ياسر حسن حسين
باحث وكاتب متخصص في التحليلات الدستورية والانظمة القانونية
(Yaser Alzubaidi Phd)
الحوار المتمدن-العدد: 8419 - 2025 / 7 / 30 - 08:43
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
المقدمة
تُعدّ المؤسسة العسكرية الركيزة الأساسية لسيادة الدولة وحماية نظامها الدستوري. وفي العراق، جاء دستور عام 2005 ليضع أسسًا تنظيمية للقوات المسلحة تهدف إلى ضمان وطنيتها وحيادها المهني، ومنع تدخلها في الشأن السياسي. ومع ذلك، فإن التطبيق العملي لهذه النصوص الدستورية كشف عن جملة من الإشكاليات القانونية والسياسية التي أعاقت بناء مؤسسة عسكرية موحدة وفعالة.
لقد أدى تعدد مراكز القوة، ووجود تشكيلات مسلحة خارج الإطار الرسمي للدولة، إلى خلق حالة من التفكك داخل الهيكل الأمني العراقي، ما شكّل تهديدًا مباشرًا لوحدة الدولة الفدرالية. كما ساهم غياب التطبيق الصارم للدستور، وضعف الرقابة المؤسساتية، في تكريس ازدواجية السلطة الأمنية.
يهدف هذا البحث إلى تحليل الإشكالية الدستورية في تنظيم القوات المسلحة العراقية، من خلال دراسة النصوص الدستورية ذات الصلة، والكشف عن مظاهر الخلل في التطبيق، مع التوقف عند أبرز النماذج الواقعية، وتقديم مقترحات عملية لمعالجة هذه الإشكالية بما يضمن بناء دولة مدنية تحتكم إلى القانون والدستور.
الإطار الدستوري لتنظيم القوات المسلحة في العراق
شكّل دستور جمهورية العراق لسنة 2005 نقلة نوعية في تنظيم العلاقة بين السلطات، وفي ضبط أداء المؤسسة العسكرية، حيث أفرد المادة (9) لتنظيم القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ضمن إطار دستوري يضمن التوازن بين الحاجة إلى الأمن، والالتزام بمبادئ الديمقراطية وحكم القانون. وقد نصت هذه المادة على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تحكم تنظيم القوات المسلحة العراقية، من أبرزها:
1. الاحتراف والحياد السياسي: نص الدستور على أن تكون القوات المسلحة والأجهزة الأمنية مهنية ومحايدة، ولا يجوز لها العمل الحزبي أو التدخل في الشأن السياسي أو المشاركة في الانتخابات، سواء ترشيحًا أو دعماً.
2. الخضوع للقيادة المدنية: تخضع القوات المسلحة للسلطة المدنية المنتخبة، ممثلةً برئيس مجلس الوزراء، الذي يتولى مهام القائد العام للقوات المسلحة، بما يضمن سيطرة مدنية على المؤسسة العسكرية ضمن السياق الديمقراطي.
3. حظر التشكيلات المسلحة خارج إطار الدولة: أكّد الدستور بشكل قاطع عدم جواز تشكيل ميليشيات أو جماعات مسلحة تعمل خارج نطاق الدولة، بما يعزز احتكار الدولة لاستخدام القوة المسلحة.
4. ضمان تمثيل مكونات الشعب: ألزم الدستور الدولة بمراعاة التوازن والتمثيل العادل لمكونات الشعب العراقي ضمن الأجهزة الأمنية والعسكرية، على أساس الكفاءة، بما يعزز الانتماء الوطني ويُجنب الهيمنة الفئوية أو الطائفية.
تُبرز هذه المبادئ حرص المشرّع الدستوري على بناء مؤسسة عسكرية موحدة، مهنية، وتابعة لسلطة الدولة، لكن كما سيتضح في المحاور التالية، فإن التطبيق العملي لهذه المبادئ قد واجه تحديات كبيرة على أرض الواقع .
الإشكاليات الدستورية في تنظيم القوات المسلحة العراقية
رغم وضوح المبادئ الدستورية الواردة في المادة (9) من دستور 2005، فإن الواقع الأمني والعسكري في العراق شهد انحرافًا واسعًا عنها، مما أدى إلى نشوء إشكاليات دستورية عميقة تمس جوهر مبدأ وحدة الدولة وسلطة القانون. وأهم هذه الإشكاليات ما يأتي:
1 - تعدد الولاءات وغياب الانسجام الوطني
أدى نشوء تشكيلات مسلحة موازية، إلى إرباك المشهد الأمني، حيث تتمتع بعض الفصائل بولاءات سياسية أو أيديولوجية غير موحدة، ما يضعف الانضباط العام داخل المؤسسة العسكرية، ويؤدي إلى ازدواجية في تنفيذ الأوامر وخلل في هيكل القيادة.
2- ضعف الرقابة البرلمانية والمؤسسية
رغم أن الدستور منح مجلس النواب صلاحية الرقابة على أداء القوات المسلحة، فإن الواقع السياسي القائم على المحاصصة الحزبية والطائفية أضعف فعالية الرقابة البرلمانية، وجعل التعيينات الأمنية العليا تخضع للتوافقات السياسية، لا لمعايير الكفاءة والمهنية.
3 - تعارض الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان
تحتفظ حكومة إقليم كردستان بقوات البيشمركة، التي تعمل بشكل شبه مستقل، ولا تخضع عمليًا لسلطة القائد العام للقوات المسلحة الاتحادية، مما يؤدي إلى تصادم في الصلاحيات وفوضى قانونية في مناطق التماس، خاصة في المناطق المتنازع عليها.
4 - التوسع في تشكيل أجهزة أمنية خارج السياق القانوني الموحد
شهد العراق خلال السنوات الأخيرة إنشاء عدد من الأجهزة الأمنية الخاصة، مثل جهاز مكافحة الإرهاب أو قوات حماية المنشآت، التي ترتبط بشكل مباشر بالسلطة التنفيذية دون وجود قانون موحد ينظم علاقتها بالوزارات الأمنية، وهو ما يؤدي إلى تداخل الصلاحيات وضعف التنسيق.
5 - انعدام قانون الخدمة الإلزامية أو التطوعية الوطنية
عدم وجود قانون وطني موحّد للخدمة العسكرية (إلزامية أو تطوعية) ساهم في غياب الأسس المؤسسية لبناء جيش وطني متوازن، كما أدى إلى هيمنة الاعتبارات السياسية والمناطقية والطائفية على عمليات التجنيد والتعيين داخل المؤسسات الأمنية.
تعارض الإشكالية مع مبدأ وحدة الدولة في النظم الفدرالية
رغم أن الدستور العراقي أقر في المادة (1) أن "جمهورية العراق دولة اتحادية"، فإن هذا لا ينفي مبدأ وحدة الدولة، الذي يُعدّ من المبادئ الحاكمة في جميع النظم الفيدرالية المعاصرة، حيث تُحتكر السلطات السيادية، وعلى رأسها استخدام القوة المسلحة، من قبل الحكومة الاتحادية دون منازع.
ويُفترض في النظام الفدرالي أن تُناط مسؤولية الدفاع الوطني وتنظيم القوات المسلحة بالدولة الاتحادية حصريًا، في حين تكتفي الأقاليم أو الولايات بصلاحيات محدودة، غالبًا إدارية أو شرطية، تُمارس ضمن رقابة مركزية. إلا أن الواقع العراقي يَشذ عن هذا النمط بسبب الإشكاليات الأمنية والسياسية التي أعقبت مرحلة ما بعد 2003.
مظاهر التعارض مع مبدأ وحدة الدولة:
1. وجود تشكيلات مسلحة موازية مثل الحشد الشعبي، التي رغم شرعنتها بقانون عام 2016، إلا أن بعض فصائلها تحتفظ بهياكل قيادة مستقلة وأجندات سياسية أو أيديولوجية متباينة، مما يُضعف الانضباط تحت القيادة العسكرية العليا ويفتح الباب أمام قرارات عسكرية منفصلة عن الدولة.
2. احتفاظ إقليم كردستان بقوات البيشمركة، التي لا تخضع عمليًا للقائد العام للقوات المسلحة العراقية، بل تتبع سلطة الإقليم مباشرة. ورغم التنسيق الظاهري، إلا أن البيشمركة عملت مرارًا بمعزل عن الدولة الاتحادية، ما يخلق حالة انفصالية فعلية على المستوى الأمني.
3. تعدد مراكز اتخاذ القرار العسكري والسيادي، بحيث أصبحت الدولة عاجزة في بعض الأحيان عن فرض إرادتها في ملفات أمنية حساسة، بسبب وجود قوات وفصائل لا ترتبط عضويًا بالمؤسسة العسكرية الرسمية، بل تتبع أوامر قيادات سياسية أو دينية أو محلية.
النتائج المترتبة على هذه الاشكالية :
• ضعف وحدة القرار السيادي الوطني، خاصة في حالات الطوارئ.
• تهديد فعلي لمبدأ احتكار الدولة للعنف الشرعي.
• تراجع هيبة الدولة المركزية أمام المواطنين والمجتمع الدولي.
• خلق بيئة تنافس بين الأجهزة الأمنية بدلًا من التكامل، ما يُضعف الأداء الأمني العام.
مقارنة مع نظم فيدرالية مستقرة:
في النظم الفيدرالية الراسخة مثل الولايات المتحدة أو ألمانيا، تحتكر الحكومة الفيدرالية تنظيم القوات المسلحة، ويُمنع على الولايات أو الأقاليم امتلاك جيوش أو ميليشيات خارج إطار الدولة الاتحادية. هذا يُرسخ وحدة السيادة ويوفّر نموذجًا ناجحًا لتوزيع الصلاحيات دون المساس بوحدة الدولة.
نماذج واقعية لتفكك السلطة العسكرية
لتعزيز التحليل النظري للإشكاليات الدستورية المتعلقة بتنظيم القوات المسلحة، من المهم الوقوف عند نماذج واقعية تُجسّد مظاهر الخلل في البنية الأمنية للدولة العراقية. تكشف هذه الحالات كيف يؤدي تعدد مراكز القوة وتداخل الصلاحيات إلى تهديد وحدة القرار العسكري، بل والسيادة الوطنية ذاتها.
مواجهة الجيش العراقي مع قوات البيشمركة (2017)
في أعقاب الاستفتاء الانفصالي الذي نظّمته حكومة إقليم كردستان في 25 أيلول/سبتمبر 2017، رغم رفض الحكومة الاتحادية والمحكمة الاتحادية العليا لذلك الاستفتاء، شهدت البلاد واحدة من أخطر مظاهر الصدام العسكري بين سلطتين داخل الدولة
فقد أقدمت القوات الاتحادية على تنفيذ عملية إعادة انتشار في محافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات مسلّحة مباشرة مع قوات البيشمركة التابعة للإقليم. وأسفرت المواجهات عن انسحاب البيشمركة من مواقع استراتيجية، أبرزها آبار النفط والحقول العسكرية.
هذه الواقعة تؤشر على غياب مرجعية عسكرية موحّدة، وتعكس إشكالاً دستوريًا كبيرًا يتمثل في عدم خضوع جميع التشكيلات المسلحة لقيادة اتحادية واحدة، بما يتعارض مع مبدأ وحدة الدولة في النظم الفدرالية، ويُضعف قدرة بغداد على بسط سيادتها على كامل أراضي البلاد.
التوصيات
في ضوء الإشكاليات الدستورية والتطبيقية التي يعاني منها تنظيم القوات المسلحة في العراق، تبرز الحاجة إلى مجموعة من الإجراءات التشريعية والسياسية والإدارية لمعالجة الخلل البنيوي وضمان احتكار الدولة لاستخدام القوة ضمن إطار دستوري وقانوني. وفي هذا السياق، يُمكن اقتراح الحلول التالية:
1 - تعديل أو تفسير المادة (9) من الدستور
تُعد المادة (9) حجر الأساس في تنظيم المؤسسة العسكرية، إلا أن بعض بنودها جاءت بصيغة عامة تحتمل التأويل. لذا يُوصى بتقديم تفسير دستوري دقيق لها من قبل المحكمة الاتحادية العليا، أو تعديلها تشريعيًا لتحديد الإطار القانوني بشكل واضح يمنع ازدواجية التشكيلات العسكرية.
2 - إعادة هيكلة الحشد الشعبي ودمجه ضمن القوات النظامية
رغم وجود قانون ينظم هيئة الحشد الشعبي، إلا أن واقع الحال يشير إلى تباين في الالتزام بالقيادة الموحدة. لذا يجب إعادة هيكلة الحشد على أسس مهنية، ودمج مقاتليه تدريجيًا داخل القوات المسلحة ووفق معايير وطنية، مع حلّ الفصائل غير المنضبطة أو الخارجة عن سلطة الدولة.
3 - تشريع قانون موحد ينظم القوات المسلحة والأجهزة الأمنية
من الضروري إصدار قانون موحَّد ينظم العلاقة بين مختلف الأجهزة الأمنية (الجيش، الشرطة، مكافحة الإرهاب، الأمن الوطني... إلخ)، ويحدد صلاحياتها واختصاصاتها وهيكليتها، بما يضمن التكامل الأمني ويمنع التداخل والتضارب في المهام.
4 - إقرار قانون للخدمة العسكرية
تفتقر الدولة العراقية إلى نظام واضح للخدمة العسكرية. لذا فإن تشريع قانون للخدمة الإلزامية أو التطوعية يُعد خطوة ضرورية لبناء جيش وطني على أساس المواطنة، وتحقيق تمثيل متوازن لمكونات الشعب العراقي، بعيدًا عن المحاصصة والولاءات الفرعية.
5 - تفعيل الرقابة البرلمانية والقضائية
يتوجب تعزيز دور مجلس النواب في مراقبة أداء المؤسسات العسكرية والأمنية، من خلال لجان دائمة وشفافة، وتقييد سلطة القائد العام للقوات المسلحة بآليات رقابية واضحة. كما ينبغي تمكين القضاء، وخصوصًا المحكمة الاتحادية، من البتّ في الخروقات الدستورية التي تمس تنظيم القوات المسلحة أو استخدام القوة.
#ياسر_حسن_حسين (هاشتاغ)
Yaser_Alzubaidi_Phd#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟