مالك مجباس
الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 15:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ربما يكون الدين في جوهره (كفكرة تجريدية) طاقةً روحيةً عظيمة، ومصدرًا للأمل وإيجاد إجاباتٍ لمعانٍ مُلِّحة، لكنه يفقد نقاءه كلما اقترب من عرش الحاكم أو توغّل في مؤسسات الدولة التي تلامس الإنسان في يوميّاته البشرية. بمعنى آخر: من الضروري أن يبقى "أفيونًا" دون أن يتحول إلى "شريعة" تسيّر حياة الشعوب}.
هكذا قال لي صديقي عبر الهاتف وهو يعبر الحدود إلى منفاه الأخير. كان قد هرب قبل شهرين من مدينته التي سلبها سفاكو الدين الجدد.. كان قد رمى في البحر المتوسط صورًا تمثل داعش وميليشيات القتل، صورًا للوهابية وولاية الفقيه، صورةً لصهيوني يشرب دماء، وربما صورةً لصدام يُخرج عنوةً من جحره الأخير، وربما صورةً لبشار الأسد وهو يخلع بدلته العسكرية ويفرّ بليلٍ مبهمٍ نحو الثلوج، والجولاني يخلع عمامةَ بن لادن وحزام الزرقاوي ويرتدي بدلة الفرنجي المبتسم!
قد يكون صديقي أكثر ميلًا إلى حلم "الحياة السعيدة" في تفسير سلسلة الدماء الدينية... هكذا كنتُ أعرفه قبل لحظات الخراب الشامل. لكن في تلك الليلة الشتوية، لم أنم حتى الفجر، ظللت أفكر طويلًا بكل المشاهد عبر العصور الحمراء، مستعيدًا كل الصرخات ونظرات العيون الأخيرة قبل النحر!
.
منذ أن بدأ الإنسان ينظر إلى السماء، تشكّلت في داخله تلك الحاجة الملحّة لتفسير الخوف، وترويض المجهول، وتأثيث الفراغ الروحي بمعانٍ عليا. فجاء الدين جوابًا على الأسئلة الكبرى، وعزاءً لقلق المصير، وتوازنًا بين الطين والنور. لكنّ تلك العلاقة الطاهرة بين الإنسان والمطلق لم تدم طويلًا. إذ ما إن دخلت السلطة على خطّ المقدّس، حتى تحوّل الإيمان إلى سيف، والعقيدة إلى درع، والنصّ إلى قيد.
ربما من رحم هذه اللحظة السوداء وُلدت "الدولة الدينية"؛ كمخلوق مشوَّه يحاول أن يجمع بين جبروت السلطان وقداسة الأنبياء، بين القصر والمحراب، بين قانون الدم ووصايا السماء.
في البدء كانت الفكرة، ثم تسلّلت الأيدي المرتعشة من الخوف، الباحثة عن يقينٍ مطلق، فألبست تلك الفكرة أثوابَ السماء، ونفخت فيها من غيبها، ورفعتها فوق البشر قهرًا وتهويلًا، لتولد الدولة الشاملة القمعية، لا كحلمٍ طوباوي بالعدالة، بل ككابوسٍ مقنّع باسم الإله.
هكذا تأسست سلطةٌ تدّعي القداسة، وتتوسل الطغيان من بوابة الحق الإلهي، حيث لا صوت يعلو فوق صوت "الفتوى"، ولا عقل يبقى في حضرة "النصّ"، ولا حرية تنجو من نيران "التكليف"...
هكذا هي الدولة الدينية، عبر التاريخ، لم تكن سوى دولة البشر الذين احتكروا الحديث باسم الإله، وطوّعوا النصوص لتُبرّر سيوفهم، ونسجوا حول عروشهم هالاتٍ من الطهر الكاذب ليصير نقد الحاكم كفرًا، والتمرّد عليه زندقة، والاختلاف معه حربًا على الله ذاته.
لقد كانت الدولة الدينية، منذ محاكم التفتيش في أوروبا إلى الخلافات المتنازعة في الشرق، مرادفًا للقمع المقدّس. في ظلها يُقتل المفكر لأنه خطرٌ على "الإيمان"، ويُصلب العاقل لأنه يزعج "العقيدة"، ويُحرَق المختلف لأنه تهديد "للجماعة المؤمنة".
لقد أخّرت هذه الدولة مسيرة الإنسان في اكتشاف ذاته والعالم، وحوّلت العقل إلى تابعٍ للغيب، والعلم إلى بدعة، والمرأة إلى عورة، والحرية إلى جريمة، والفنّ إلى وسوسة شيطانية.
إنها دولةٌ لا تقوم إلا على نفي الفرد، ولا تستقرّ إلا بهدر الكرامة، ولا تُبنى إلا على جماجم المارقين والمجددين والحالمين بعالمٍ أقل ظلمًا.
الدولة الدينية، تاريخيًّا، لم تكن سوى محاولة دائمة لتقديس السلطة، وجعل الطاعة واجبًا دينيًّا، وإقصاء كل ما يخالفها بوصفه مروقًا عن الشريعة.
إنها دولة لا تُحاسَب، لأنها تدّعي أنها تحكم باسم الله، ولا تُعارَض، لأنها تُمثّل إرادته. وعبر التاريخ، أحرقت هذه الدولة العلماء والمفكرين، ودمّرت المدن، وأشعلت الحروب، وخنقت الحريات، وفرضت على الناس عبوديةً من نوعٍ جديد: عبودية باسم السماء.
.
من أسوأ تجلّيات هذه الدولة في عصرنا الحديث، "الكيان الصهيوني"، هذا الجسم السياسي المارق الذي تأسّس على خرافة "الشعب المختار"، ليحوّل الأسطورة التوراتية إلى مبرّرٍ لحربٍ مفتوحة على الإنسان، وعلى الوجود ذاته.
إنّ الكيان الإسرائيلي ليس مجرد احتلال عسكري، بل هو نموذج مكتمل للدولة الدينية العنصرية، التي تبني قوانينها على أساس ديني صِرف، وتميّز بين البشر وفقًا لنسبهم العقائدي، وتمنح الحقوق لليهود وحدهم، وتسلب الفلسطيني حتى هواءه وماءه وظله.
هذه الدولة، بوجهها الدموي، اغتالت الإنسان الفلسطيني، لا لأنه مقاتل، بل لأنه ليس يهوديًّا. دكّت بيوت الأطفال باسم النص، وحرقت أجسادهم باسم الوعد الإلهي، وسحقت أحلام شعبٍ كامل باسم "أرض الميعاد".
إنها دولة تحوّل الدين إلى آلة إبادة جماعية، وتُجرّم الحياة باسم "النجاسة"، وتقدّس كل أشكال العنف، لأنها تنبع ـ في زعمها ـ من مصدرٍ سماوي لا يُرَدّ.
أعادت الدولة الصهيونية في إسرائيل إنتاج أخطر نماذج الدولة الدينية، بلبوس ديمقراطي زائف، لكنها في جوهرها تمييزٌ مطلق قائم على "الاختيار الإلهي" لشعب دون سواه، حيث تُشرعن سياسات الفصل العنصري، والاستيطان، والقمع، والقتل، على أسس توراتية تورّط النص الديني ذاته في حفلة الدماء.
تُسلب أرض الفلسطيني لأنه "غير مُختار"، ويُقتل لأنه "نجس"، وتُبرّر الإبادة لأنها تنفيذٌ لوعدٍ قديم. إنها دولة تحوّل الدين إلى قنبلةٍ موقوتةٍ تهدد كل من هو خارج دوائرها العقائدية، وتُقوّض أسس العدالة باسم التوراة.
.
ولم يكن المشروع الإنجيلي الصليبي الجديد أقل خطورة، فقد ورث عقلية الغزو القروسطية، لكنه أعاد إنتاجها بمصطلحات حديثة: الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان. غير أن الهدف ظلّ هو ذاته: السيطرة على ثروات الشعوب، وإعادة تشكيل العالم وفق رؤى دينية ضيّقة، ترى أن الخلاص لا يكون إلا عبر النار، وأن "المخلّص" لا يأتي إلا حين تُغرق الأرض بالدماء. هذه الأيديولوجيا تغذّي الحروب، وتدعم الكيان الصهيوني، وتُشرعن التدخلات الكارثية، وتُمهّد لصراع طويل لا تُبقي فيه شيئًا من الإنسان سوى ظلاله الهاربة.
هذه الطموحات الإنجيلية، لا تقلّ شأنًا في خطرها، إذ تعيد إحياء الميراث الصليبي الكولونيالي، حيث يُستغل الدين لتبرير الغزو، وتُقدّس الحروب من أجل "الخلاص"، وتُشيطن الشعوب المخالفة، وتُحوَّل الجغرافيا إلى ساحة معركة بين "أبناء النور" و"أبناء الظلمة".
تحالفات خطيرة تُعقد بين السياسي واللاهوتي، وبين الرأسمال والمؤسسة الدينية، لتتحوّل الدولة إلى ذراعٍ إلهي يبطش ويُصدّر الموت تحت راية "النعمة" و"الرسالة المقدّسة".
.
في الطرف المقابل، لم تكن التنظيمات الإسلامية المتطرّفة إلا الوجه الآخر لهذا الجنون. من القاعدة إلى داعش، من أفغانستان إلى الموصل، شاهدنا كيف يمكن لتأويل ديني عنيف أن يُفجّر المدن، ويستعبد النساء، ويذبح الأبرياء، كل ذلك باسم الخلافة، وباسم الشريعة، وباسم الجنّة التي لا تُفتح إلا على أبواب الجحيم.
إن الدولة الإسلامية المتخيّلة التي بشّر بها هؤلاء، لم تكن سوى معسكرٍ للموت، يُقتل فيه الإنسان مرتين: مرّة بحدّ السيف، ومرّة باسم الله.
ظهرت التنظيمات الإسلامية العنيفة، لا بوصفها انحرافًا طارئًا، بل نتيجة منطقية لثقافة دينية لم تُراجع ذاتها، فوجدت في "الدولة الإسلامية" مشروعها الموعود، وفي الجهاد وسيلتها الوحيدة للتعبير.
داعش لم تُولَد من فراغ، بل من تراكم خطابٍ ديني مليء بالكراهية، والتحريم، والتكفير، والحوريات، والملاحم. لقد جسّدت أقصى ما يمكن أن تصله الدولة الدينية حين تنفصل تمامًا عن الواقع، وتستسلم لتأويلات الدم. قتلت باسم الله، وسبَت النساء باسم الإيمان، ودمّرت الحضارة باسم النقاء العقدي.
.
لم تكن الميليشيات في العراق يومًا مجرّد تشكيلات مسلّحة نشأت على هامش الدولة، بل كانت – منذ ولادتها – نُسغًا مضادًّا لفكرة الدولة ذاتها، ومشروعًا مضمَرًا لبناء دولة أخرى: دولة الطائفة، دولة الثأر، دولة «الحق الإلهي» كما يُصوّره سماسرة الدم والقداسة.
لقد وجدت هذه الميليشيات في انهيار نظام صدام الإجرامي بعد 2003 فراغًا مناسبًا لتتمدد كأفعى تحت جلد الوطن، مُدّعية المقاومة حينًا، والحماية حينًا، لكنها ما لبثت أن كشفت عن نواياها، وأنها لا تحمل مشروعًا سياسيًّا أو وطنيًّا جامعًا، بل تصوّرًا لاهوتيًّا مغلقًا، يرى الوطن بوصفه أرض تمهيد، والمواطن كائنًا قابلًا للاستبعاد إن لم يُبايع الظلّ الإلهي الموهوم.
الميليشيات ليست حالةً أمنية عابرة، ولا ضرورةً وقتية كما صوّرها البعض في لحظة الحرب على الإرهاب، بل هي وجهٌ من وجوه المحاولة الممنهجة لتحويل العراق من دولة مدنية تقوم على عقد اجتماعي حديث، إلى دولة دينية تقوم على الولاء العقائدي، والطاعة العمودية، والمرجعية التي لا تخضع للمساءلة.
في ظل هذه الميليشيات، لم يعد الحسين إمامًا للعدل ورمزًا للثورة، بل صار علامة تجارية على فوهات البنادق... لم تعد كربلاء ذاكرة حرية، بل ميدانًا يتبارى فيه أمراء الدم في استدعاء المظلومية لتحصيل الغنيمة.
وأُفرغت الرموز الدينية الكبرى من معانيها النبيلة، لتُستعمل كمفاتيح تُفتح بها أبواب التسلّط على الناس، وإغلاق آفاق العقل، وتشريع العنف تحت لافتة "نصرة أهل البيت".
رفعت هذه الميليشيات راية الولاية على أنقاض الدولة، واستباحت العاصمة والمحافظات باسم "الثأر المقدّس" و"الخط العقائدي".
.
كلّ هذا يقودنا إلى نتيجة واحدة: حين يُجيَّر الدين في مشروع السلطة، يصير الإنسان وقودًا في معركة لا تخصّه، ويصير القتلُ صلاة، والخضوعُ فضيلة، والجنّة وعدًا مؤجّلًا يعمي الأبصار عن الجحيم القائم الآن وهنا.
ولذلك، فإن الدولة الدينية، كيفما تنكّرت، لا يمكن إلا أن تكون نقيضًا للكرامة، وعدوًّا للحرية، وسجنًا للروح.
إنّ الدولة، حين تدّعي الحديث باسم الإله، تفقد إنسانيّتها، وتُحوّل الدين إلى عقيدة قمعية.
وحدها الدولة المدنية، التي تضع القانون فوق المعتقد، والإنسان فوق النص، قادرة على حماية الدين من الاستغلال، وحماية الإنسان من الذبح. فلنقلها صراحةً: لا قداسة في السياسة، ولا خلاص في الدولة التي تلبس وجه الله وهي تُخفي خنجرها خلف ظهره.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟