أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مالك مجباس - غزة، حين تصير الأرضُ مقبرةً للريح














المزيد.....

غزة، حين تصير الأرضُ مقبرةً للريح


مالك مجباس

الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 09:34
المحور: القضية الفلسطينية
    


لم يكن البحرُ في غزةِ ذاتَ مساءٍ من تشرين إلا شاهداً أخرسَ على جريمةٍ لا يقدرُ الموجُ على غسلِ آثارها. هناكَ، عند الشاطئِ المحاصرِ بالبارودِ والرمالِ الملوّثةِ بالبكاءِ والدم، يكتبُ الأطفالُ أسماءهم على الترابِ كي لا ينساهُم أحدٌ حين تنامُ المدينةُ تحت أنقاضِها.

منذُ عقودٍ، يختبرُ هذا المكانُ حدودَ الفناءِ كلَّ يومٍ، لكنّ ما يجري اليومَ ليس حرباً عابرةً تُروى على شاشاتِ الأخبار، بل إبادةٌ تُحاكُ بخيوطِ صمتٍ دوليٍّ مسموم، يشتري صواريخَ لقاتلِه ويغضُّ الطرفَ عن جثثِ أحبّتِه. لا شيء هنا سوى لحمٍ يتفتّتُ بينَ مخالبِ الحديدِ الغربيِّ، ودمٍ يخطُّ وصاياهُ على جدرانِ المخيماتِ التي وُلدت من ضلعِ المنفى.

في أحد الأزقّةِ الضيّقةِ، حيثُ تتكدّسُ الأرواحُ المنسيةُ مع أرغفةِ الخبزِ المفقود، جلستْ أمٌّ تُرضعُ طفلاً لم يعدْ يصرخُ من الجوعِ، بل من فكرةِ أنْ يكبرَ ليُقتلَ مثل أبيه. تُخبّئُه تحتَ ثوبِها وكأنَّ صدرَها آخرُ حصنٍ في وجهِ جنونِ القنابل. تقولُ لجارتِها إنّها لم تعدْ تبكي، فالبكاءُ رفاهيةٌ لمَن يملكُ وقتاً إضافياً للعزاء.

مَن يروي حكايةَ هؤلاءِ حينَ يموتون؟ من يجمعُ حروفَ أسمائهم من أفواهِ الدمار؟ الصحافةُ التي اعتادتِ الاصطفافَ على الأرصفةِ تنتظرُ تصريحاً رسمياً يُبيحُ لها أن تقولَ نصفَ الحقيقةِ فقط. أمّا الحقيقةُ كلُّها فهي هنا، في رائحةِ لحمٍ بشريٍّ يتصاعدُ من البيوتِ كالبخورِ الأسودِ في جنازةٍ لم يشاركْ فيها أحد.

أمّا الجنديُّ الصهيوني الذي يضغطُ على الزنادِ في الضفةِ الأخرى من الحدودِ، فلا يرى في عدسةِ بندقيّتِه سوى هدفٍ تتحرّكُ فيه احتمالاتُ الخوفِ والفزعِ، كأنه يلعبُ لعبةَ قنصٍ إلكترونيةٍ بلا ذاكرةٍ ولا ذنب. خلفهُ، في غرفةِ عملياتٍ باردةٍ، يجلسُ ساستُهُ على مقاعدَ وثيرةٍ، يبيعونَ على طاولةٍ واحدةٍ دمَ القتلى وخرائطَ الحياةِ المقبلةِ بثمنِ أسلحةٍ ذكيّةٍ ومقولاتٍ أكثر ذكاءً عن «حقّ الدفاع عن النفس».

في غزة، لا يحتاجُ أحدٌ إلى فلسفةِ الحياةِ بعدَ اليوم. إنّهم يصنعونَ حياتهم من اللاشيءِ: من ظلِّ نخلةٍ نجتْ من القصف، من حكايةِ جدةٍ تجمعُ أحفادَها حولَ ضوءِ شمعةٍ لا تفضحُهم كثيراً أمامَ الطائراتِ التي تفتّشُ عن أصواتِ أنفاسِهم. هناكَ طفلٌ يحلمُ أن يصبحَ طياراً كي يزرعَ ورداً محلَّ القنابل. وهناكَ ممرضةٌ تقسمُ أن تخلعَ قناعَ الموتِ عن وجوهِ الضحايا ولو بيدٍ مقطوعةٍ.

ولعلَّ أقسى ما في الأمرِ أنَّ العالمَ صارَ يجلسُ متفرّجاً أمامَ شاشاتٍ عاليةِ الدقّةِ، يحصي الضحايا كأرقامٍ باردةٍ قبل أن يُبدّلَ القناةَ إلى مباراةِ كرةِ قدمٍ أو مسلسلٍ تافهٍ. كأنَّ دمَ أهلِ غزةَ تفصيلٌ زائدٌ في حقلِ السياسةِ الكبرى، وكأنَّ رائحةَ أجسادِهم لا تصلُ إلى غرفِ نومِ الملوكِ والرؤساءِ وأربابِ المؤتمرات.

أيّ عدلٍ هذا الذي يتركُ مدينةً كاملةً حُطاماً ليحميَ أسطورةً كاذبةً عن «أرضٍ ميعادٍ» غُسلت بدماءِ مَن لم يحملوا سلاحاً يوماً؟ أيّ رحمةٍ هذه التي تحوّلُ الأمهاتِ إلى قبورٍ تمشي على أقدامِها، تنتظرُ أن تضمَّ أبناءَها في الترابِ لأنَّ السماءَ أغلقتْ أبوابَها عنهم؟
ذات ليلةٍ، في قلبِ حيّ الشجاعيّة، التقطتْ عدساتُ المصوّرينَ صورةً لرجلٍ ينتشلُ رضيعةً من تحتِ الركامِ بيدٍ واحدةٍ، بينما يدهُ الأخرى تنزفُ بجرحٍ غائر. هذا المشهدُ العابرُ لم يكدْ يُعرضُ في نشراتِ الأخبارِ حتى اختفى خلفَ عناوينِ «اساطير توراتية» و«الشعب المختار» و«حقّ الدفاع عن النفس». لكنَّ الرضيعةَ ظلّتْ هناك، في حضنِ والدِها، لا تفرّقُ بين العدلِ والرصاص، ولا بين البياناتِ المزدحمةِ في دهاليزِ الأممِ الباردةِ وصوتِ أمّها الذي غاب.

ما يجري في غزة ليسَ معركةً بين جيشينِ متكافئينِ، بل ذبحٌ معلنٌ، إبادةٌ تُكتبُ بمدادِ الصمتِ العالميِّ وقسوةِ الآلةِ المدعومةِ بكلِّ تكنولوجيا العار.
في فناءِ بيتٍ مُدمّر، يقفُ طقلٌ صغيرٌ على بقايا سلّمٍ خشبيٍّ مائلٍ إلى السقوطِ في أيّةِ لحظة. يرفعُ يديهِ نحو سماءِ غزّةَ التي تشبهُ ثوبًا مرقّعًا بثقوبِ القنابلِ: «بابا قال لي إنّي ساخرج معهُ حين يعود... لماذا تأخّر؟»
لا جوابَ سوى صفيرِ طائرةٍ صهيونية بلا طيّارٍ، تنحتُ في الليلِ نغمةً باردةً، وتغرسُ في صدرِ المدينةِ وعدًا بموتٍ آخرَ لم يُدوَّنْ بعد.



#مالك_مجباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رصاصةٌ للبحر.. ووردةٌ للدم
- توراتهم الملوّثة وخرائطنا المحترقة: في ظلال الحرب الأخيرة
- خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان
- الدولة الدينية: حين يتخذ القمع وجه الإله


المزيد.....




- ما هي التقنيات المفترضة التي شوشت أنظمة الجي بي إس على طائرة ...
- -رمز للصمود ونعمة عظيمة-..آبي أحمد يشيد باكتمال بناء سد النه ...
- هجوم بسكين في مرسيليا يوقع 4 جرحى.. والشرطة تطلق النار على ا ...
- شي جين بينغ يرحب بفلاديمير بوتين لإجراء محادثات في بكين
- مواجهات في باندونغ: شرطة إندونيسيا تطلق غازاً ومطاطاً على طل ...
- حركة تحرير السودان: كيف نشأت وأين هي اليوم؟
- قمة شنغهاي تكشف -أنانية- واشنطن وإهمالها مبدأ المصلحة المشتر ...
- إسرائيل تبدأ بتعبئة جنود الاحتياط قبل هجوم متوقع على غزة، و- ...
- يوسف الكواري عضو المكتب السياسي للحزب في حوار حول “ماذا يجري ...
- شركة نستله تطرد رئيسها بسبب إخفاء علاقة غرامية مع موظفة!


المزيد.....

- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني / سعيد مضيه
- تمزيق الأقنعة التنكرية -3 / سعيد مضيه
- لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي / سعيد مضيه
- ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مالك مجباس - غزة، حين تصير الأرضُ مقبرةً للريح