أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - مالك مجباس - الأمريكانية المُهَجَّنة/ عن المسوخ















المزيد.....

الأمريكانية المُهَجَّنة/ عن المسوخ


مالك مجباس

الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 08:19
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


لدي صديقةٌ عراقيةٌ تحمل الجنسية الأمريكية، تملأ صفحتها بصور الطائرات اللامعة والصواريخ الذكية، تتباهى أمامنا جميعًا بذلك «التقدّم» الذي يُحلّق فوق رؤوسنا ليُسقط حمولته على بيوتٍ من طينٍ وأجسادٍ هزيلةٍ تنتظر كسرة خبزٍ عند الفجر. صديقتي هذه ترفع شعارات الديمقراطية وتمدح «عظمة» ترامب، تضحك من تهليله للدماء، وتلعن أبناء الحجارة الذين لم يجدوا سلاحًا يحرس حقّهم في العيش سوى قبضاتهم العارية وصبرهم المرّ. تتحدّث عن الحضارة وكأنّها حكرٌ على من يملك الزرّ الذي يطلق الصاروخ، وكأنّ دمنا لم يُخلق إلّا ليكون حقل تجاربٍ لأحدث تكنولوجيا الفتك. تنسى -هذه الأمريكيانية المُهَجَّنة- أنّ في هذا الشرق المدفون تحت الركام ما زال ثمّة حجرٌ واحدٌ يصرخ في وجه هذا التقدّم المسلّح: إنّ حضارتكم ناقصةٌ بقدر ما هي دامية، وإنّ خبزنا أشرف من صواريخكم، وإنّ الحجر الذي نرميه من يدنا العارية أصدق من كل شعاراتكم التي تحلّق فوق رؤوسنا ثم تهبط رمادًا على مقابر أطفالنا.
هذا العالم الذي يُنعت بالحضارة ويزهو بامتلاك مفاتيح العلم والاقتصاد والثروة التقنية، هو ذاته الذي يعيد إنتاج البربرية بأكثر صورها براعةً وهدوءًا. فما الذي يعنيه أن تهطل قذيفة ذكية على رأس طفل نائم في بيتٍ طيني، أو أن يُمحى جسد امرأةٍ عجوز وهي تنتظر نصيبها من الخبز؟ إنّ هذه الدقة الجراحية التي يتباهى بها صانعو الصواريخ والطيّارون الذين يحظون بالأوسمة ليست إلا الوجه الأكثر تأنقًا للهمجية القديمة التي لم تمت، بل غيّرت لباسها فحسب. في الأزمنة السالفة كان القاتل يرفع سيفه ليقطع الرقاب علنًا تحت وهج الشمس، وكان سفّاك الدماء يفخر بيدٍ دامية. أمّا اليوم، فإنّ القاتل يقف في غرفةٍ مكيفة يضغط زرًّا واحدًا، ثمّ يمضي ليشرب قهوته بضميرٍ مرتاح لأنّ الإعلام ألبسه رداء الديمقراطية ونزع عنه وصمة التوحّش.

ليست هذه المفارقة نتاج خللٍ تقني عابر، بل هي خلاصة قرونٍ من مراوغة المفاهيم وتطويع القيم وتطبيع العنف تحت شعارات زاهية. إنّ العقل الغربي الذي صاغ حداثته من بريق العقلانية والعلم، هو ذاته الذي شحن طائراته بأعتى وسائل الفتك، ثمّ غلّفها بخطابٍ أخلاقيٍ محشوٍّ بمصطلحات التحرير، والديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان. إنّ الكلمة ذاتها التي تُكتب في ديباجات الدساتير تُستخدم وقودًا لتسويغ القتل الجماعي ما دامت القذيفة ذكية والصورة محسوبة والموت يحدث في بقعةٍ بعيدةٍ لا يسمع فيها أنين الضحايا إلّا مَن لا سلطة له على تغيير المشهد.

غير أنّ المسألة لا تقف عند حدود التقدّم التكنولوجي. ففي العمق، ثمّة أزمة فلسفية تفضح خواء القيم حين تُفصل عن جذورها الإنسانية الأصيلة. إنّ الفلسفات التي صاغت مقولة «التقدم» لم تكن بريئة من خيال الهيمنة. منذ أن تفتّق وعي الغرب الحديث عن فكرة «التفوق الحضاري» و«عبء الرجل الأبيض» صارت آلة الفتك جزءًا من طقوس تمدّنٍ متخمٍ بالتناقضات. فلا شيء أكثر عبثية من أن يزرع مجتمعٌ ديمقراطي أجيالًا على مبادئ حقوق الإنسان، ثمّ يبارك تدمير مدنٍ بأكملها حفاظًا على مصالحه «النبيلة».

أما العالم الثالث الذي يُرمى بالحجارة إذا ما حاول الدفاع عن حقّه في حياةٍ بلا صواريخ، فإنّه يجد نفسه متّهمًا بالتخلّف والإرهاب. إنّ الطائرة التي ترمي قنابلها بذكاءٍ محايد لا تنقل حضارةً بقدر ما تنقل رسالةً فجّة: القوة هي معيار الحقّ الأخير، وما لم تتعلّم أن تركع أو تتقن لغة السوق والسلاح، فأنت مشروع هدفٍ مشروع. هنا ينكشف القناع وتنهار الكليشيهات المعلّبة عن العولمة والتقدّم المشترك. فما تقدّمه هذه الحضارة المصنّعة للديمقراطية ليس سوى نسخة محدّثة من مبدأ الغلبة القديمة: السيف صار صاروخًا موجّهًا، والخطبة الأخلاقية صارت تقريرًا صحفيًّا يلمّع القاتل ويطمس الضحية.

ومع ذلك، فإنّ ما هو أعمق وأشدّ فتكًا من الدمار المادي، هو الدمار الرمزي: حين يتشرّب المهمَّشون في أطراف هذا الكوكب صورةً مشوّهة عن أنفسهم. حين يصبحون مقتنعين بأنّهم بحاجةٍ دائمةٍ إلى وصيٍّ يُعيد تأهيلهم كي يبلغوا سنّ الرشد الديمقراطي. وكأنّ الحرية لا تُولد من رحم معاناتهم وتجاربهم وحكاياتهم، بل تُمنح لهم مشروطةً بتوقيعٍ في مكتبٍ بعيد. إنّ هذه العلاقة غير المتكافئة بين القاتل بربطة عنقٍ والقُتيل بحجرٍ في يده ليست إلا تكرارًا مستترًا لمنطق المستعمِر والمستعمَر.

ما يجعل هذا كلّه أشدّ مرارةً هو تلك الأريحية التي يُمارس بها القتل من مسافةٍ آمنة، فلا مواجهة مباشرة تذكّر القاتل بأنّ لفعله تبعاتٍ إنسانيةً ملموسة. تكنولوجيا الموت أصبحت حجابًا عازلًا، لا يسمع القاتل عبره سوى صدى انتصاراته في نشر الديمقراطية. أمّا على الأرض، فإنّ الدم المسفوح يصبح رقمًا في تقريرٍ إخباري، صورةً تُمرّر بسرعةٍ على شريط الأخبار، ذكرى باهتةً في عقلٍ مثقلٍ بما يكفي من الأعباء اليومية ليكمل نومه مطمئنًا.

إنّ جوهر المشكلة إذن ليس في الصاروخ الذكي بحدّ ذاته، بل في غياب الأسئلة التي يجب أن ترافق قدراتنا المتسارعة: ما الذي يجعل موت هؤلاء مبرّرًا؟ من الذي قرّر أنّ الحرية يمكن أن تُسفك من فوهة طائرة؟ ما الذي يجعل هذا العالم المهووس بالتفاصيل الرقمية عاجزًا عن رؤية التفاصيل الدموية حين تقع خارج حدوده الجغرافية أو الأخلاقية؟

إنّ الحضارة الحقّة لا تُقاس بمدى دقّة القتل، بل بمدى استحالة القتل أصلًا. بمدى انتفاء الحاجة لأن تحلّ صاروخًا مكان كلمة، أو دبّابةً مكان حوار، أو قاعدةً عسكريةً مكان مدرسةٍ وحقل. أمّا حين يصبح القتل أداةً مشروعةً في يد من يملك فائض التكنولوجيا ويملك فائض الخطاب في آنٍ معًا، فإنّنا أمام طاغوتٍ حديثٍ مغلّفٍ بمصطلحاتٍ رقيقة، ومضمونٍ متوحّشٍ يعيدنا إلى البدائية التي ادّعينا طيّها منذ قرون.

وهكذا، تبقى الدماء أبلغ من كلّ بيانات التبرير، ويبقى الحجر الذي يرميه ابن العالم الثالث ليس حجرًا متخلّفًا، بل صرخةً بدائيةً أخيرةً في وجه طائراتٍ ذكيةٍ بقدر ما هي عمياء. وبينما يختال القاتل بوسام الشجاعة، يظلّ القتيل وحده من يعلّمنا أنّ الحضارة لا تُبنى بالصواريخ، لا، ربما بالخبز الذي ننتظره في طابورٍ طويلٍ لم يعد له آخر!!



#مالك_مجباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوظائف السردية والدلالية بين الواقع والمتخيل في رواية ( الث ...
- التعصّب والطائفية: الجذور النفسية والاجتماعية والدينية والفل ...
- غزة، حين تصير الأرضُ مقبرةً للريح
- رصاصةٌ للبحر.. ووردةٌ للدم
- توراتهم الملوّثة وخرائطنا المحترقة: في ظلال الحرب الأخيرة
- خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان
- الدولة الدينية: حين يتخذ القمع وجه الإله


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي لـCNN: تم إسقاط مساعدات إنسانية جوا على غزة ...
- خلال جولته في إسكتلندا.. ترامب في ملعب الغولف والمتظاهرون في ...
- مقترح جديد بإنشاء -مناطق عبور إنسانية- في غزة
- شركة هندية تنفي شحن مواد متفجرة إلى روسيا
- عاجل | وزارة الداخلية السورية: إلقاء القبض على شخص يترأس غرف ...
- بيرلو في الإمارات وفيريتو إلى قطر والمغربي زكرياء من فرنسا إ ...
- إسرائيل تعلن فتح ممرات آمنة في غزة والسماح بإسقاط المساعدات ...
- ماذا يحدث لسكر الدم عند شرب القهوة؟
- إعلام إسرائيلي: الجيش سيطبق وقفا -إنسانيا- لإطلاق النار بغزة ...
- الشرع لماكرون: أحداث السويداء نتيجة فوضى لمتمردين على الدولة ...


المزيد.....

- حين مشينا للحرب / ملهم الملائكة
- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - مالك مجباس - الأمريكانية المُهَجَّنة/ عن المسوخ