أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك مجباس - رصاصةٌ للبحر.. ووردةٌ للدم














المزيد.....

رصاصةٌ للبحر.. ووردةٌ للدم


مالك مجباس

الحوار المتمدن-العدد: 8392 - 2025 / 7 / 3 - 08:56
المحور: الادب والفن
    


جلستُ طويلًا أمام الشاشات، أحدّق في الصور الدموية وهي تتدفّق على عيوني كسكينٍ صامتٍ يشقّ يقيني ببطء. كانت الأجسادُ الممزّقةُ تنادي أسماءَها التي لم يسمعها أحد، وكانت الدماءُ تُقيم في الشوارع كأنّها تحتجّ على صمتِ الأرضِ والسماءِ معًا. رأيتُ ضحايا لا ذنبَ لهم سوى أنّهم وُلدوا في مكانٍ لم يُعجبِ القتلةَ، ورأيتُ أسبابًا طائفيةً تفرشُ الطينَ حولنا، كي نظلَّ غارقين في وحلٍ من حقدٍ لا ينتهي.
حين وقعت مجزرةُ الساحل على أيدي مجرمي «جبهة النصرة»، شعرتُ أنّ شيئًا من قلبي انتُزع منّي ووُدِع في قبرٍ لا أعرفُ طريقه. نعم… لقد قتلوا قُرّةَ العينِ بلا رحمة، كما يطفئون شمعةً وحيدةً في ممرٍّ معتمٍ ثم يمضون إلى نومهم كأنّ شيئًا لم يكن.
كنتُ هناك… في بلادٍ باردةٍ، في آخرِ الأرضِ التي لا تذكرني ولا أذكرها، أراقبُ شاشتي الصغيرةَ كأنّها نافذةُ منفىً أبديٍّ لا يُغلق. كان الثلجُ خلف نافذتي يتساقطُ ببطءٍ مريبٍ، بينما النارُ تتّقد في الصورِ أمامي، تحرقُ أعصابَ ذاكرتي ولا تمنحُني دفئًا واحدًا.
في مساءٍ معتمٍ من آذار، مساءٍ أثقلته رطوبةُ الساحلِ ورائحةُ البحرِ الذي يشهدُ ولا يتكلّم، سقط اسمُها من دفترِ الحياةِ كما تسقطُ ورقةٌ أخيرةٌ من شجرةٍ قُطِعَتْ وهي تنزفُ نسغَها بصمت. كانت تلك الفتاةُ ـ البيضاءُ، الممشوقةُ القوامِ ـ في اللاذقية تعرفُ كيف تحتالُ على الليلِ بضحكتها، وكيف تُربكُ الحزنَ حين تزرعُ فوق نافذتها شجرةَ ياسمينٍ لا تذبلُ مهما اشتدّ الموتُ حولها.
في الثامن من مارس، يومٌ كان ينبغي أن يُهدى للنساءِ ضفيرةً من ضوءٍ وأغانٍ بيضاء، اقتلعوه من صدرها بدمٍ بارد. دخل مجرمو «النصرة» زقاقَها المبلّلَ بملحِ البحرِ، أغمضوا عيني الحارةِ برصاصهم، ولم يتركوا لها فرصةً لتودّع جدارَها، أو دفترَها، أو كأسَ المتّةِ التي لم تبردْ بعدُ فوق الطاولة.
لم يكن أحدٌ في الحارةِ يصدّق أنّ البيتَ الذي كان كلّما مرّ به الغريبُ شعرَ أنّه يبتسم له، صار الآن ممرًّا للنعوشِ الصغيرةِ التي لا تُرى. في زاويةِ الغرفةِ الضيّقةِ حيث كانت تجلسُ، تقرأُ شيئًا من شِعرٍ وتخطّ على دفاترها كلماتٍ لم يقرأها أحد، بقي الكرسيُّ ملقًى على ظهره كجسدٍ أصابه رصاصٌ جانبيٌّ ولم يعرفْ كيف يقومُ بعد ذلك.
أذكرُ صوتها حين كانت تقول لي: «لا تخف من الليل، الليلُ يهابُ قلبًا يعرفُ كيف يُضيءُ وحده.» كنتُ أضحكُ وأقول: «ومن قال إنّ قلبي مصباح؟» فكانت تجيبُ وهي تضحك: «يكفي أنّك تؤمنُ أن قلبك ليس ظلامًا خالصًا.»
في تلك الليلةِ انتصرتِ الظلمةُ عليها وحدها، كأنّها اختارت جسدَها لتثبتَ أنّ الشرَّ ليس فكرةً مجرّدةً، بل بندقيةٌ تبحثُ عن كتفٍ رخوةٍ لتستقرّ فيها. الذين أطلقوا النارَ لم يكونوا شياطينَ نُسجوا من أساطير، كانوا بشرًا بسطاءَ في دمويتهم، في رؤوسهم دينٌ دمويٌّ وحورياتٌ قرآنيةٌ، يحملون في جيوبهم أحاديثَ عن الجنّةِ ولا يتركون لأحدٍ شيئًا من الحياةِ كي يصدّقهم.
بعد موتها، صار اسمُها يزورني في أحلامٍ كثيرةٍ، يمدّ لي يده من طرفِ جدارٍ محطّمٍ ويسألني بصوتٍ رقيقٍ لا يشبه أصواتَ القتلة: «أتظنّ أنّهم انتصروا؟» فأخجلُ من جوابي وأصمتُ، لأنّي أعرفُ أنّ الرصاصةَ قد تصنعُ موتًا، لكنها أضعفُ من أن تصنعَ نسيانًا.
كلّ شيءٍ فيها كان يليقُ بالبقاءِ طويلًا: دفاترُها، ضحكتُها الهادئةُ التي تخدّرُ قسوةَ الميناء، يدُها الصغيرةُ وهي توزّعُ خبزَ الصباحِ على القططِ الجائعةِ قبل أن تذهبَ إلى جامعتها بخطواتٍ رقيقةٍ كأنّها تخشى أن توقظَ الإسفلتَ من نومه.
لم يبقَ من كلّ ذلك سوى البابِ المواربِ، وريحٌ بحريةٌ تلفحُ الوجوهَ وتمضي، وشمعةٌ على جدارٍ مائلٍ تقولُ إنّ الضوءَ ليس ملكًا لمن أطلقَ النار، وإنّ امرأةً واحدةً تستطيعُ أن تتركَ خلفها أكثرَ من رصاصةٍ وأقسى من موت.
لا أكتبُ هذا لأبكيكِ يا قُرّةَ العين، بل لأحتالَ على الوقتِ كي لا يفرغَ منكِ سريعًا. أكتبكِ لأنّ الحبرَ آخرُ ما تبقّى حين تجفُّ الدماءُ في الشوارعِ التي ظنّتْ يومًا أنّها ضيّقةٌ على الغدرِ، واسعةٌ للفرح. أكتبكِ لأنّ اسمكِ صار طريقتي الوحيدةَ لأقاومَ هذا الليلَ الذي ظنّ أنّه قتلكِ وحدكِ، ولم يعرفْ أنّه بهذا أطلقَ سراحَ ظلّكِ فينا جميعًا.
يقولون إنّ الرصاصَ أعمى، لكنّه كان هذه المرّةَ يُبصرُ جيّدًا وجهَها الذي لم يعتدِ على أحد، وصوتَها الذي لم يقلْ سوى ما ينبغي أن يُقال. قتلوها بلا رحمة، وكأنّ الرحمةَ تخلّت عن اسمِها حين نطقتْهُ آخر مرّةٍ في صدرها، خائفًا، وحيدًا، مقطوعًا من شجرةِ الأيّام.
ليتني كنتُ نافذتَها تلك الليلة. ليتني كنتُ ظلَّها حين مرّتْ يدُ المجرمِ فوق جدارِ بيتها تبحثُ عن قلبٍ يطرقُهُ الرصاصُ بلا استئذان. كلّ شيءٍ بعد موتها صار مائلًا قليلًا، كأنّ الأرضَ نفسها انكسرتْ من جهةِ اللاذقيةِ ولم تجسرْ على أن تصلحَ اعوجاجَها.
هي الآن أبعدُ من البحرِ الذي يبلّلُ قدميها بدموعٍ لا تُرى، أقربُ من صلاةٍ تهمسُ بها أمُّها في ظلامِ الليلِ كي توقظَها من نومٍ صار أبديًّا. ولا شيءَ يبرّرُ هذه الدماءَ سوى صمتٍ يتكاثرُ في صدورِنا كلّما حاولنا أن نسأل: لماذا؟ وكيف؟ ولأيِّ ذنبٍ انطفأتْ شمعةٌ كانت وحدها تُنيرُ هذا الزقاقَ المعتم؟



#مالك_مجباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توراتهم الملوّثة وخرائطنا المحترقة: في ظلال الحرب الأخيرة
- خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان
- الدولة الدينية: حين يتخذ القمع وجه الإله


المزيد.....




- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...
- -بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي
- لنظام الخمس سنوات والثلاث سنوات .. أعرف الآن تنسيق الدبلومات ...
- قصص -جبل الجليد- تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخسارات
- اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
- الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث
- الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم ...
- رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو ...
- قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك مجباس - رصاصةٌ للبحر.. ووردةٌ للدم