ياسر حسن حسين
باحث وكاتب متخصص في التحليلات الدستورية والانظمة القانونية
(Yaser Alzubaidi Phd)
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 21:54
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
بقلم د.ياسرحسن الزبيدي
المقدمة :
يشهد النظام السياسي في العراق انتقالات متكررة في السلطة التنفيذية، لاسيما بعد كل دورة انتخابية أو تغييرات سياسية طارئة، الأمر الذي يثير تساؤلات دستورية وقانونية حول مفهوم "تصريف الأعمال" وصلاحيات الحكومة خلال هذه المرحلة. يُعدّ هذا المفهوم أحد أبرز مظاهر المرحلة الانتقالية التي تمر بها الحكومة، والتي غالبًا ما تتسم بالغموض والتأويل المختلف في التطبيق العملي.يتناول هذا البحث بالتحليل مفهوم "تصريف الأعمال" في الإطار الدستوري العراقي، مستعرضًا الأسس القانونية التي تنظمه، والظروف التي تفضي إلى نشوء حكومة تصريف أعمال، ونطاق الصلاحيات التي تظل بيدها خلال هذه المرحلة. كما يركّز البحث على تحليل قرارات المحكمة الاتحادية العليا ذات الصلة، وتفسيرها لطبيعة هذه الحكومة وحدود عملها، مع إلقاء الضوء على بعض النماذج العملية التي شهدها العراق في السنوات الأخيرة.يهدف هذا البحث إلى الإسهام في بناء فهم دستوري متماسك لمفهوم تصريف الأعمال، من خلال تحليل النصوص القانونية، وتقييم الممارسة السياسية، ومقارنة ما بين النظرية والتطبيق، بما يعزز من وضوح هذا المفهوم الحيوي في الحياة السياسية العراقية.
مفهوم تصريف الأعمال
على الرغم من غياب تعريف صريح لمفهوم "تصريف الأعمال" في نص الدستور العراقي لعام 2005، إلا أن هذا المفهوم أصبح مستقرًا في العمل الدستوري من خلال السوابق القضائية الصادرة عن المحكمة الاتحادية العليا، والتي كرّست "تصريف الأعمال" كأداة قانونية تضمن استمرارية عمل مؤسسات الدولة وعدم حدوث فراغ في السلطة التنفيذية.ويُقصد بـ"تصريف الأعمال" تولي الحكومة المنتهية ولايتها – سواءً بسبب الاستقالة، أو سحب الثقة، أو انتهاء الدورة الانتخابية – إدارة الشؤون اليومية والوظائف الإدارية الروتينية، دون الخوض في القرارات السياسية أو التشريعية الجوهرية، وذلك إلى حين تشكيل حكومة جديدة مكتملة الصلاحيات.هذا المفهوم، وإن لم يُنظّم بنص دستوري تفصيلي، إلا أن العمل به أصبح من المسلّمات الدستورية العرفية في العراق، ويُعدّ إحدى الآليات الضرورية لضمان استمرارية الأداء الحكومي والانتقال السلمي للسلطة.
الأساس الدستوري لمفهوم تصريف الأعمال
يستند مفهوم "تصريف الأعمال" في النظام الدستوري العراقي إلى عدد من النصوص الدستورية التي تنظّم حالة الفراغ المؤقت في السلطة التنفيذية، أبرزها ما ورد في المادة (75/رابعًا) من دستور جمهورية العراق لعام 2005، والتي تنص على ما يلي: "يستمر رئيس مجلس الوزراء والوزراء في مناصبهم لتصريف الأمور اليومية، بعد سحب الثقة منهم أو عند قبول استقالاتهم، إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة."تمثّل هذه المادة الإشارة الصريحة الوحيدة في النص الدستوري إلى مفهوم "تصريف الأمور اليومية"، والتي فُسّرت في الممارسة الدستورية والقضائية بأنها تعني تقييد صلاحيات الحكومة في هذه المرحلة لتشمل فقط المهام الإدارية والروتينية التي لا تحتمل التأجيل، دون المساس بالسياسات العامة أو اتخاذ قرارات استراتيجية.
كما تُعد المادة (76) من الدستور جزءًا من الإطار الدستوري الناظم لمرحلة تصريف الأعمال، إذ تنص على أن: "يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا، بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية."
ويُستفاد من هذا النص أن لحظة تكليف المرشح الجديد تُعد بداية لتحوّل الحكومة القائمة إلى حكومة تصريف أعمال يومية، حيث تبقى قائمة من الناحية الشكلية، لكنها مقيدة من حيث الصلاحيات، بانتظار إتمام تشكيل الحكومة الجديدة ومنحها الثقة من مجلس النواب.تشكل هاتان المادتان معًا الأساس الدستوري لمفهوم تصريف الأعمال، وتُستكمل دلالاتهما من خلال تفسيرات المحكمة الاتحادية العليا، التي لعبت دورًا حاسمًا في تحديد الحدود القانونية لصلاحيات الحكومة في هذه المرحلة الانتقالية.
الشروط التي تتحوّل بها الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال
لا تتحوّل الحكومة في النظام الدستوري العراقي إلى حكومة تصريف أعمال تلقائيًا بمجرد إجراء الانتخابات، بل يجب أن يتحقق أحد الشروط القانونية أو السياسية التي تؤدي إلى تقييد صلاحياتها وتحوّلها إلى حكومة تصريف أعمال يومية. ويُبيّن الجدول التالي الحالات المختلفة والوضع القانوني المترتب على كل منها:
الحالة الوضع القانوني
استقالة رئيس مجلس الوزراء حكومة تصريف أعمال يومية
سحب الثقة من الحكومة من قبل مجلس النواب حكومة تصريف أعمال يومية
تكليف مرشح جديد لتشكيل الحكومة حكومة تصريف أعمال يومية
انتهاء ولاية البرلمان دون تشكيل حكومة جديدة حكومة تصريف أعمال تلقائيًا
مجرد إجراء الانتخابات | الحكومة تبقى بكامل الصلاحيات
انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان فقط | الحكومة تبقى بكامل الصلاحيات
من خلال هذا العرض، يتضح أن تحوّل الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال لا يتم تلقائيًا عند انتهاء الانتخابات أو انعقاد البرلمان الجديد، بل يجب أن يُستكمل ذلك بأحد الإجراءات الدستورية الجوهرية، مثل قبول الاستقالة، سحب الثقة، أو تكليف مرشح جديد بتشكيل الحكومة. ويُعد هذا التقييد ضمانة لاستمرارية الأداء التنفيذي للدولة دون فراغ دستوري، وفي الوقت ذاته يحول دون استغلال الحكومة المؤقتة لصلاحيات غير مبررة في مرحلة انتقالية.
صلاحيات حكومة تصريف الأعمال
تُعد حكومة تصريف الأعمال حكومة محدودة الصلاحيات، حيث تقتصر مهمتها على إدارة الشؤون اليومية والضرورية فقط، دون الخوض في القرارات المصيرية أو الاستراتيجية التي تُحتّم وجود حكومة مكتملة الشرعية والدعم البرلماني. ويمكن تصنيف صلاحياتها كما يلي:
أولًا: الصلاحيات المسموح بها
تُجاز لحكومة تصريف الأعمال ممارسة المهام التالية:
صرف الرواتب والنفقات التشغيلية.
تسيير أعمال الوزارات والمؤسسات العامة بالحد الأدنى المطلوب.
اتخاذ القرارات الإدارية غير المرتبطة بتغيير السياسات العامة أو التأثير في التوازنات الوطنية.
ثانيًا: الصلاحيات المحظورة
تُمنع حكومة تصريف الأعمال من اتخاذ قرارات تتجاوز طبيعتها المؤقتة، ومن أبرز الصلاحيات المحظورة:التعيين في المناصب العليا أو الدرجات الخاصة (مثل وكلاء الوزارات، المدراء العامين، والسفراء )
إبرام الاتفاقيات الدولية أو توقيع العقود طويلة الأمد التي تُرتّب التزامات مستقبلية على الدولة.
تقديم مشاريع قوانين إلى مجلس النواب.
اتخاذ قرارات سياسية أو اقتصادية ذات طابع استراتيجي (مثل الموازنات العامة، أو تغيير السياسات الاقتصادية أو الأمنية الكبرى ) .
ثالثًا: موقف المحكمة الاتحادية العليا
أكدت المحكمة الاتحادية العليا، في أكثر من قرار، أن حكومة تصريف الأعمال هي "حكومة ناقصة الصلاحيات" ولا تملك سوى إدارة الشؤون اليومية والضرورية لضمان سير المرفق العام، دون أن تتعدى ذلك إلى القرارات الجوهرية أو التأسيسية. واعتبرت أن أي قرار خارج هذا النطاق يُعد تجاوزًا للصلاحيات ومخالفة صريحة للدستور.وقد جاء في أحد أحكام المحكمة ما نصه: "حكومة تصريف الأعمال اليومية لا تملك اتخاذ قرارات استراتيجية أو ترتّب التزامات بعيدة المدى على الدولة، وأي خرق لذلك يُعد مخالفًا لأحكام الدستور."
الآثار القانونية لتجاوز الصلاحيات
يُعد أي قرار استراتيجي أو إجراء يتضمن تعيينًا في المناصب العليا يصدر عن حكومة تصريف الأعمال باطلًا من الناحية الدستورية، كونه صادراً عن جهة لا تملك الاختصاص في هذه المرحلة. وقد أكدت المحكمة الاتحادية العليا في قراراتها، ومنها الحكم الصادر في **الدعوى رقم (121/اتحادية/2022) أن "حكومة تصريف الأعمال تقتصر مهامها على تصريف الأمور اليومية، ولا يجوز لها اتخاذ قرارات ذات طابع استراتيجي أو سياسي أو اقتصادي مؤثر، أو إجراء تعيينات في الدرجات الخاصة."ويندرج هذا التقييد ضمن مبدأ الاختصاص المنصوص عليه في المادة (80) والمادة (61) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، اللتين تحددان صلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية، كما يرتبط بمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في **المادة (47) ، الذي يمنع تجاوز جهة معينة للصلاحيات المقررة لجهة أخرى.وبالتالي، فإن أي قرار يصدر خارج هذه الصلاحيات، يمكن الطعن فيه أمام المحكمة الاتحادية العليا، ويُعد باطلًا لعيب مخالفة الدستور وعدم الاختصاص .
المركز الدستوري للحكومة العراقية بين انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان وتكليف مرشح الكتلة الأكبر
تمرّ العملية السياسية في العراق عادةً بفترة انتقالية طويلة بين انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد وصدور مرسوم رئاسي بتكليف مرشح الكتلة النيابية الأكبر لتشكيل الحكومة. وقد تمتد هذه الفترة لأسابيع أو حتى أشهر، بفعل الخلافات السياسية حول تحديد "الكتلة الأكبر" أو تقاسم المناصب.
1 - الحكومة تحتفظ بكامل صلاحياتها الدستورية : لا يتضمن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 أي نص يشير إلى أن الحكومة تفقد صلاحياتها بمجرد إجراء الانتخابات أو انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب. وعليه، فإن الحكومة القائمة (ما لم تكن مستقيلة أو مسحوبًا منها الثقة) تبقى تمارس **جميع صلاحياتها التنفيذية والدستورية** بشكل كامل، حتى صدور مرسوم التكليف من رئيس الجمهورية.
2 - لا تتحول إلى حكومة تصريف أعمال تلقائيًا : لا تتحول الحكومة إلى تصريف أعمال تلقائيًا بعد انعقاد البرلمان الجديد. لا يوجد نص دستوري أو حكم من المحكمة الاتحادية العليا يقرّ هذا التحول التلقائي.
إن المعيار الحاسم لتحوّل الحكومة إلى تصريف أعمال يتمثل في تحقق أحد الشروط الدستورية الثلاثة التالية:
استقالة رئيس الوزراء (المادة 75/رابعًا من الدستور)
سحب الثقة من الحكومة من قبل مجلس النواب (المادتان 61/ثامنًا و64)
صدور مرسوم رئاسي بتكليف رئيس وزراء جديد (المادة 76)
3 - دعم من المحكمة الاتحادية العليا : أكدت المحكمة الاتحادية العليا في أكثر من مناسبة هذا التفسير، ومن ذلك قراراتها الصادرة في سياق استقالة حكومة عادل عبد المهدي (2019–2020)، حيث بيّنت أن: التحول إلى تصريف الأعمال مشروط بوجود فعل دستوري واضح يتمثل إما باستقالة الحكومة، أو سحب الثقة منها، أو تكليف رئيس وزراء جديد.
4 - الموقف الواقعي – السياسي :ـ رغم أن الحكومة تبقى دستوريًا بكامل صلاحياتها، إلا أنها عمليًا قد:
تمارس السلطة بحذر وتردد
تتعرض لضغوط سياسية لعدم اتخاذ قرارات جوهرية.
تُقيّد فعليًا بما يشبه "تصريف أعمال غير معلن"، وهو وضع سياسي–عرفي لا يستند إلى أي نص دستوري أو قرار قضائي، بل إلى العرف السياسي وضغط الكتل النيابية
الخلاصة والتوصيات
أولًا: الخلاصة
حكومة تصريف الأعمال ليست حالة افتراضية أو سياسية ، بل هي وضع دستوري مؤقت يخضع لضوابط صارمة ويُفعل عند تحقق ظروف محددة.لا تتحول الحكومة تلقائيًا إلى تصريف أعمال بمجرد إجراء الانتخابات أو انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب، وإنما يتم ذلك فقط عند تحقق أحد الشروط الدستورية الثلاثة استقالة رئيس الوزراء، سحب الثقة من الحكومة، أو تكليف رئيس وزراء جديد
في حال تحوّل الحكومة إلى تصريف أعمال، تُقيَّد صلاحياتها وتقتصر على إدارة الشؤون اليومية (الرواتب، الخدمات الأساسية، القرارات الإدارية غير الجوهرية) دون اتخاذ قرارات استراتيجية أو سياسية أو مالية كبيرة.
ثانيًا: التوصيات
1 - إدراج تعريف قانوني واضح لحكومة تصريف الأعمال في الدستور أو ضمن قانون خاص ينظم عمل السلطة التنفيذية، مع تحديد صريح لصلاحياتها وحدودها.
2 - إصدار تعليمات تنظيمية تنفيذية من مجلس الوزراء لتفصيل مهام الحكومة خلال هذه المرحلة، بما يضمن وضوح الأدوار وتفادي الاجتهاد السياسي.
3 - تفعيل الرقابة البرلمانية والقضائية خلال فترة تصريف الأعمال ، لضمان التزام الحكومة بالإطار الدستوري ومنع أي تجاوز للصلاحيات أو تمرير قرارات استراتيجية تحت غطاء "الضرورة".
4 - تبني مدونة سلوك حكومي–سياسي تراعي الأعراف الدستورية وتمنع استغلال هذه المرحلة لتحقيق مكاسب حزبية أو انتخابية.
#ياسر_حسن_حسين (هاشتاغ)
Yaser_Alzubaidi_Phd#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟