ياسر حسن حسين
باحث وكاتب متخصص في التحليلات الدستورية والانظمة القانونية
(Yaser Alzubaidi Phd)
الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 00:27
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
في الكثير من الاحيان تتعرض الدولة لأخطار وأزمات تهدد وجودها وكيانها وفي ضوء هذه الظروف تصبح السلطة التنفيذية بحاجة إلى صلاحيات جديدة للقيام بواجبها في الحفاظ على كيان الدولة ووجودها وينشأ في هذا السياق تعارض بين مصلحتين مصلحة احترام القانون ومصلحة الحفاظ على الدولة وللموازنة بين هاتين المصلحتين فقد استحدث الفقه القانوني نظرية الظروف الاستثنائية لتكون وسيلة قانونية تساعد الدولة لتجاوز الاخطار وسنحاول في هذا البحث التعرف على مفهوم هذه النظرية وذلك في المطلبين الآتيين وفي المطلب الثالث سنتطرق الى تطبيق هذه النظرية في الدستور العراقي: ـ
المطلب الاول :ـ اساس نظرية الظروف الاستثنائية وشروطها
الفرع الأول
أساس نظرية الظروف الاستثنائية وبداية نشأتها
الرأي السائد في الفقه يتجه إلى إن فكرة الضرورة هي أساس نظرية الظروف الاستثنائية ويقصد بالضرورة تلك الحالة من الخطر الجسيم الحال التي يتعذر تداركها بالوسائل العادية مما يدفع السلطات القائمة على حالة الضرورة أن تلجأ إلى الوسائل القانونية الاستثنائية لدفع هذا الخطر ولمواجهة الأزمات( ) وفكرة الضرورة هذه تقوم على ركنين( ) ركن موضوعي ويتمثل بوجود خطر يهدد مصلحة جوهرية معتبرة قانونا وركن شكلي يتمثل في التجاوز على أحكام القانون هذه هي فكرة الضرورة بصورة عامة، وهناك من يرى تحديد حالة الضرورة في نطاق القانون الدستوري ذلك أنها توجد كلما كانت الدولة في وضع لا تستطيع معه أن تواجه أخطاراً معينة سواء كان مصدر هذه الأخطار داخلياً أم خارجياً إلا بالتضحية بالاعتبارات الدستورية التي لا يمكن تجاوزها في الأوضاع العادية ( ). وبالتالي فان نظرية الضرورة تعني إضفاء المشروعية على عمل هو في الظروف العادية غير مشروع.
وتعد هذه النظرية من النظريات العامة في القانون التي لا يقتصر مجالها على القانون الدستوري وإنما يتعداه إلى مجالات القانون الأخرى ويجدر القول أنها من النظريات الهامة في مجال القانون العام لكونها تمثل الجانب الاستثنائي لمبدأ المشروعية وقد اهتم الفقه والقضاء ولاسيما القضاء الإداري بوضع الشروط والضوابط اللازمة لتطبيقها.
أما الأصول الأولى لهذه النظرية فتعود إلى الفقه الألماني، حيث برر بعض الفقهاء الألمان مثل هيجل وجلنيك، تجاوز الدولة للقانون في حالات الضرورة. فقد رأى هيجل أن الدولة، بوصفها خالقة للقانون، لا يجب أن تكون مقيدة به إذا ما تعارض تطبيقه مع المصلحة العامة. وأكد جلنيك أن للحكومة، في ظل الحوادث الطارئة، أن تحل محل السلطة التشريعية لمواجهة الضرورة.
وفي فرنسا، مرت النظرية بمرحلتين: الأولى سياسية اعتبرت فيها مجرد ذريعة للسلطة، ثم تحولت في المرحلة الثانية إلى نظرية قانونية تبناها مجلس الدولة الفرنسي، حيث قام بوضع ضوابطها وحدد شروطها، واعتبر أعمال الإدارة في ظلها مشروعة شريطة التقيد بهذه الشروط.
وفي الفقه الأنكلو-أمريكي، فإن هذه النظرية لا تعد قانونية بل سياسية، ولا يمكن أن تؤسس بحد ذاتها صلاحيات تشريعية لرئيس الدولة، بل تتطلب تدخل البرلمان لتقنين الآثار الناتجة عنها.
وهناك من الفقهاء من يرى بان هذه النظرية كتنظيم دستوري لم تظهر إلا بعد نشأة الدولة بمفهومها الحديث القائم على مبدأ سيادة القانون ومبادئ احترام حقوق وحريات الإنسان. وان هذه النظرية بشروطها وضوابطها الجديدة هي من خلق مجلس الدولة الفرنسي الذي صاغها في إطار قانوني محدد بحيث لا تعد أية واقعة تدخل ضمن هذه النظرية ما لم تكن داخلة ضمن هذا الإطار.
الفرع الثاني
شروط تطبيق نظرية الظروف الاستثنائية
تكاد تتفق الدساتير المنظمة لنظرية الظروف الاستثنائية إلى تقييدها بشروط معينة حتى لا تصبح النصوص المنظمة لها وسيلة بيد السلطة التنفيذية لتحقيق مصالح شخصية هذا بالإضافة إلى إن تحديد مثل هذه الشروط يعد وسيلة لتمييز هذه النظرية عن النظريات الأخرى التي تحكم عمل الإدارة كنظرية أعمال السيادة ونظرية السلطة التنفيذية للإدارة وان مثل هذه الشروط أو القيود نجد أساسها في الفقه الفرنسي الذي ذهب إلى تقيد هذه النظرية وذلك بوضع الضوابط والشروط المحددة لها والتي هي على النحو التالي :-
أولاً: قيام الظرف الاستثنائي
ويتمثل هذا الظرف بوجود تهديد بخطر موجه ضد الدولة وهو أهم الشروط اللازمة لقيام هذه النظرية وهذا الخطر الذي قد يكون داخلياً كالكوارث الطبيعية الاقتصادية أو العصيان المسلح والمظاهرات غير المسلحة، وقد يكون خارجياً كالحروب ويستقر الفقه على وجوب توافر وصفين في هذا الخطر وهما الجسامة والحلول وقد ذهب جانب من الفقه إلى أن الخطر يكون جسيماً إذا كان من غير الممكن دفعه بالوسائل القانونية العادية فإذا أمكن دفعه بهذه الوسائل لا يعد جسيماً( )، أما بالنسبة لصفة الحلول فان الخطر الحال يعني أن تبلغ الأحداث أو الظروف حداً تؤدي معه حالاً ومباشرة ً إلى المساس بالمصلحة موضوع الحماية ( ).
ثانياً: استحالة مواجهة الظرف الاستثنائي بالطرق القانونية العادية :-
إن هذا الشرط يعني بأنه إذا ما حدث ظرف استثنائي وكانت هناك قواعد قانونية أو دستورية قادرة على مواجهة هذا الظرف فانه ينبغي اللجوء إلى هذه القاعدة أما إذا لم تكن هناك نصوص قانونية قادرة على مواجهة هذا الظرف ففي هذه الحالة يجب اللجوء إلى نظام قانوني استثنائي لتفادي هذا الظرف على أن يتم ذلك تحت رقابة القضاء الإداري وهو ما ذهب إليه مجلس الدولة الفرنسي في عام 1958 حين أكد على انه إذا كان الموقف الاجتماعي أو الاقتصادي الناتج عن الحرب التي كانت دائرة في الهند الصينية بان السلطات والوسائل التي يملكها الحاكم بموجب القوانين القائمة تكفي لمواجهة متطلبات هذا الموقف دون حاجة إلى أن يتجاوز نطاق اختصاصاته المقررة في هذه القوانين ( )، وعلى هذا الأساس فان التصرف أو الإجراء الصادر لمواجهة هذا الظرف الاستثنائي يجب أن يكون مما تقتضيه الضرورة القصوى وفي حدودها( )، أي أن الضرورة تقدر بقدرها فإذا ما تجاوزت الإدارة لهذا القدر فإنها تعرض نفسها للمسالة وتكون قراراتها عرضة للطعن أمام القضاء بالإلغاء أو التعويض.
ثالثاً:- أن يكون الهدف من النظام القانوني الاستثنائي تحقيق المصلحة العامة
إن شرط المصلحة العامة هو شرط جوهري في كل الأعمال التي تصدر عن الإدارة سواء أكانت الظروف عادية أم استثنائية وان أي عمل تتخذه الإدارة يجب إن يقصد به تحقيق مصلحة عامة وألا تكون الغاية منه الوصول إلى تحقيق إغراض شخصية ( )، وان الإدارة يجب إن تهدف إلى دفع هذه الظروف ومواجهتها للمحافظة على كيان الجماعة وهذا هو الهدف الخاص فإذا ما أخلت الإدارة واستعملت سلطتها الواسعة في أي هدف آخر من أهداف المصلحة العامة كان تصرفها مشوباً بانحراف السلطة.
المطلب الثاني
اثر نظرية الظروف الاستثنائية على مبدأ المشروعية
الفرع الأول
نظرية الظروف الاستثنائية ومبدأ المشروعية
الأصل انه يتعين على السلطة التنفيذية وتطبيقاً لمبدأ المشروعية الالتزام بالقانون في كل زمان ومكان أياً كانت الظروف غير أن هذا الأصل إذا كان صالحاً في الظروف العادية فانه ليس كذلك في الاستثنائية( ) فإذا كان مبدأ المشروعية يفرض على الإدارة أن تتقيد فيما تتخذه من أعمال وتصرفات بأحكام القوانين وبعدم الخروج عليها وان تستند أعمالها وتصرفاتها إلى قاعدة قانونية تجيزها إلا أن ذلك لا يكون كذلك إذا ما تعرضت لظروف غير مألوفة تتطلب الإسراع في اتخاذ التدابير اللازمة لحماية امن الدولة ونظامها العام ومرافقها الأساسية مما يهددها من مخاطر وبالقدر الذي تقتضيها هذه الظروف الطارئة الجديدة.( )
وفي إطار بيان العلاقة بين نظرية الظروف الاستثنائية ومبدأ المشروعية فقد تبنى الفقه تيارين أساسيين( )، الأول ينكر كل قيمة قانونية لنظرية الظروف الاستثنائية ويعتبرها خروجاً على مبدأ المشروعية ولا تستند إلى أي أساس قانوني وهذا هو التيار الأساسي الذي تبنته المدرسة الانكلو أمريكية، أما التيار الثاني فيعتبر نظرية الظروف الاستثنائية قانونية داخل مبدأ المشروعية وتتمثل في ذاتها الأساس القانوني لسلطات الإدارة الاستثنائية وهذا هو التيار القانوني الذي يعد تلك النظرية نظرية قانونية ثبتها الفقه الألماني وجانب من الفقه الفرنسي مع بعض القيود. ويستفاد من ذلك إن نظرية الظروف الاستثنائية تؤثر تأثيرا جزئياً فحسب في قواعد المشروعية غير أن الفقه في تصوره لهذه العلاقة ذهب إلى مذاهب شتى فمنه من يذهب إلى أن نظرية الظروف الاستثنائية تنتج أثارها على مبدأ المشروعية من خلال توسيع قواعد المبدأ بما يؤدي إلى التلطيف من أداء واجبها في المحافظة على النظام العام وسير المرافق ولكن المشروعية ذاتها قائمة.( ) ففي تلك الظروف يتم توسيع المشروعية وتعديل حدودها وهو أمر يجريه القاضي بحكم قوامته على تفسير القانون بما يلائم ظروف تطبيقها فالأمر يتعلق بتفسير قواعد القانون تفسيراً واسعاً يسمح للإدارة بسلطات العمل السريع التي تقتضيه مهمتها لصيانة الأمن وحسن سير المرافق العامة ( ) بينما عبر البعض عن ذات الاتجاه (توسيع نطاق المشروعية) بطريقة أخرى إذ أن الأحكام الدستورية يجب أن تخضع أمام الضرورة العليا لسلامة البلاد وهذه النظرية تمثل استثناءاً وارداً على مبدأ علوية الدستور حيث يوقف العمل بهذا المبدأ لصالح الحكام وتعفى السلطة التنفيذية من احترام الدستور والقوانين إذا ما اقتضت ذلك الضرورات العليا لسلامة الدولة، وتعتبر هذه النظرية استثناءاً من مبدأ المشروعية أو قيداً يرد عليه فالأحكام الاستثنائية للظروف الاستثنائية تتعارض والأحكام العامة في مبدأ المشروعية لذلك يبدو القول بان مبدأ المشروعية يتسع ليشمل طائفتين من الأحكام والقواعد المتعارضة في الهدف والطبيعة والدور قولاً غير دقيق لان توسيع دائرة المشروعية العادية يفترض تناغماً في الحلول وانسجاما في الأحكام أو على الأقل عدم التعارض بينهما. لان طبيعة النظام القانوني الاستثنائي الذي تستخدمه الضرورة يختلف عن النظام المعد لحكم المشروعية في الظروف العادية اختلافاً جذرياً.( )
وان النظام القانوني الاستثنائي للضرورة لا يمكن اعتباره خارجاً عن المشروعية لتقيده بالقواعد الدستورية وهي أهم وأعلى مصادر المشروعية ولا يجوز مخالفتها له على أي نحو شأنها في ذلك شأن القواعد العادية حيث إن الأحكام الاستثنائية التي تخلقها نظرية الظروف الاستثنائية تشكل نظاماً قانونياً يستقل في بنائه عن المشروعية العادية ولكن في الوقت ذاته يشاركه في قاعدة أساسية هي قاعدة دستورية حيث يمثل الدستور بقواعده المصدر الشكلي للقواعد العادية والاستثنائية على حد سواء. ( )
إن إجراءات الضرورة تضل مقيدة بالقيود الدستورية والضمانات المقررة في قواعد الدستور ولا تملك السلطة القائمة على حالة الضرورة التحلل من هذه القيود بدعوى الضرورة أو الظروف الاستثنائية. وتخلق نظرية الظروف الاستثنائية أحكاماً استثنائية يكون لها الأولوية في التطبيق إلى جوار قواعد المشروعية العادية وهو ما يعني أن اثر هذه النظرية لا يقتصر على تفسير النصوص القانونية تفسيراً موسعاً لأحكام الضرورة وان كانت استثناءاً من قواعد المشروعية العادية وهي لا تعتبر استثناءاً من الدستور وإنما استثناء من النصوص التشريعية وان نظرية الضرورة لا تعتبر خروجاً على مبدأ المشروعية لان مصدرها القانوني هو الدستور المقنن لها.وتقيدها بسائر القواعد الدستورية وهنا يبقى اثر إجراءات الضرورة محدوداً بالمجالين التشريعي واللوائح دون أن يمتد إلى المساس بالقواعد الدستورية( ) غير أن هناك اتجاهاً فقهياً يخالف هذا الاتجاه ويرى أن القواعد الدستورية ليست بمنأى عن المساس سواء بالإيقاف أو التعديل وعلى هذا الأساس فان هناك من يقرر بان نظرية الضرورة تجيز للسلطة التنفيذية أن تعمد إلى تعطيل الحياة النيابية أو تعديل الدستور من غير إتباع الأساليب والإجراءات الدستورية.( )
ويؤكد أصحاب هذا الاتجاه بان الأحكام الدستورية والتشريعية يجب أن تخضع أمام الضرورات العليا لسلامة الدولة فيباح في الظروف الاستثنائية لبعض السلطات أن تخرج عن المبادئ العامة وهذه هي نظرية الضرورة( ) وتأكيداً لذلك فقد ذهب البعض إلى أن الدساتير قد أعطت الحكومة الحق بإيقاف الدستور أو تعطيله أو مخالفة نصوصه في بعض الأحوال الاستثنائية لصيانة الأمن ومصالح الدولة الكبرى.( )
الفرع الثاني
ضمانات نفاذ مبدأ المشروعية
من مبادئ المسلم بها خضوع الدولة للقانون ولا يتحقق ذلك إلا بخضوع الحكام والمحكومين على حد سواء لأحكام القانون وذلك بان تتقيد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في جميع أعمالها بالقانون وبأحكامه، حيث يكفل مبدأ المشروعية حماية جدية للأفراد في مواجهة الإدارة التي تملك من القدرات والسلطات ما قد يغريها بالاعتداء على حقوقهم وحرياتهم وذلك بفضل ما يفرضه على الجهة الإدارية من التقيد في تصرفاتها بأحكام القوانين غير انه مهما كانت القيمة النظرية لهذا المبدأ إلا انه يبقى عديم القيمة من الناحية العلمية إلا إذا وجدت ضمانات تكفل امتثال السلطات العامة المضمونة وتقيدها بحدودهم( )
ومهما تعددت الضمانات التي تكفل احترام مبدأ المشروعية فان الضمان الأمثل يكون بتنظيم رقابة قضائية على نشاط السلطات العامة سواء كان هذا النشاط تشريعياً أم إدارياً فهذه الرقابة القضائية تعد مبدأ متمماً ومكملاً لمبدأ المشروعية لأنها تحقق ضمانة أكيدة للأفراد لمواجهة السلطة العامة وتمكنهم من الالتجاء إلى جهة مستقلة محايدة من اجل توقيع الجزاء الناتج عن اتخاذ الإجراءات الإدارية تصرفاً بالمخالفة لما تقضي به القواعد القانونية ويتمثل هذا الجزاء في الحكم ببطلان التصرف المخالف للقانون أو التعويض عن الأضرار التي أحدثها وهنا تظهر فاعلية الرقابة القضائية باعتبارها من أهم ضمانات نفاذ مبدأ المشروعية ذلك أن القضاء يمثل إحدى السلطات العامة يخضع في مباشرة وظيفته للقانون حكمه في ذلك حكم سائر السلطات العامة الأخرى ويتم التحقق من ذلك عن طريق ما تتضمنه القوانين من طرق الطعن في الأحكام وإجراءات رد القضاة ومخاصمتهم غير أن مدى فاعلية هذا الضمان يتوقف على مدى استقلال السلطة القضائية وتمتعها بالضمانات الكافية لصيانة هذا الاستقلال فمتى فقد رجال القضاء استقلالهم وكانت السلطة التنفيذية هي المهيمنة على اختيارهم وترقيتهم وممارستهم لاختصاصات وظائفهم فان الرقابة القضائية في هذه الحالة تفقد فاعليتها ويصبح مبدأ المشروعية غير قائم من الناحية العملية( ) ويوجد إلى جانب هذا الضمان عدة ضمانات أخرى تكفل احترام مبدأ المشروعية ومن هذه الضمانات مبدأ الفصل بين السلطات والرقابة البرلمانية على تصرفات الحكومة وفكرة جمود الدساتير.
المطلب الثالث: تطبيق نظرية الظروف الاستثنائية في الدستور العراقي
تُعدّ نظرية الظروف الاستثنائية من أهم المفاهيم في القانون الدستوري، إذ تُعطي للدولة الحق في اتخاذ إجراءات تتجاوز الحدود القانونية المعتادة عند التعرض لخطر جسيم يهدد كيانها أو نظامها العام. وعلى الرغم من أن الدستور العراقي لسنة 2005 لم يُفرد لهذه النظرية حيزًا رغم أن الدستور العراقي أشار إلى حالة الطوارئ كأداة لمواجهة الظروف الاستثنائية، إلا أن غياب تنظيم قانوني دقيق لها، واستمرار ممارسة السلطة التنفيذية لصلاحيات استثنائية دون سند دستوري صريح، يُعدّ خللًا جوهريًا في البنية الدستورية للدولة. إن تعزيز دولة القانون يتطلب ملء هذا الفراغ التشريعي، وتفعيل الرقابة المؤسسية، بما يضمن حماية الدولة دون المساس بأسس النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان.صريحًا، إلا أن بعض مواده تضمّنت إشارات لها، خاصة في ما يتعلق بإعلان حالة الطوارئ. يهدف هذا المطلب إلى دراسة مدى حضور هذه النظرية في النص الدستوري العراقي، وتحليل مدى تطبيقها في الواقع العملي، وبيان الإشكاليات المرتبطة بها، مع اقتراح بعض الحلول التشريعية والمؤسساتية.
تنص المادة 61/تاسعًا من الدستور العراقي لسنة 2005 على ما يلي:
"أ ـ الموافقة على إعلان حالة الطـوارئ بأغلبية الثلثين بناءً على طلب مشترك من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء.
ب ـ تُعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثين يومًا قابلة للتمديد وبموافقة عليها في كل مرة.
ج ـ يُخول رئيس مجلس الوزراء الصلاحيات اللازمة التي تمكّنه من إدارة شؤون البلاد خلال مدة إعلان حالة الحرب وحالة الطوارئ، وتُنظم هذه الصلاحيات بقانون بما لا يتعارض مع الدستور."
يتضح من النص أن تطبيق نظرية الظروف الاستثنائية في العراق يشترط:
- وجود حالة حرب أو ظرف استثنائي.
- تقديم طلب مشترك من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.
- موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب.
- تنظيم صلاحيات رئيس الوزراء بقانون.
- عدم مخالفة هذه الصلاحيات لأحكام الدستور.
- عرض الإجراءات المتخذة على مجلس النواب خلال 15 يومًا من انتهاء الحالة.
التطبيقات العملية في العراق
من أبرز التطبيقات العملية لنظرية الظروف الاستثنائية:
1. الحرب ضد داعش (2014–2017 )
• لم يُعلن عن "حالة الطوارئ" رسميًا رغم أن الدولة كانت في حالة حرب فعلية.
• الحكومة اتخذت إجراءات استثنائية واسعة مثل:
o تسليح الحشد الشعبي،
o تنفيذ أوامر اعتقال جماعية،
o التنسيق الأمني دون الرجوع للبرلمان أحيانًا.
ملاحظة: لم يُفعّل النص الدستوري بشأن حالة الطوارئ رغم الحاجة لذلك، ما يُظهر ثغرة في التطبيق.
2. احتجاجات تشرين 2019
• استخدمت الحكومة آنذاك القوة ضد المتظاهرين، وفرضت بعض التدابير الأمنية.
• لم يُعلن عن حالة طوارئ دستورية، لكن الممارسات كانت استثنائية.
نقد قانوني للمادة 61 من الدستور العراقي:
1 - غموض في تحديد أغلبية الثلثين: لم يُحدد النص ما إذا كانت الأغلبية تُحسب من الأعضاء الحاضرين أم العدد الكلي، مما يفتح الباب لتأويلات سياسية متضاربة.
2 - عدم التمييز بين الحرب الدفاعية والهجومية: النص ساوى بين الحرب الهجومية والدفاعية دون مراعاة للشرعية الدولية، مما قد يجيز قرارات هجومية تتنافى مع القانون الدولي.
3 - الاشتراط المزدوج لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء:هذا قد يُفضي إلى تعطيل القرار التنفيذي في حالة الخلاف بينهما، رغم أن طبيعة نظام الحكم في العراق برلمانية، ورئيس الجمهورية لا يملك صلاحيات تنفيذية مؤثرة.
4 - غياب تعريف دقيق للظرف الاستثنائي: لا يوجد معيار موضوعي يحدد ما يُعد ظرفًا استثنائيًا، مما يفتح المجال لتقدير سياسي فضفاض
5 - قصور في الرقابة البرلمانية أثناء الطوارئ:لا يوضح النص طبيعة الرقابة أثناء حالة الطوارئ، ولا الإجراءات الملزمة التي تضمن محاسبة السلطة التنفيذية.
6 - غياب الحماية الدستورية للحقوق الأساسية:لم ينص الدستور على حدود التعليق الممكنة للحقوق والحريات، مما يشكل فراغًا تشريعيًا خطيرًا.
7 - غياب قانون طوارئ مفصل:رغم الإشارة إلى تنظيم الصلاحيات بقانون، لا يوجد حتى الآن قانون حديث يحدد بدقة صلاحيات السلطة التنفيذية في حالة الطوارئ.وعليه، فإن المادة 61تاسعًا من الدستور العراقي، على الرغم من أهميتها، تحتاج إلى تعديل تشريعي واضح يُعزز الضوابط القانونية، ويضع قيودًا صارمة على استعمال السلطة الاستثنائية، مع ضمان عدم المساس بالحقوق الأساسية للمواطنين، والحفاظ على التوازن بين السلطة والحرية في أحلك الظروف.
اعداد د. ياسر الزبيدي
#ياسر_حسن_حسين (هاشتاغ)
Yaser_Alzubaidi_Phd#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟