أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مالك مجباس - خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان














المزيد.....

خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان


مالك مجباس

الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 15:39
المحور: القضية الفلسطينية
    


لم تكن المدن العربية لتُولد مكسورة.. كانت ممكنًا أن تحيا العيش وتزرع الورد، وتتنفس طعم الحياة.. كانت ممكنًا أن تحلم.. كانت ممكنًا أن تصحو على الموسيقى وتنام على رائحة الخبز.
لا، لم تولد هذه المدن ميتة. كانت تعيش كما تحيا الكائنات التي خُلقت لتكتب التاريخ لا لتبكيه.. كانت تعرف أسماء شهدائها، لا لأنها تعشق الموت، بل لأنها عرفت الحياة كما لا يعرفها أحد.. ربما، كانت تتنفس بهدوء على ضفاف النهر، وفي ظلال الزيتون، وبين أزقّة الحجر القديم، حيث الحكاية تُروى بالخبز، لا بالنار.
لكن شيئًا ما انكسر ذات قرن.. ثمة شيء غريب تسلل إلى ليلها.. ثمة كائن بلا جذور، بلا ذاكرة، نُزع من جغرافيا أخرى وزُرع كالقنبلة في قلبها.. انفتح الزمن العربيُّ على لعنةٍ لم يُغلقها أحد، وتسلل الغريب إلى قلبِ الأرض، لا كلاجئ، بل كمستعمرٍ يتقن طقوس الذبح.
أعطوهم وطنًا، اسموه قوميًا!.. ليس وطنًا، بل مشروع جرح. وليست دولة، بل آلة نسيان، تقتلع الجذور وتزرع الموت (الموت بوصفه نسيانًا أعظم).
الخراب، لم يهبط من السماء. كان يحمل جواز سفر، وخريطةَ توسّع، وكتابَ وعدٍ كتبه المجرمون بخطّ الآلهة. وكيانٌ نُسج من أشلاء الضحايا، وتمدد كالشظيّة في الجسد العربي، حتى صار النزيف طقسًا يوميًّا. لم يكن ما حدث محضَ صدفة تاريخية، ولا انحدارًا داخليًا.
كان الخراب مخطّطًا، معمّدًا بالسكين، ومُغذّىً بعقودٍ من الإنكار والتواطؤ.
هذا الكيان، الذي قام على فوهة بندقية، لم يكن يبحث عن مأوى، بل عن مسرح تُكتب فيه كل الحكايات بالدم، ويُعاد ترتيب الخرائط كأن الأرض لعبة بين أصابع جنرالٍ "توراتي أبيض" لا يرى في الإنسان سوى عائقٍ أمام الرؤية.. يزرع غيبياته التوراتية بالدبابات والصواريخ، ويخلف مجازر ومذابح ودماء وجوعًا.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد للعواصم طمأنينة، ولا للمدن يقين.. منذ تلك اللحظة، لم تعد فلسطين وحدها تُغتال. كان موتها قابلاً للانتقال، كالفيروس، يمرُّ من مدينةٍ إلى أخرى، من شارعٍ إلى شارع، من رحمٍ إلى رحم.
غزة، التي صارت أنشودة الصبر الأخيرة، لم تعد خيمة من دم فقط، بل رمزًا للخذلان المتكرّر.. وبيروت، التي صارت مرآة العاصفة، كانت تغنّي، فتحوّلت إلى مدينة تبحث عن أعضائها تحت الركام.. ودمشق تخلّت عن الياسمين لتشم رائحة البارود.. وصنعاء تشتعل نارًا ولهيبًا وموتًا.. أما بغداد، فتنام وفي خاصرتها خنجرٌ لم تُخرجه بعد.
لم يكن الاحتلال جغرافيًا فحسب، بل روحيًا أيضًا. سُرقت الذاكرة، وتحوّل التاريخ إلى أوراق في درج المستعمِر، يقرّر أيّ فصلٍ يُنسى وأيّ فصلٍ يُعاد طباعته بلغة غريبة.. إنه خلق النسيان الأعظم.
من هناك، بدأنا نهوي. من لحظةِ الاعتراف بالكيان الذي لا يعترف بنا. من لحظةِ مصافحة السكين، على أمل ألّا تذبح الرقبة!
المأساة ليست فقط في القتل، بل في صمت القتيل بعد حين، وكأن الموت صار معتادًا وضروريًا في كل يوم!.. في تحوّل الإنسان إلى رقم، في انكسار الشوارع حتى لم تعد تعرف أسماء أصحابها، وفي استبدال الفرح بالحذر، والقصيدة بالتقارير العسكرية، والموسيقى بنشيد الموت.
نعم، الخراب لم يكن عبثًا. وراءه عقلٌ دينيٌّ إمبرياليٌّ بارد، يحسب الخسائر لا بالدم، بل بالإحداثيات. عقلٌ وُلد من رحم الأكاذيب الكبرى: الأرض الموعودة، والحق الإلهي، والتاريخ المختزل في رصاصة.
ولأن الجريمة كانت عميقة، صار الصمت الدولي جزءًا من صوتها.
صار الحياد خيانة. صار البكاء ترفًا لا يملكه المشردون.
ولكن، رغم كل شيء، ما زالت صديقتي الفلسطينية التي تحمل مفتاح بيت جدها في مدينة "الناصرة" منذ قرن، تبتسم وتتأمل العودة. وما زال هناك من يرسم الوطن على جدران المخيم. ما زال في اللغة متّسعٌ للمقاومة. ما زال في القلب مكانٌ لحكايةٍ لم تنتهِ بعد، وإن بدت مهزومة.







الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدولة الدينية: حين يتخذ القمع وجه الإله


المزيد.....




- -مادلين-.. آخر تطورات سفينة مساعدات غزة بعد اعتراضها من قبل ...
- إعلان حالة التأهب الجوي في أربع مناطق بأوكرانيا
- لقاء أميركي - صيني رفيع في لندن: هدنة الحرب التجارية على طاو ...
- مقتل عشرات الفلسطينيين في غزة خلال 24 ساعة.. واتصال مرتقب بي ...
- كاليفورنيا: تصاعد التوتر مع اندلاع اضطرابات بسبب مداهمات وكا ...
- الرجال في قبضة الخوف: حين يصبح البيت فرعاً لشرطة طالبان
- وثيقة برلمانية: إيطاليا أنهت عقدا مع شركة إسرائيلية لبرامج ا ...
- مزيد من الضحايا والجرحى الفلسطينيين برصاص إسرائيلي
- قافلة مساعدات تونسية جزائرية إلى غزة
- طهران: لا تفاوض على تخصيب اليورانيوم


المزيد.....

- 1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت ... / كمال احمد هماش
- في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / محمود خلف
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / فتحي الكليب
- سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية ... / سمير أبو مدللة
- تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل / غازي الصوراني
- حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية / فتحي كليب و محمود خلف
- اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني / غازي الصوراني
- دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ ... / غازي الصوراني
- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مالك مجباس - خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان