّل إهانة تاريخية لروسيا. ويشير إلى أن كثيرين في الإعلام يرون اختيار ألاسكا لعقد اللقاء حدثًا مشحونًا بالرمزية: "إنها الأرض التي تخلّت عنها روسيا في الماضي، واليوم تعود إليها كقوة منتصرة تفاوض عند حوافّها."
إلى جانب ذلك، ينتقد دوغين «البطء الروسي» التاريخي، ويعتبر أن إستمرار العمل بقوانين زمن السلم داخل المؤسسات، أثناء حرب وجودية، هو أحد أكبر الأخطاء. إنه يطالب بالتسريع، والتعبئة، والعمل بمنطق الحرب، على كل المستويات.
ثالثًا: القمة في ألاسكا – لحظة إستعراض القوة والندية الكاملة
إنعقدت القمة يوم 16 أغسطس 2025، حيث إستقبل ترامب ضيفه الروسي في أنكوراج، وسط تغطية إعلامية مكثفة. المفاوضات المغلقة إستمرت زهاء ثلاث ساعات، ثم خرج الرئيسان إلى مؤتمر صحفي قصير.
فلاديمير بوتين لخص موقفه قائلاً: «حل المشكلة الأوكرانية يتطلّب إزالة الأسباب الجذرية للأزمة».
أما ترامب، فاعترف بوضوح: «لا توجد صفقة، وسوف يُدينونني... لكن العمل المشترك سيستمر».
وقد دعا بوتين ترامب إلى عقد اللقاء المقبل في موسكو، وهو ما لم يرفضه الأخير. بدا بوضوح أن روسيا إنتزعت التفاوض من سياق الضغط الغربي الشامل، لتعيده إلى قاعدة «القوتين العظميين» اللتين تقرران مصير الصراع.
رابعًا: مقال 16 أغسطس – من خطاب الحسم والقوة إلى إعلان النصر الرمزي
هدأ الخطاب عند دوغين مباشرة بعد القمة، لكنه لم يتراجع عن جوهره. بل أعلن النصر بطريقة مختصرة: «اللقاء كان رائعًا».
ثم أضاف تفسيرًا يوازي مضمون مقاله السابق: «لا وقف إطلاق نار، ولا هدنة... الصفقة لا تُعد صفقة ما دامت لم تصبح فعلاً صفقة».
يعني ذلك أن غياب التسوية الرسمية ليس هزيمة، بل العكس: إن مجرد تحوّل واشنطن إلى طاولة الندية، والعمل تحت ظل الإرادة الروسية، هو أكبر نصر. لقد إنتقلت فكرة الحسم من ميدان المعركة إلى ميدان الرمز: ألاسكا التي كانت رمزًا لخسارة قديمة، أصبحت الآن منصة إعلان تفوق معنوي.
خامسًا: ما الذي تحقق سياسيًا ورمزيًا؟
سياسيًا: • عادت موسكو لتجلس كقوة تقرير مصير، وليس كطرف يُفرض عليه جدول أعمال خارجي. • إنتزعت المبادرة الدبلوماسية من أوروبا، إذ باتت المفاوضات «مسألة أمريكية – روسية». • طرح بوتين دعوة ترامب إلى موسكو كفعل هيمنة رمزية. رمزيًا: • مشهد التصفيق الذي قوبل به بوتين عند هبوطه في أنكوراج، ثم حذفه من بث البيت الأبيض، تحوّل إلى رمز في الإعلام الروسي. • ألاسكا، التي بيعَت في القرن التاسع عشر، عادت رمزياً إلى الذاكرة الروسية كأرض تُستعاد معنويًا من خلال فرض الشروط في مركزها. هكذا وجد دوغين تحقق خطابه بطريقة غير مباشرة: فالسيادة الروسية التي طالب بها قبل القمة («لا تنازل ولا تأخير») ظهرت في شكل صمت سياسي أمريكي عن المطالب الأوروبية، وفي إلتزام ترامب بإستمرار الحوار وفق شروط جديدة.
سادسًا: مغزى هذه القمة بالنسبة للعالم العربي
ما حدث في ألاسكا يبعث رسالة مهمة إلى الدول العربية: أن موازين القوى الدولية تتحرّك بالفعل نحو تعددية قطبية. إعتراف واشنطن بروسيا كطرف حتمي في معادلة الأمن العالمي قد يمنح موسكو قدرة أوسع على لعب دور في القضايا الإقليمية الحساسة: من فلسطين، إلى سوريا، إلى التحالفات النفطية والمالية.
كما أن إعادة الاعتبار للمبدأ السيادي في التفاوض (أي التفاوض الندي، لا من موقع الضعف) يُشجّع الدول العربية على بناء علاقات إستراتيجية مع موسكو من موقع مستقل، خارج الضغط الغربي التقليدي. روسيا لم تنتصر ماديًا فقط، بل فرضت معادلة: «إما أن نتفاوض كقوة كبرى، أو لا تفاوض». وهذا ما تفتقده كثير من الدول العربية في ملفاتها مع القوى الكبرى.
خاتمة
تُظهر المقالات الثلاث أن دوغين لم يتراجع عن موقفه القتالي، بل عاد وإعتبر أن ما جرى في ألاسكا تحقق شكليًّا لتلك الحالة التي طالب بها قبل القمة. لقد إنتقل الخطاب من التعبئة إلى الرضا، لا لأن الحرب إنتهت، بل لأن ميزان الشرعية الدولية قد بدأ يميل لصالح موسكو. ولذلك قال في نهاية المطاف: «اللقاء كان رائعًا».
القمة لم توقّع إتفاقًا جديدًا، لكنها أحيت قانون «سيد يتحدث إلى سيد»، وليس قوة تُملَى عليها الشروط. وهذا بالنسبة إلى المدرسة الدوغينية يكفي كي يُعلن النصر حتى قبل الوصول إلى كييف.
تبدو ألاسكا، في النهاية، أقل جغرافيا وأكثر ميدانًا رمزيًا. روسيا التي خسرتها قبل قرن ونصف، عادت إليها اليوم لا لتسترد الأرض، بل لتؤكد أنها لم تعد تبيع ولا تتنازل... بل تدخل وتفاوض لتستعيد موقعها في قمة العالم.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 683 - بين خيار الإبادة وخيار الإحتلال – قراءة ف
...
-
طوفان الأقصى 682 - لاهوت الإبادة في الفكر الصهيوني: قراءة تح
...
-
الإنهيار المعنوي للجيش الأوكراني: من الخنادق الفارغة إلى الإ
...
-
طوفان الأقصى 681 - تفكك الإجماع اليهودي العالمي حول إسرائيل
-
«العقيدة الترامبية الجديدة» - بين الإنعزال والضربات السريعة
...
-
طوفان الأقصى 680 - مشروع «إسرائيل الكبرى»: مخاطره الجيوسياسي
...
-
«تحدّي ألاسكا»: قراءة تحليلية في أطروحة ألكسندر ياكوفينكو حو
...
-
طوفان الأقصى 679 - من النيل إلى الفرات - الحلم الذي لم يمت:
...
-
ألكسندر دوغين - أنكوراج** - توازن دقيق على حافة الهاوية (برن
...
-
طوفان الأقصى 678 - أكثر من 100 طبيب عملوا في غزة يطالبون الع
...
-
طوفان الأقصى 677 - أذربيجان وإسرائيل في قلب لعبة القوقاز الك
...
-
-أسرار نووية وأحكام متناقضة: ثلاث قضايا تكشف إزدواجية المعاي
...
-
ألكسندر دوغين بين ألاسكا وغورباتشوف: أخطاء الماضي وصراعات ال
...
-
طوفان الأقصى 676 - يهود ضد الصهيونية
-
روسيا والغرب… معركة تتجاوز حدود أوكرانيا
-
طوفان الأقصى 675 - الكمين الأميركي: من الإستراتيجية الإقليمي
...
-
قمة ألاسكا: بين ذكريات التاريخ ومقايضات الحاضر
-
طوفان الأقصى 674 - إسرائيل وحرب المستقبل – نقطة التوتر بين ا
...
-
ثلاث -بجعات سوداء- في أفق الحرب: ما الذي قد تغيّره الأشهر ال
...
-
طوفان الأقصى 673 - إيران 2025: عام الصمود والإنتصار… من شوار
...
المزيد.....
-
جدل في لبنان بعد تصريحات البطريرك الراعي عن سلاح حزب الله
-
تونس تشهد أسوأ مراحل الانقلاب
-
واشنطن بوست: خلاف حول غزة يطيح بمسؤول إعلامي كبير في الخارجي
...
-
الهجوم على مدينة غزة يدخل مرحلته الأولى.. حماس: عملية -عربات
...
-
الناتو يبحث ضمانات أمنية لأوكرانيا في -مناقشة صريحة-
-
رامافوزا يجري تعديلات على قانون تمويل الأحزاب السياسية
-
فيديو منسوب لـ-ظهور مدفع الرعد الكوري في سيناء-.. هذه حقيقته
...
-
واشنطن تعاقب 4 مسؤولين في الجنائية الدولية.. والمحكمة تستنكر
...
-
رعب في قلب المكسيك... العثور على ستة رجال مقطوعي الرأس في حا
...
-
واشنطن وحلفاؤها يدعون إلى -هدنات إنسانية- في السودان وسط تفا
...
المزيد.....
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|