سليم نزال
الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 11:31
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في قلب المشرق، حيث التقت الجبال بالبحر، والتاريخ بالأسطورة، نشأت حضارة الكنعانيين، أولئك الذين شيّدوا المدن وبنوا السفن وغامروا في البحر.
لم تكن بلاد كنعان مجرد أرض؛ كانت فسيفساء من المدن والممالك: صور، صيدا، جبيل، أريحا، حاصور، دمشق، بيت شان... كل منها تعيش عالمها الخاص، بإلهها، بملكها، بمينائها، بسورها. لم تُبنَ بينها جسور المصير المشترك، ولا نُسجت بينها فكرة "نحن" الجامعة.
وربما في هذا يكمن السر: في غياب فكرة وحدة المصير، لا في ضعف الجيوش ولا في جشع الغزاة. فمن المصريين إلى العبرانيين، ومن الآشوريين إلى البابليين، ومن الفرس إلى الإغريق والرومان، كلهم دخلوا كنعان، ليس لأنهم كانوا أقوى فقط، بل لأن الكنعانيين كانوا منقسمين على أنفسهم، مشغولين بتدبير شؤون مدنهم أكثر من التفكير في شؤون أمتهم.
لم يظهر في التاريخ الكنعاني قائد حمل راية التوحيد السياسي أو الفكري، لم يجمع المدن تحت راية واحدة، ولا نشأت عندهم مركزية روحية أو قومية جامعة. فكانت كل مدينة تقاتل وحدها، تخضع وحدها، وتُنسى وحدها.
قد يقول قائل إن الجغرافيا لعبت دورها: الجبال التي تفصل المدن، الصحارى التي تعزل، السواحل التي تُغري بالتوجه نحو البحر لا الداخل. وقد يقول آخر إن العقلية التجارية بطبعها عقلية براغماتية، لا تحلم بوحدة سياسية، بل تسعى للربح والاستقرار. وثالث يضيف: التعدد الديني نفسه بعل هنا، وعناة هناك، وملكارت هنالك حال دون ظهور عقيدة موحِّدة.
لكن لعلّ السبب الأعمق أن الكنعانيين، رغم حضارتهم، لم
يطوّروا فكرة "نحن" الجمعية
. و لم ينظروا إلى بعضهم كجسد واحد، بل كجيران متنافسين.
ومن المفارقة أن هذا المأزق الكنعاني ما زال يتكرر في حاضرنا. ففي بلاد الشام اليوم، التي ورثت الجغرافيا الكنعانية، ما زلنا نعيش تفتت المدن، وتشرذم الهويات، وتعدد الولاءات. وكأن لعنة الغياب الأول غياب وعي المصير ما زالت قائمة.
هل من خلاص؟
ربما في طرح السؤال ذاته يكمن الأمل.
لكن لا يكفي أن نُسائل التاريخ، علينا أن نُصارحه. وأن نعيد إنتاج "الكنعانية" لا كاسم جغرافي أو إثني، بل كدعوة معاصرة لوحدة المصير.
#سليم_نزال (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟