قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه

محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8436 - 2025 / 8 / 16 - 15:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

الله تعالى ليس جسماً ولا صورة نراها بشكل مباشر، لأنه منزه عن المادة والخلق، فهو لا يُرى بذاته ولكن نراه في غيره من خلقه، فهو متجل بأسمائه وصفاته في خلقه، لا سيما الإنسان. فالإنسان هو المظهر الجامع للأسماء والصفات كلها، بخلاف غيره من المخلوقات، فكل منها مظهر لاسم واحد أو اثنين، كالأرض فهي مظهر لاسمه الباسط، والسماء مظهر لاسمه العلي والرافع، والجبال مظهر لاسمه القوي المتين، وهكذا الخ، كل مخلوق في الكون مظهر لاسم واحد، وأما الإنسان فهو مظهر للأسماء كلها: الحي، السميع البصير، العليم القدير، الرحيم الودود الخ.
وأسماء الله على ثلاثة أقسام: أسماء جمال وأسماء جلال وأسماء كمال.
فلله أسماء جمال: الرحيم الكريم الودود المعطي الغفور العفوّ الخ (سبعون اسماً) مظاهرها هم أهل الخير في كل الأديان، ولذلك ترى جمال الصفات في غير المسلمين من أهل الأديان الأخرى فتحبهم، ويستحيل على الله أن يعذب مظاهره، وليس صحيحاً أن هناك فرقة ناجية أو شعب مختار لله وأن البقية في النار، وسيأتي بيان ذلك.
ولله أسماء جلال: الجبار القهار المنتقم شديد البطش الخ (تسعة عشر اسماً) مظاهرها أهل الشر والطغيان، بغض النظر عن دينهم، ولذلك ترى آثار هذه الصفات في المتطرفين والإرهابيين ولو كانوا مسلمين، فالأديان ظاهره تاريخية لا تتعدى في وجودها ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، فلا عبرة بها، وإنما العبرة عند الله بالصفات وبالحقائق الباطنة لا بالمظاهر.
ثم لله أسماء كمال (عشرة أسماء) مظاهرها الأنبياء وكمل الأولياء في كل دين.
إذن فالله ليس غائباً أو منفصلاَ عنا، كما أننا لسنا منفصلين عنه، بل إن وجودنا فرع عن وجوده، وجودنا معلق على ظهوره فينا، ولولا أنه أراد أن يظهر لما كان لنا وجود على الإطلاق ولا ظهرنا ولا أوجدنا.
إذل فهمنا هذه القاعدة انحل الإشكال بين أهل الإلحاد وأهل الأديان، حول مسألة وجود الله.. فالله ليس من أسمائه الموجود وإنما من أسمائه "الواجد". فلو تناولنا مسألة وجوده دون استحضار هذه القاعدة (أنه ظاهر في خلقه) فلابد أن نقع في مشكلة التجسيم وأن لله جهة أو مكان أو صورة يبحث عنها كلا الفريقان مؤمنهم ملحدهم، ينفيها الملحد ويؤخرها المتدين إلى الآخرة، ويظل الصراع بينهما قائماً. وأما مع استحضار تلك القاعدة فيكون من اليسير فهم وجود الله، وأن وجوده هو ظهور أسمائه في خلقه، وأما هو لا يظهر بذاته لأنه الواجد وليس الموجود، وإنما الموجود هو المخلوق، فالوجود وجود واحد له وجهان ظاهر وباطن، حق وخلق، غيب وشهادة.. ولذلك يقول محيي الدين بن عربي أن الكون هو عين الحق، فلو قلنا أن الكون هو الله الظاهر (ومن أسمائه الظاهر) لم نكن مخطئين، لأن الله هو كل شيء ظاهر وباطن، فلا يجوز ولا يصح أن نبحث عنه لأنه ظاهر في كونه بل فينا، لا وجود لنا إلا بظهوره هو.
قال تعالى: (الله نور السموات والأرض) وورد في الحديث: (كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان) وهذه قاعدة اتفق عليها علماء الإسلام والصوفية في القديم والحديث، وذكرها الإمام ابن عطاء الله السكندري في (الحكم العطائية) الحكمة السابعة والثلاثون، فلا فرق في وجود الله بين قبلية الخلق أو بعديته، فكلاهما سيان، وإنما خلق الله الخلق لكي تظهر فيه أسماؤه، فلا وجود للخلق معه وإنما هي مظاهره فحسب، وهو الباطن من ورائها، فهو حقيقتها وروحها، وهذا معنى (وهو الآن على ما عليه كان).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره) يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي أن الله تعالى كان قبل أن يخلق الخلق باطناً غير ظاهر، ليس ظاهراً ولا لنفسه، وهو يريد أن يظهر، ولذلك قبض قبضة من نوره فقال لها كن فكانت الحقيقة المحمدية، كمرآة انطبعت فيها أنوار الذات بكل أسمائها وصفاتها، فشاهد فيها كل جماله وجلاله وكماله.
وكما شاهد الله جماله في هذا النور، كذلك أشهد خلقه من بني آدم هذا الجمال، يقول العلامة بديع الزمان سعيد النورسي: (وهو الأب الروحي للحركة الإسلامية في تركيا في القرن الماضي) : الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الإعلان عنه على رؤوس الأشهاد مقدرين مستحسنين معجبين به . ومثلما يطلب هذا الجمال الخفي السامي الذي لا مثيل له، أن يرى محاسـنه في مـرآة عاكسة ويشهد في محاسنه ومقاييس جماله في مرآة ذات مشاعر وأشواق إليه، فانـه يريـد الظهور والتجلي ليرى جماله المحبوب أيضاً بأنظار الآخرين. أي أن النظـر إلى جمـال ذاتـه يستدعي أن يكون من جهتين : الأولى: مشاهدة الجمال بالذات في المرايا المختلفة المتعددة الألوان . والأخرى: مشاهدة الجمال بنظر المشاهدين المشتاقين المعجبين المستحسنين . أي أن الجمال والحسن يقتضيان الشهود والإشهاد (الرؤية والإراءة ).
كليات رسائل النور، المجلد الأول الكلمات، رسالة الحشر، الحقيقة الرابعة، باب الجود والجمال.

جاء في كتاب (محادثات مع الله) الجزء الأول، للكاتب الأمريكي نيل دونالد والش:
(لا يمكنك أن تختار أن تكون الله إذا لم يكن هناك شيء آخر.
• عفوًا، أمسكها! من قال أنني أختار أن أكون الله؟
إن أعلى شعور هو الحب المثالي، أليس كذلك؟
• نعم، ينبغي أن أعتقد ذلك.
وهل يمكنك العثور على وصف أفضل لله من الحب المثالي؟
• لا أستطيع.
حسنا، روحك تسعى إلى أعلى شعور. إنها تسعى إلى تجريب شعور الحب المثالي الغامر.
روحك هي الحب التام، وهي تعرف أنها كذلك. ومع ذلك فهي ترغب في أن تفعل أكثر من مجرد المعرفة. تتمنى أن تكون كذلك في تجربتها، بمشاعرها.
بالطبع أنت تسعى لأن تكون النفس الكلية! إلام كنت تعتقد أنك تسعى خلاف ذلك؟
• لا أعرف. لست متأكد. أعتقد أنني لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة أبدًا. يبدو أن هناك شيئًا تجديفيًا غامضًا في ذلك.
أليس من المثير للاهتمام أنك لا تجد شيئًا تجديفًا في السعي إلى أن تكون مثل الشيطان، ولكن السعي إلى أن تكون مثل الله فهذا يسيء إليك؟).
وجاء في الجزء الثالث: (ترى الخير والرحمة بداخلك، لكنك تنكرها. ترى الحكمة في داخلك، لكنك تنكرها. ترى إمكانية لا نهائية بداخلك، لكنك تنكرها. وأنت ترى وتختبر الله في داخلك، ومع ذلك تنكر ذلك.
أنت تنكر أنني في داخلك، وأنني أنت، وبهذا تنكر مكاني الصحيح والواضح.
• أنا لم ولا أنكرك.
- هل تعترف بأنك الله؟
• حسنًا، لن أقول ذلك...
- بالضبط. وأنا أقول لك هذا: "قبل أن يصيح الديك، سوف تنكرني ثلاث مرات".
بأفكارك ذاتها ستنكرني.
بكلامك ذاته ستنكرني.
بأفعالك ذاتها سوف تنكرني.
أنتم تعرفون في قلوبكم أنني معكم، فيكم؛ أننا واحد. ومع ذلك فإنكم تنكرونني.
البعض منكم يقول أنني موجود نعم. ولكن بعيدا عنكم. الطريق إلى هناك في مكان ما. وكلما ابتعدت عني، كلما ابتعدت عن حقيقتك).

من أشعار العارفين في هذا المعنى:
الِلّه قل وذر الوجود وما حوى .. إن كنتَ مرتاداً بلوغَ كمالِ
فالكلُّ دون اللَهِ إن حقّقتهُ .. عدمٌ على التفصيل والإجمال
واعلَم بأنك والعوالم كلَّها .. لولاهُ في محو وفي اضمحلال
من لا وجودَ لذاتهِ من ذاته .. فوجودهُ لولاهُ عينُ محالِ
فالعارفونَ فنوا ولمّا يشهدوا .. شيئاً سوى المتكبر المتعال
ورأوا سواهُ على الحقيقةِ هالكاً .. في الحال والماضي والإستقبال
فالمح بعقلك أو بطرفك هل ترى .. شيئاً سوى فعل منَ الأفعال
وانظُر إلى علو الوجود وسفلهِ .. نظراً تؤيدهُ بالإستدلالِ
تجد الجميع يُشيرُ نحو جلالهِ .. بلسان حالٍ أو لسان مقال
هو ممسك الأشياء من علوٍ إلى .. سفلٍ ومُبدِعُها بغيرِ مثالِ

#محمد_بركات (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل