ياسر حسن حسين
باحث وكاتب متخصص في التحليلات الدستورية والانظمة القانونية
(Yaser Alzubaidi Phd)
الحوار المتمدن-العدد: 8431 - 2025 / 8 / 11 - 08:22
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
المقدمة:
يُعدّ مبدأ المساواة وعدم التمييز من المبادئ الجوهرية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، إذ يشكل قاعدة أساسية لضمان العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وتعزيز مفهوم المواطنة المتساوية بين جميع أفراد الشعب. وقد كرّس الدستور العراقي لسنة 2005 هذا المبدأ في أكثر من موضع، لاسيما في المادة (14) التي تنص على أن "العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي".
ورغم هذا الإقرار الصريح، إلا أن الواقع العراقي يكشف عن تحديات كبيرة في تطبيق هذا المبدأ، في ظل تنوع مكونات المجتمع، وتعقيدات النظام السياسي، وتأثير العوامل الدينية والطائفية والعرقية والمناطقية على مؤسسات الدولة وسلوكها. وعليه، يطرح هذا المقال التساؤل الآتي:
هل يُطبق مبدأ المساواة وعدم التمييز في العراق بشكل فعلي، أم أنه يخضع لانتقائية في التنفيذ تبعًا للظروف السياسية والاجتماعية؟ لقد أكد الدستور العراقي لعام 2005 في أكثر من مادة على مبدأ المساواة وعدم التمييز، واضعًا بذلك حجر الأساس لبناء دولة ديمقراطية تحترم الحقوق والحريات. إلا أن الممارسة الفعلية لهذا المبدأ ما تزال تواجه عقبات قانونية، سياسية، ومجتمعية، تجعل من المساواة في العراق حقًا غير مكتمل، وممارسة انتقائية في كثير من الحالات.يتجلى هذا التمييز في عدد من المجالات، أبرزها:
التمييز القائم على النوع ، وخاصة في قوانين الأحوال الشخصية وسوق العمل.
التمييز ضد الأقليات الدينية والقومية ، رغم الاعتراف الدستوري بوجودهم وحقوقهم.
المحاصصة السياسية والمناطقية ، التي تعيق تكافؤ الفرص وتعمّق الانقسام.
ضعف دور القضاء ، لا سيما المحكمة الاتحادية، في تفعيل مبدأ المساواة وتفسيره بشكل تقدمي.كل ذلك يثير تساؤلات حقيقية حول ما إذا كان مبدأ المساواة في العراق يُمارس كحق دستوري عام، أم أنه يُخضع للظرف السياسي والتأثيرات الحزبية والاجتماعية.وللإجابة عن هذا التساؤل، سيتم أولًا استعراض الإطار الدستوري للمساواة، ثم تحليل مظاهر التمييز القائمة، وصولًا إلى تقييم واقعي لهذا المبدأ بين النص والممارسة.
الإطار الدستوري لمبدأ المساواة في العراق
أولى الدساتير الحديثة اهتمامًا كبيرًا بمبدأ المساواة، لكونه حجر الزاوية في بناء نظام قانوني عادل. والدستور العراقي لعام 2005 لم يكن استثناءً، فقد أكد بشكل واضح على هذا المبدأ من خلال عدة مواد تُعدّ مرجعية قانونية لضمان حقوق الأفراد ومنع التمييز بمختلف أشكاله.
1 - المادة (14) من الدستور:
"العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي."
تُعدّ هذه المادة الركيزة الأساسية للمساواة في الدستور العراقي، وهي من أكثر النصوص شمولًا، إذ أنها لا تكتفي بتقرير المساواة أمام القانون، بل تذكر مجموعة واسعة من الأسس التي يُمنع التمييز بناءً عليها. ويُلاحظ أن النص يستخدم لفظ "العراقيون" وليس "المواطنون"، مما يشير إلى شمول المبدأ لجميع الأفراد في الدولة، بغض النظر عن انتماءاتهم.
- 2 المادة 16:ـ إلى جانب المادة (14)، هناك نصوص أخرى تؤكد على المساواة ضمن مجالات مختلفة، ومنها:
"تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين، وتكفل الدولة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك."هذه المادة تُفصّل جانبًا مهمًا من المساواة، وهو مبدأ الفرص المتكافئة في العمل والتعليم والمناصب العامة.
التمييز بين النص والواقع
يتضح من خلال النصوص الدستورية أن المشرّع العراقي أقرّ مبدأ المساواة بشكل صريح ومتعدد الجوانب، سواء في الحقوق العامة أو في حماية الفئات المختلفة. غير أن غياب آليات دستورية أو تشريعية واضحة لضمان التطبيق، يجعل هذا المبدأ عرضة للتعطيل أو الانتقائية في الممارسة رغم أن الدستور العراقي يحتوي على نصوص متقدمة فيما يخص مبدأ المساواة وعدم التمييز، إلا أن الواقع العملي يكشف عن فجوة واسعة بين ما هو منصوص عليه وما يتم تطبيقه. في هذا الفصل، سنعرض هذه الفجوة من خلال قراءة نقدية في التشريعات والممارسات الحكومية والمجتمعية، التي لا تنسجم دائمًا مع الروح الدستورية.
1 - التمييز في الوظائف العامة والمناصب
رغم مبدأ "تكافؤ الفرص" المنصوص عليه في المادة (16)، إلا أن الواقع يشهد على:محاصصة سياسية وطائفية في التوظيف ، خصوصًا في المناصب العليا. تهميش فئات معينة (كالأقليات الدينية أو العرقية) من التمثيل الفعلي في الدولة. تفاوت في فرص التعيين في بعض المحافظات لأسباب سياسية أو حزبية.
2- التمييز على أساس النوع الاجتماعي
ضعف تطبيق العقوبات بحق مرتكبي العنف الأسري والتمييز القائم على النوع.
3 - التمييز المناطقي والطبقي: ـ هناك فجوة تنموية واضحة بين المحافظات، خاصة بين إقليم كردستان وباقي المحافظات. بعض المناطق، خصوصًا تلك المتأثرة بالنزاعات، تعاني من ضعف الخدمات، مما يخلق نوعًا من التمييز الاقتصادي والاجتماعي غير المعلن.
لذلك يمكننا القول بالرغم من الإطار الدستوري الواضح، فإن التطبيق العملي لمبدأ المساواة لا يزال يخضع لعدة عوامل، أهمها:
غياب آليات رقابية فعالة.
تأثير الأحزاب والمحاصصة على توزيع الحقوق.
ضعف الوعي المجتمعي بالمساواة كحق دستوري لا كمنّة.
كل ذلك يُظهر أن المساواة في العراق تُمارَس بانتقائية ، تخضع لمعادلات القوة والمصلحة، لا لسيادة النص الدستوري.
مظاهر التمييز في العراق
إن التمييز في العراق لا يقتصر على النصوص أو السياسات، بل يتجلى بوضوح في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي. ويأخذ هذا التمييز أشكالًا متعددة، منها ما هو مبني على النوع الاجتماعي ، أو الدين والقومية ، أو الانتماء المناطقي والسياسي . يتجلى التمييز في العراق بأوجه متعددة، لا تُمارَس دائمًا عبر القوانين، بل تتجذر في البُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فالتعدد الديني والقومي، بدل أن يكون مصدر ثراء دستوري، تحول بفعل الفشل المؤسسي إلى سبب للتمييز والانقسام.هذا الفصل يتناول أبرز هذه المظاهر المدعومة بأمثلة واقعية.
1 - التمييز على أساس النوع الاجتماعي :ـ رغم الإقرار الدستوري بحقوق المرأة، فإن النساء في العراق يواجهن تحديات ممنهجة ومستمرة، أبرزها:
التمثيل السياسي المحدود :ـ صحيح أن هناك "كوتا نسائية" في مجلس النواب (25%)، لكن الواقع يشير إلى أن هذا التمثيل غالبًا ما يكون شكليًا، دون تمكين حقيقي للمرأة في صنع القرار.
العنف القائم على النوع :ـ تفاقم حالات العنف الأسري والجنسي ضد النساء، في ظل غياب تشريع واضح يجرّم العنف الأسري، وتأخر إصدار قانون خاص بحماية المرأة.
التهميش في سوق العمل :ـ النساء يُستبعدن من قطاعات العمل الرسمية، وتُفرض عليهن أدوار تقليدية تقلل من فرص المساواة في الدخل والتمكين الاقتصادي.
2 - التمييز على أساس الدين والقومية
العراق بلد متعدد الأديان والقوميات، ولكن هذا التنوع لم يُترجم دائمًا إلى مساواة واقعية، بل على العكس، غالبًا ما كان سببًا للتهميش أو العنف.
أمثلة على التمييز: المكون المسيحي والإيزيدي والصابئي :
استهدافهم من قبل الجماعات المتطرفة (كما حدث مع الإيزيديين على يد داعش).
صعوبات في العودة إلى مناطقهم بعد النزوح، وسط غياب التعويضات العادلة.
الكرد والتركمان:ـ استمرار الخلافات حول المناطق المتنازع عليها (مثل كركوك)، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار القانوني والسياسي.تمييز في الموارد أو الصلاحيات، حسب العلاقة السياسية بين المركز والإقليم.
3 - التمييز على أساس الانتماء السياسي أو المناطقي
المحاصصة السياسية: النظام السياسي القائم على تقاسم السلطة بين المكونات (الشيعة، السنة، الكرد) أدى إلى تهميش كفاءات وطنية على أساس الانتماء الحزبي أو الطائفي.
التفاوت التنموي: محافظات الجنوب، رغم إنتاجها للنفط، تعاني من ضعف الخدمات، مقارنةً بمحافظات أخرى. المناطق التي شهدت معارك ضد داعش (كالأنبار ونينوى) ما زالت تعاني من نقص الإعمار، مما يعزز التمييز المناطقي.
دور القضاء والمحكمة الاتحادية في حماية مبدأ المساواة
يشكل القضاء حجر الزاوية في صيانة المبادئ الدستورية، وعلى رأسها المساواة وعدم التمييز . وتُعدّ المحكمة الاتحادية العليا الجهة المخولة بتفسير الدستور والرقابة على دستورية القوانين، مما يضع على عاتقها مسؤولية كبرى في تعزيز أو إضعاف هذا المبدأ. إلا أن الواقع في العراق يكشف عن تباين في أداء القضاء تجاه قضايا المساواة. القضاء العراقي، وعلى رأسه المحكمة الاتحادية، يمتلك أدوات قانونية قوية لحماية مبدأ المساواة، لكن الواقع يظهر ضعفًا في الإرادة والجرأة القضائية تجاه القضايا الحساسة. وهذا ينعكس سلبًا على قدرة المواطن في اللجوء للقانون لضمان حقوقه، ويُبقي التمييز كأمر واقع غير مطعون فيه
1 - المحكمة الاتحادية وصيانة الدستور دورها القانوني: وفقًا للمادة (93) من الدستور، تختص المحكمة الاتحادية بما يلي:
الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة.
تفسير نصوص الدستور.
الفصل في الاتهامات الموجهة إلى كبار المسؤولين.
البت في تنازع الصلاحيات بين السلطات الاتحادية والمحلية.
ما يعنيه ذلك:بإمكان المحكمة أن تلعب دورًا محوريًا في إلغاء أو تعديل التشريعات التي تتضمن تمييزًا ، أو في تفسير النصوص الدستورية بطريقة تضمن المساواة.
2 - ضعف الأداء القضائي في قضايا المساواة
رغم الدور المهم، إلا أن أداء المحكمة الاتحادية فيما يخص حماية المساواة لا يرقى إلى المستوى المطلوب ، للأسباب التالية:
قلة القضايا المتعلقة بالتمييز التي تُعرض على المحكمة، مما يعكس ضعف الوعي القانوني أو غياب الجرأة في الطعن.
غياب أحكام رائدة تضع سوابق دستورية واضحة في قضايا النوع الاجتماعي أو حقوق الأقليات.
تأثر المؤسسة القضائية بالسياق السياسي ، لا سيما في القضايا ذات الطابع الحزبي أو الطائفي.
3 - أمثلة عملية (دراسات حالة مختصرة(
أ. تقاسم المناصب العليا (الرئاسات الثلاث (لم تتدخل المحكمة الاتحادية لمنع عرف المحاصصة الطائفية والقومية في توزيع المناصب، رغم مخالفته للمادة (14) من الدستور.
ب. قضايا النوع الاجتماعي:لم تصدر المحكمة قرارات واضحة تفسر "التمييز على أساس الجنس"، كما لم تدفع نحو تعديل القوانين التمييزية ضد المرأة، مثل بعض بنود قانون الأحوال الشخصية.
ج. قضايا حرية الدين والمعتقد:قلما تتصدى المحكمة لحالات التمييز ضد الأقليات الدينية، أو لتدخلات دينية في التشريع، رغم وضوح النصوص الدستورية في ضمان حرية المعتقد.
4 - ضعف الثقافة القضائية الحقوقية
التمييز في العراق لا يُواجه فقط بضعف النص أو ضغط السياسة، بل أحيانًا بـضعف ثقافة القضاة أنفسهم حول حقوق الإنسان والمساواة، إذ لا توجد برامج تأهيل متقدمة تدمج هذه المبادئ ضمن الممارسة القضائية اليومية.
التوصيات
1 - مراجعة التشريعات العراقية ، خصوصًا قوانين الأحوال الشخصية والجنسية والعمل، لتعديل المواد التي تتضمن تمييزًا صريحًا أو ضمنيًا.
2 - تعزيز دور المحكمة الاتحادية من خلال تدريب قضاتها على آليات الرقابة الدستورية الحديثة، وتوسيع نطاق نظرها في قضايا التمييز والمساواة.
3 - تفعيل قانون مكافحة التمييز من خلال تشريع قانون خاص يتناول كافة أشكال التمييز، ويحدد آليات التبليغ والحماية والمعاقبة.
4 - نشر الثقافة الدستورية وحقوق الإنسان من خلال المناهج التعليمية، وحملات التوعية، والمجتمع المدني، بما يعزز وعي المواطن بحقوقه.
بقلم د.ياسر حسن الزبيدي
5 - تمكين الفئات المهمشة (النساء، الأقليات، ذوو الإعاقة...) سياسيًا واقتصاديًا، من خلال سياسات شاملة لا تكتفي بالكوتا الشكلية، بل تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية
#ياسر_حسن_حسين (هاشتاغ)
Yaser_Alzubaidi_Phd#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟