أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مالك مجباس - بصقة في وجه العالم: عن المذابح الدينية















المزيد.....

بصقة في وجه العالم: عن المذابح الدينية


مالك مجباس

الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 08:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


[لا نعرف ماذا نصنع ونحن نشاهد ما يحدث في سوريا وفي غزة]… هكذا قالها زياد معلول لي عبر الهاتف، وكان صوته يتكسّر كزجاجٍ تحت أقدام هاربٍ عن وطنه، وكأنّ في صدره مدينةً كاملةً تُقصف كلّما حاول أن يتنفّس. قال لي: [في غزة، التوراة تذبح بلا مواربة، بصوت يهوذا، تقرؤها البنادق والمسيرات والصواريخ على رؤوس الأطفال قبل أن تسلخ أمهاتهم من الحياة.. وفي سوريا، القرآن يقتل، تكبيرات قرآنية حمراء، يُرتّلونها فوق المقابر الطازجة ثم يشحذون السكاكين باسم الرب الأحمر!]
زياد الذي كان قبل بضعة أعوام فقط يجلس جواري في بانياس الساحلية، نحتسي القهوة عند شرفةٍ مطلّةٍ على زرقةٍ بحريةٍ تتصل بالسماءِ الصافية، صار اليوم نقطةً تتحرّك على خريطة الحدود. يرحل تاركًا بيته الذي بُنِيَ حجرًا حجرًا مطلًّا على شاطئٍ يبلّل أحلام الصغار. يهرب الآن من مدينته التي ترعرع في حاراتها خمسين عامًا وسنة، يهرب بعدما صار شبه ميتٍ ذات صباحٍ حينما وجد زوجته وأطفاله مسفوكي الدم على بلاط الدار، مذبوحين على وقع التكبيرات، وكأنّ الله يُستدعى من عليائه ليبارك هذا المذبح الصغير!
لم أجد في الكلمات متّسعًا أواسيه به، فما معنى العزاء بعد الفقد العظيم، إذا كان القاتل ينطق باسم السماء؟ وما جدوى الصبر إذا كانت أبواب الجنّة تُفتح من خاصرة طفلةٍ تُذبح قبل أن تحفظ اسمها كاملًا؟
ما الذي جناه هذا الكوكب حين صدّق أول كاهنٍ قال إن السماء تكلّمت؟ أيّ فجرٍ كاذبٍ هذا الذي توهّم فيه الإنسان أنّ كلمةً تهبط من عرشٍ غامضٍ ستخلّصه من ذعره الأول؟ فكانت النتيجة أن صار لكل كلمةٍ سكين، ولكل آيةٍ مقصلة، ولكل نبيٍّ جيشٌ يعدّ القتلى من أجل الوعد البعيد.
ظلّ زياد يردّد: «هذه ويلات أنبيائهم! كلّهم، أنبياؤهم الذين جاءوا بدمٍ مغلّفٍ بالكلمات، مزخرفٍ بوعودٍ لم تتحقّق إلّا في المقابر. التوراة هناك تنفخ في النار الداوودية كي تحرق كلّ من يقف خلف الأسلاك من الأغيار. والقرآن هنا يُغمد في القلب سكينًا باسم الله الإسلامي الذي يبدو أنّه قد طلب من شلّةٍ قذرةٍ أن يقطّعوا الأحشاء ليسكن في خرابها وبين شطوط دمائها!»
وها أنذا أشاهد شاشات التلفاز وهي تنقل مشاهد الموت اليومي.. سلفية، يهودية، صهيونية، إسلامية.. مجرمون متشابهون، وجوه دموية وضحايا بلا أجساد..
ها هي الأرض التي تئنّ تحت خطى القتلة المقدّسين، تتساقط فوقها الرؤوس والرصاص معًا.. في غزة، في سوريا، وفي غير سوريا، تتجدّد حكاية الذبح على إيقاع التكبير..
ثمّة من يريد لهذه المنطقة أن تظلّ محرقةً دائمة. الكيان الذي زرعته قوى الاستعمار في قلب التاريخ كي يكون جرحًا لا يلتئم، لا يزدهر إلّا إذا تحوّل الجوار إلى براكين صغيرة من الطائفية والدم. فمن ذا الذي سيهتمّ بفلسطين إذا كانت الشوارع تسبح في دماء أبنائها باسم الفتوحات القادمة؟ من ذا الذي سيجرؤ على مواجهة المحتلّ إذا كان شقيقه ينهش عنقه تحت راياتٍ تزعم الخلافة؟ يتواطأ الجميع: بترولٌ يُهرَّب، سلاحٌ يُضَخّ، شاشاتٌ تُصفّق، ومؤخّراتٌ تهتزّ أمام عيون العملاء، ووجوهٌ صفراء في العواصم الكبرى تكتفي بضحكةٍ باردة.
هكذا تُسحق المدن، ويُعاد تشكيل الخرائط. باسم المقدّسين وباسم الرب الأحمر وصورته البائسة؛ التي هي -بالتأكيد- ليست سوى مجرّد قناعٍ تضعه القبائل الجديدة فوق وجهها كي تُقنع ضحاياها أنّ الذبح قداسةٌ لا جريمة. وحين تفرغ الحقول من الحياة، وتكتمل المقابر، تعود الجرادُ إلى مملكة الرمل التي خرجت منها ذات يوم، تحتفظ بكنوزها من الذهب الأسود، وتحرس أطلال نصوصها كي تظلّ وقودًا جاهزًا لأي موتٍ قادم!
إنه مجاز سورياليّ مسمومٌ وخانق!!
الذي يصرخ باسم الصهيونية والدولة الإسلامية اليوم، ذاك الذي يغرق ريش جناحيه بدم جاره، ليس شاذًّا عن مسارٍ ابتدأ حين قرّر أول حبرٍ أن يُفرِّق البشر إلى مؤمنين وكافرين.
ولستُ متعجبًا حين وجدتُ صديقتي المسيحية المتديّنة وهي تصلّي من أجل الصهيونية وبيبي نتنياهو المخنّث.. ما الغريب ما دام الدين هو الدين!! فما اليهودية إلّا جذورٌ تبرعم منها غصن المسيحية، ثم جاء الإسلام ليشدّ الحبل حول عنق العالم أكثر. كُتُبٌ تلعن بعضها بعضًا، وكلّ كتابٍ يزعم أنّه كلمة الله الأحمر، وكلّ جماعةٍ تُقسم أنّ النار ستأكل من خالفها، وأنّ السماء وحدها لهم، وأنّ الأرض إن لم تخضع لهم وجب أن تُحرث بسيوفهم.
هكذا صار سفك الدم مقدّسًا، وصار القتل طقسًا، وصار الذبح قربانًا للغائب الذي لا يظهر. آلاف الأعوام، والأرض لا تنشف من لعنة الأديان الثلاثة. ملايين الصلبان رفرفت فوق ميادين صارت مدافن، ثم جاء الهلال ليواصل الطواف حول الرقاب، يقطع من تجرّأ أن يسأل أو يشكّ. ثم يطلّ النجم السداسيّ من خاصرة التاريخ، يحرس بدموعه المسمومة دولةً لا تحيا إلّا إذا مات حولها الجميع.
أيّ خدعةٍ هذه التي جعلت الإنسان يبيع عقله مقابل عناقٍ موهومٍ من السماء؟ أيّ ليلٍ هذا الذي جعلته الأديان أطول من عمر الشمس، حتى صار الفجر نفسه كذبةً أخرى تُنشدها المآذن والكنائس والمعابد في سباقٍ أعمى نحو الخراب؟ إنّ الذي يُقتَل في حلب والساحل والسويداء باسم الله الأحمر، يُقتَل في غزة باسم يهوه الأحمر..
وهل الله الأحمر سوى اسمٍ آخر للخوف القديم؟ وهل الأنبياء سوى أسلاف السيف الذي لا يصدأ؟
إنّ الذي يخشى قولها يمدّد عمر الكذبة. فالدين بذرة الخراب الأولى، كُتُبٌ أُغلِقت على عقول البشر، وحوّلت حرّيتهم إلى قفصٍ من حلالٍ وحرامٍ ورجاءٍ بعالمٍ مؤجّل. الدين هو خيمة القاتل وذريعة الجلّاد وحبل النجاة الكاذب الذي يشدّ الغارق نحو قاعٍ أعمق. الدين هو السكين الذي تراه اليوم في يد السلفي الذي يذبح طفلًا في ريفٍ سوريّ وهو يهتف بالتكبير، كما كان السكين الذي قطع رأس مجدّفٍ في محاكم التفتيش وهو يهتف بالمسيح وصليبه، وكما السكين الذي ذبح الفلسطيني باسم التوراة المرفوعة فوق هيكلٍ لم يُبْنَ إلّا من جثث الذين صُلِبوا وقُطِّعوا أشلاء بلا رحمة.
كم هائل من المذبوحين والمنكوبين.. لا السماء تهتمّ، ولا الأرض تشبع من دماء الضحايا. وما بين هذه الآيات التي حفظها الناس ظهرًا عن قلبٍ، يموت القلب وتبقى الآيات تتناسل موتًا آخر، وغدًا آخر، وقيامةً جديدةً تُؤجَّل دائمًا كي لا يُسأل القاتل عن جريمته. وما كانت الكلمة يومًا إلّا فخًّا كبيرًا، تآمر فيه النبيّ والملك والكاهن معًا ليبقوا الشعوب ساجدةً تحت سيوفهم.
إن كانت الأرض ستشفى يومًا، فلعلّها تحتاج أوّلًا أن تُكفِر بما نزل من غمامٍ ثقيلٍ اسمه الأديان. لعلّها تحتاج أن تقول: لا نبيّ بعد اليوم، لا سماء بعد اليوم، لا تكبير ولا تهليل ولا صلبان ولا نجوم سداسية ولا هلالًا ولا كتابًا يُتلى فوق جماجمنا. يكفي ما قيل، يكفي ما ذُبِح، يكفي هذا الخراب المقدّس الذي لن يتطهّر إلّا إذا تحرّر الإنسان من فكرة أنّ الدم يُقرّبنا من الجنّة!
لكن هذا الحلم المستحيل يبدّده صوت زياد وهو يلعن الأرباب جميعهم: «لا خلاص من دين أبناء العاهرات.. كلّهم قتلة ومجرمون..»
وحده الدم يعرف الطريق، ووحده الخراب يحفظ الذاكرة. وما دام في الناس جوعٌ لمفهوم الخلاص، سيظلّ هناك من يُتقنُ بيع مفاتيح الجنّة على أبواب الجحيم. فلا التاريخ يتوب، ولا الجغرافيا تُفلِت من لعنة الرمل، ولا النفوس التي مزّقتها الهزائم تعرف كيف تُشفى. وكلّما بدا أنّ ثمّة أملًا يُولد، خرجت من تحت الأنقاض ألف يدٍ تحمل سيفًا جديدًا وتصرخ باسم الربّ الأحمر القديم: الله أكبر!!
.....
......

* مستعيرًا العنوان من رواية الفريد فؤاد التكرلي: "بصقة في وجه الحياة"



#مالك_مجباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمريكانية المُهَجَّنة/ عن المسوخ
- الوظائف السردية والدلالية بين الواقع والمتخيل في رواية ( الث ...
- التعصّب والطائفية: الجذور النفسية والاجتماعية والدينية والفل ...
- غزة، حين تصير الأرضُ مقبرةً للريح
- رصاصةٌ للبحر.. ووردةٌ للدم
- توراتهم الملوّثة وخرائطنا المحترقة: في ظلال الحرب الأخيرة
- خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان
- الدولة الدينية: حين يتخذ القمع وجه الإله


المزيد.....




- حين تتسلق الروح جسدها المنكوب... قراءة في رواية -أرواح كليمن ...
- مصر.. التحقيق مع أستاذة جامعية بعد فتوى -إباحة الحشيش-
- إتحاد علماء المسلمين يطالب شيخ الأزهر بإصدار فتوى نصرة غزة
- قبة الخضر إحدى قباب المسجد الأقصى
- مصدر قضائي لبناني: تفكيك مخيم تدريبي لحركة حماس والجماعة الإ ...
- مصر.. علاء مبارك يشعل تفاعلا برده ساخرا على مصطفى بكري عن نف ...
- حاخام يهودي يقر بتأخره في وصف جرائم الاحتلال في غزة بالإبادة ...
- رويترز: إسلاميو السودان يتطلعون للعودة بعد الحرب عبر دعم الج ...
- الجهاد الاسلامي: تصريحات ويتكوف تعكس نوايا مبيتة لاستمرار ال ...
- أحمد هارون: الحركة الإسلامية في السودان قد تعود إلى السلطة


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مالك مجباس - بصقة في وجه العالم: عن المذابح الدينية