سعاد الراعي
الحوار المتمدن-العدد: 8416 - 2025 / 7 / 27 - 18:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قراءة إنسانية في ملامح البطولة
في خضم العاصفة السياسية التي اجتاحت العراق والمنطقة في خمسينيات القرن العشرين، يسطع اسم سلام عادل لا بوصفه رقماً في معادلة حزبية، بل باعتباره ضميرًا حيًّا ورمزًا استثنائيًا، اجترح من القيم والمبادئ جسورًا بين الشعب والحزب، ومن الحكمة صراطًا يهتدي به سالكو دروب الثورة. لم يكن قائدًا سياسيًا فحسب، بل إنسانًا يفيض وعيًا، ويمتاز برقّة الشعور، وشجاعة في الموقف، ونُبل في الفعل، لا تزعزعه عواصف الأنانية الحزبية، ولا تستهويه غوايات السلطة؛ بل مضى في طريقه متسلّحًا بالبوصلة الأخلاقية التي كانت تنبض في أعماقه.
سلام عادل في تلك المرحلة لم يكن صوتًا مرفوعًا في وجه الخصوم فحسب، بل ضميرًا وطنيًا يختزن بلاغة الفداء، ويجيد صمت الحكماء في زمنٍ غصّت به الشعارات وضجّت به السيوف ويتجللا ذلك في.
أولًا: مواجهة التفرد وإصراره على القيادة الجماعية (حميد عثمان نموذجًا)
حين تسلّم قيادة لجنة بغداد عام 1954، كانت المدينة ترزح تحت وطأة القمع الأمني، لكنه لم يكن من أولئك الذين يضطربون في الظلال، بل بدا كما لو كان عازفًا ماهرًا يُنَظّم إيقاع المقاومة وسط الضجيج. لم يكن قائدًا يوجّه من برج عاجي، بل من قلب الشارع، بين العمّال والطلبة والنساء الكادحات، حيث تُصاغ السياسات بلغة الحياة اليومية لا ببلاغة المكاتب.
من بين المبادرات التي قادها بروح إنسانية فريدة، كانت حركة أنصار السلام عام 1954، لم يطرحها كشعار أجوف، بل كمشروعٍ أخلاقي، رؤيويّ، يُجسّد السلام لا بوصفه نقيضًا للنضال، بل شريكًا فيه. السلام في عينه كان وليد الرماد لا الاستسلام، وسليل كدّ البسطاء لا رغد المنتفعين، وكان جزءًا لا يتجزأ من المشروع الوطني المقاوم.
ورغم حزم سلام عادل التنظيمي، فإن صفحاته تكشف عن روحٍ شفيفة: كان يُتابع الرفاق لا بعين الرقابة، بل برعاية من يعرف أن الحزب لا يُبنى بالأوامر، بل بالأفكار. كان يُعلّم، ويُشجّع، ويُصغي، ويصوغ حزبًا من العقول لا من التابعين. حتى في التفاصيل الصغيرة" كالنشرات ولغتها „لم يكن يفرض، بل ينصت لنبض الناس.
بلاغة الصمت ومهارة الحضور
في مواجهة العواصف الكبرى، اختار سلام عادل أن يكون جذرًا لا غصنًا، صمتُه لم يكن تراجعًا، بل موقفًا أبلغ من الخطب. حين كان بعض الرفاق يلوّحون بالمبادئ كما السيوف، كان هو يُذيب تلك الحِدّة في كأس الحكمة، صونًا للوحدة الحزبية، ودرءًا للتمزق الوطني.
وفي خضم التوترات الحادة: من مشروع الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، إلى العلاقة الشائكة مع عبد الكريم قاسم، مرورًا بأحداث كركوك واستقلال الكويت" لم يكن سلام عادل خطيب انفعال، بل صوت العقل والاتزان، لا يُساوم على الجوهر، ولا يُجرّ خلف ردود الفعل. وحين وقعت مجزرة 8 شباط 1963، لم يُطلِق خطاب وداع، بل غادر الدنيا بصمت المنتصر أخلاقيًا، تاركًا خلفه أثرًا لا يمّحي في ضمير البلاد.
ومن اللحظات الكاشفة عن معدن الرجال، كانت مواجهة سلام عادل لتفرّد حميد عثمان بالقيادة. لم تكن معارضته مدفوعة بطموح شخصي أو سعيًا للظهور، بل كانت تعبيرًا حيًّا عن التزامه العميق بمبدأ القيادة الجماعية، ذلك المبدأ الذي رآه تجسيدًا للديمقراطية الداخلية، واحترامًا لعقل الجماعة.
حين حاول عثمان أن ينسج خيوط الإقصاء عبر تكليفه بمهمّة شكلية لتفتيش منظمة "نوبية"، متوقعًا أن يصطدم بها تمهيدًا لعزله، كان رد سلام عادل نزيهًا ونافذًا. قبل المهمة، لكنه تساءل عن شرعية صفة "المفتش" التي لا أساس لها في النظام الداخلي للحزب. لم يكن سؤاله شكليًا، بل كان رسالة مبطّنة، فضحًا لانحراف المنهج، ودعوة للعودة إلى جذر المؤسسات، لا فروع الأهواء.
وعندما جاءه تكليف آخر بقيادة فرات الاوسط، أجاب بجملة تُدرّس في أخلاقيات العمل السياسي:
"موافق، وسأذهب، ولكن أرجو بحث ما بيننا في أول اجتماع قادم للجنة المركزية."
بهذا الرد، وضع القانون فوق الأهواء، والمبدأ فوق الأشخاص، وأثبت أن الأخلاق في السياسة ليست ترفًا بل ضرورة.
هكذا كان سلام عادل: رجلًا من لحم الفكرة ودم المبادئ، مضى في دربه غير هيّاب، كأنما ولد ليكون صوت الضمير حين تصمت الأصوات، ولغة العقل حين تغمر الدنيا بالعواصف.
ثانيًا: العمل في الفرات الأوسط – معركة الإنسان والكرامة
لم يكن انتقال سلام عادل إلى قيادة الفرات الأوسط مجرّد حركة تنظيمية عابرة، بل كان تحوّلًا وجوديًا في مسيرة رجل أدرك أن السياسة، إن لم تكن تجسيدًا للعدالة ومرآة للكرامة، فهي وهمٌ أجوف. لم ينظر إلى الفلاحين ككتلٍ بشرية أو أرقام في تقرير حزبي، بل رأى فيهم أرواحًا مثقلة بالجوع والخذلان، متعطّشة للإنصاف، تنشد الكرامة قبل الخبز.
خطته كانت جليّة: أن يُبنى التنظيم من الأرض، لا من المكاتب؛ من الريف، لا من العاصمة؛ من المعاناة، لا من التنظير. وهكذا اندمج في صميم حياة الفلاحين، من الرميثة إلى الشويجة، ومن البو حسان إلى أعماق القرى المتوارية عن خرائط السلطة، حيث اندلعت شرارات الانتفاضات بفضل تعاطفه الحيّ مع نضال الناس ضد الإقطاع والحرمان.
كان ينام متأخرًا، بين دفتي كتاب أو فكرة، وبين يديه ورقة وأمل. وكان يسهر لا مدفوعًا بالقلق الشخصي، بل بهواجس البسطاء وآلامهم. يروى أحد رفاقه قائلًا: "حسبت أنه قد نام، وإذا به بعد ساعة يقول: يبدو أن لدي فكرة لعمل فلاحي جديد."
تلك ليست شهادة على فِعلٍ سياسيٍّ فقط، بل على ضمير لا ينام، وروحٍ لا تستريح ما دامت الأرض تنزف جوعًا.
في تنقّله بين مدن الفرات الأوسط، لم يكن سلام عادل قائدًا يُنقل بقرار حزبي فحسب، بل حاملًا لرسالةٍ إنسانية أينما حلّ. لم يَسْعَ خلف اللافتات أو الهتافات، بل أنصت للناس، لأحزانهم قبل طموحاتهم، لنبضهم العميق الذي لا تسمعه الميكروفونات.
كما وصفته رفيقة دربه، ثمينة ناجي، كان رجلًا يُصغي، يتفاعل، ويتحدّر قراره من وجدان الناس، لا من تنظيرات الكتب. كان يُعلّم الأطفال الرسم، لا بوصفه هواية، بل كتمرين على الحلم. وكان يُخرج المسرحيات كأنها بيانات ثورية على خشبة الخيال، حيث يُستنهَض الوعي لا بالغضب وحده، بل بالأمل والحب والانتماء.
لم يكن يُربّي الرفاق بالأوامر، بل بألفة الحضور؛ لم يفرض احترامه، بل احتواهم بمحبة العقل وعدالة القلب. أحبه الطلبة والأساتذة والعسكريون، لأنه لم يكن غريبًا عنهم، بل واحدًا منهم.
في الديوانية، جلس بين الطلبة، ورافق قلقهم، وشاركهم نضالهم في معركة الانتخابات عام 1954، لا طلبًا للسلطة، بل تأكيدًا أن الشعب يجب أن يكون جزءًا حيًّا من القرار السياسي.
ورغم أن الخطر كان يُحدّق به كل لحظة، ظلّت إنسانيته متوهّجة: يبتسم للأطفال، يكتب، يقرأ، ويخطط، كما لو أن الحلم ممكن رغم كل الجدران.
كان رجلًا لم تبتلعه الخشية، ولم تسكن قلبه سموم السلطة. وفي كل مدينة مرّ بها، ترك أثرًا لا يُمحى: وعيًا متوهّجًا، علاقة صادقة، أو حكاية تروى وتُلهم.
ثالثًا: انتخابه سكرتيرًا للحزب – من الأخلاق إلى الفعل
في حزيران عام 1955، انتُخب سلام عادل سكرتيرًا للحزب بعد تجميد عضوية حميد عثمان. لكن المفارقة أن لحظة صعوده لم تكن مشهد احتفال، بل ومضة صامتة من التواضع والمسؤولية. لم يُبدِ فرحًا، ولم يتباهَ، بل قال بهدوء:
"لقد جُمدت عضوية حميد عثمان... وانتخبوني بدلاً عنه. خطتي: توحيد الحزب، والقضاء على الانشقاقات، وإقامة الجبهة الوطنية."
لم تكن في عبارته نبرة انتصار، بل إحساس ثقيل بثقل المرحلة، وإدراك عميق أن المنصب ليس تشريفًا، بل تجسيد لواجبٍ أخلاقي جسيم.
كانت تلك اللحظة بمثابة تحوّل من الإنسان الحالم إلى الإنسان الفاعل، من الأخلاق المجردة إلى الفعل السياسي المسؤول. كان سلام عادل ضميرًا حيًا في جسدٍ منهك، يقاوم لا فقط من أجل حزب، بل من أجل إنسانية مهدّدة بالوأد.
مكانه كان دائمًا على التخوم: بين الصمت والكلمة، بين الطاعة والنقد، بين الحنان والانضباط، بين الفكرة والرحمة.
فيما بين السطور من حياته، لا نقرأ مجرد سيرة مناضل، بل نلتمس صراعًا داخليًا عميقًا بين المثال والممكن، بين الوفاء للمبادئ والوفاء للناس. وما ينتصر فيه دائمًا ليس الفكرة المجردة، بل الإنسان حين يُنقذ الفكرة من التحجر.
لهذا، لم يكن سلام عادل رجل حزبٍ فقط، بل رجل قضية، رجل وفاء لا يتزعزع، رجل أحلام الفقراء، وبوصلة الأمل في زمن الخيبات.
لقد كان من طينة الأبطال الذين لا يُصاغون بالبيانات، بل يُنحتون بالصبر، وبجراح الكرامة، وبشرف التضحية الطويلة.
رابعًا: قرارات تموز 1955 – السياسة كأخلاق
قرارات اللجنة المركزية التي قادها سلام عادل لم تكن جملًا سياسية باردة، بل تجسيدًا لرؤية اجتماعية وإنسانية عميقة. نادت بالحرية والديمقراطية والدستور، ورفضت الخضوع للإملاءات الاستعمارية. ودعت إلى تعبئة الجماهير للنضال في سبيل الحريات.
لقد واجهت هذه القرارات لاحقًا سخرية الكتلة المتزمتة، لكنها كانت تنضح بوعي إنساني عالٍ: الكفاح لا يُخاض بالشعارات، بل بربط القضايا السياسية بآلام الناس، وبصناعة الأمل الممكن. وكانت هذه هي سياسة سلام الحقيقية: جعل السياسة فعل حب، وفعل خلاص جماعي.
حين تقود المبادئ، جبهة الكفاح الوطني
لم يكن دخول الحزب الشيوعي العراقي في جبهة الكفاح الوطني وليد مصلحة عابرة، بل كان ثمرة قراءة ثاقبة للواقع، وإيمان حقيقي بأن وحدة الصف هي الخطوة الأولى لتحرير البلاد من الاستعمار.
لقد قدّم الحزب، بإرادة صلبة وتنازلات نبيلة، نموذجاً في تقديم الوطن على الحزب، وكان سلام عادل مهندس هذا التوازن الدقيق. برز حضوره الأخلاقي والسياسي في المواقف المصيرية: مناهضة حلف بغداد، التضامن مع مصر إبان العدوان الثلاثي، دعم انتفاضة تشرين 1956، الدفاع عن حقوق الأكراد، وتأسيس جبهة الاتحاد الوطني التي مهدت فيما بعد لثورة 14 تموز 1958.
كل تلك المبادرات لم تكن مجرد صفقات سياسية، بل فعلًا صادقًا في إعادة اللحمة الوطنية ودعوة للمصالحة بين الوطن وذاته. كان سلام عادل يؤمن أن السياسي لا يُقاس بعدد شعاراته، بل بقدرته على الإصغاء، على التراجع متى اقتضت مصلحة الجماهير، والتقدم حين تستدعيه اللحظة.
المثقف الثوري: من التنظير إلى الفعل
ما يميز سلام عادل في تلك الفترة أنه لم يكن مفكرًا يكتفي بالتنظير، بل بإنسانية القائد نزل إلى الشارع، ناقش البسطاء، كتب الميثاق الوطني بلغة الناس، لا بلغة النخبة. رأى أن الثورة تبدأ من تصحيح العلاقة مع الجماهير، وأن أولى معارك التحرير هي محاربة الاستبداد الداخلي داخل الحزب والسلطة وفي بنية المجتمع.
رفض التحالفات الفوقية، وهنا تظهر عبقريته السياسية الأخلاقية: لا يرضى بالنصر السريع إن كان ذلك سيكلف الناس وحدتهم، ولا يقبل بالتحالف ما لم يخدم الهدف الأسمى. وأصرّ على أن يكون كل اتفاق ثمرة نضج شعبي. كانت نظرته للثورة جذرية، لكنها إنسانية: الثورة ليست فعل قطيعة، بل فعل وصل، وليست شهوة سلطة، بل مشروع تحرير أخلاقي. سلام عادل في هذه الصفحات ليس رجلًا يصنع الأحداث فقط، بل رجلٌ يُهذّبها. ليس قائدًا يُصدر الأوامر، بل إنسانٌ يُصغي أولًا لصوت الوطن، ولآهات الناس، ولخطى التاريخ القادمة من الأفق.
ثورة داخل الحزب بثوب إنساني
ما فعله سلام عادل لم يكن إعادة ترتيب تنظيمي، بل ثورة هادئة داخل الحزب. حوّله من هيكل بيروقراطي إلى كيان حي ينبض بالحب والمسؤولية. فتح أبواب المشاركة، شجع على النقد، ورفض تقديس القادة.
عاد الرفاق إلى الحزب، لأنهم رأوا فيه ضميرًا لا سلطة، ورأوا في قيادته نموذجًا يُحب، يُصلح، ويُعلّم.
حين تتولى القيادة أرواح مثل سلام عادل، تتحوّل السياسة إلى فعل وفاء. لم يسعَ إلى المجد، بل إلى بناء أمل. لم يطلب الهتاف، بل رغب في الوعي. ومضى في طريقه، محاطًا بالحب، مُسلحًا بالإيمان، ثابتًا في المبدأ، نقيًا كالحلم، حيًّا في الذاكرة.
سلام عادل، هو القائد الذي لم يتسلّق على ظهر الجماهير، بل سار معها، وتقدّمها حين احتاجته، ووقف خلفها حين حان أوان الحصاد. هو الإنسان الذي ارتقى فوق اللحظة، ليكون سيرة تتعلّم منها الأجيال، وضميرًا باقٍ رغم الغياب.
**
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟