محمد المحسن
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 11:55
المحور:
الادب والفن
إن قصيدة النثر خيارٌ جماليٌّ تقدم بناءً وفضاءً شعريا بمعايير فنية مغايرة لما هو سائد عن الصورة الذهنية التي كوّنها القراء منذ قرون طويلة عن الشعر العربي الذي يعتمد على الوزن وتفعيلاته.وهي تساعد القارئ على أن يكون خلاقا في استخراج الدلالة النفسية والفكرية وفرادة الرؤية التي يمتلكها شاعر عن آخر دون أن يكون واقعا تحت تأثير الموسيقى والصور المجازية المفرطة.
إن قصيدة النثر هي موقع المواجهة على حد تعبير باربارة جونسون بين الداخل والخارج،حيث تقوم على حالة المفارقة والتقابل في التصور الذهني بين الشعر والنثر.
لكن هل يمكن قراءة هذه المفارقة وهذا التقابل والصراع بين النثر والشعر كنوع من الاستعارة تشير إلى التقابل والصراع الاجتماعي والإيديولوجي والفكري؟
هل التحول الكبير الذي حدث للشعراء في عقد التسعينيات والانفجار الكبير في كتابة قصيدة النثر،يمكن قراءته اجتماعيا وسياسيا في سياق انهيار الصراع القطبي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة،وانفراد الأخيرة بحكم العالم،وانهيار القضايا الكبرى والكلية وانحياز الشعراء لما هو شخصي وذاتي،ما هو إنساني في ضعفه وتشظيه؟
وهل يؤيد هذه الفكرة انحياز شاعر قصيدة النثر لما يومي وواقعي عما هو خيالي مجازي مجنح،ويترجم هذا إلى انحيازه كذلك إلى لغة الحياة اليومية في عاديتها وكسرها لأفق توقع الصور البلاغية الاستعارية التي تصاحب عادة الشعر؟
وبسؤال مغاير أقول :
هل ارتباط قصيدة النثر بفكرة الكتابة والتدوين وتخليها عن سلطة الشفاهة التي ميّزت الشعر الموزون وشعر التفعيلة،جزءا من فلسفتها التي انحازت لها،انحيازها للإنسان في ذاتيته وعاديته بعيدا عن سلطة الشفاهة والإلقاء والموسيقى التي تمنح الشاعر أدوارا فوقية،فوق إنسانية؟.
ما أريد أن أقول في سياق هذه الإضاءة..؟
أردت القول أن الشاعر التونسي السامق أ-محمد الهادي الجزيري الذي يكتب دوما بحبر الروح ودم القصيدة أذهلني،بل أربكني بقصيدته المعنونة ب:" "أما كان أجدى بك..الإنتظار قليلا..؟!”
وعليه أنوه،إلى أن أهمية هذه القصيدة تبدو في أن تراتيل الحياة الهامسة الموحية فيها،تأتي في وقت يكاد يفلَس فيه ديوان (الإغتراب العربي المعاصر-بكاء الماضي الغابر،ورثاء هذا الزمن اللئيم ) أمام هجمة الشعر الموجه وأمام شعر الغموض و الطلاسم،الذي ينسب خطأ لموجة الحداثة المعاصرة وما هو منها في شيء.
وهنا أقول : قصيدة (“أما كان أجدى بك..الإنتظار قليلا ؟!”) حافظت على أهم مقومات القصيدة العربية،بناء،ولغة،وايقاعا و تخييلا..و هي قصيدة تلامس شغاف القلب بامتياز..
إذ أنها (في تقديري) تتنكر للتقليد والنمطية،
وتحتفي بالفرادة و الخصوصية.وتؤكد بالتالي على حقيقة أن السمو بالشعر،ليس في تلك الأوصاف المادية المباشرة الصرفة.وإنما هي في السمو به روحيا،و جعله لا يفقد جوهر معناه الحقيقي في ديوان الشعر العربي..أعني الصفاء،البهاء والتجلي..
وانتهينا إلى أن قصيدة الشاعر التونسي أ-محمد الهادي الجزيري تنفتح على عدة قراءات عاطفية ووجدانية وفنية،وحققت لغته جمالية خاصة بحكم ما يمتلك من كفايات إبداعية وقدرات مكنته من تشكيل رؤياه الشعرية الخاصة التي تتوحد فيها جهوده،ويلتحم الذاتي بالموضوعي.
وبدا أن عمله الإبداعي (وهذا الرأي يخصني-أيضا) ميزته كثير من الخصوصيات الفنية والمقومات الجمالية،وخاصة اللغة التي تمظهرت جماليتها من خلال تناغم الحقول الدلالية وتنوع الرموز الشعرية المفعَمة بالطاقة الإيحائية والتعبيرية واعتماد الانزياح في أبعاده المختلفة.
ومن هذا المنطلق يمكن القول : إن الشعرية قيمة تفاعلية مؤثرة في خلق المؤثرات الجمالية التي تباغت القارئ بمستوى المكتشفات النصية التي تحقق غايتها وقيمتها الإبداعية.
وهنا أضيف : تعد الشعرية قيمة جمالية متغيرة بإيحاءاتها وتشكيلاتها النصية،والقارئ الجمالي هو الذي يباغت المتلقي بأسلوبه الشعري،من خلال التشكيلات النصية المراوغة،وحراك الدلالات الشعرية التي تباغت المتلقي بأسلوبها التشكيلي الانزياحي الخلاق بمؤثرات الدلالة ومثيراتها النصية،وهذا يعني إن أي ارتقاء جمالي في قصيدة من القصائد يظهر من خلال بناها النصية المفتوحة ورؤاها العميقة.
وفي تقديري : إن الوعي الجمالي في اختيار النسق الشعري المؤثر والكلمة المؤثرة في بنية القصيدة هي التي تحدد الإمكانية الجمالية التي يمتلكها المبدع في خلق الجمالية النصية،وما من شاعر موهوب إلا ويملك الخصوصية الإبداعية،تبعاً لمحفزاته الشعرية،وطريقة الاختيار، وبراعته في اختيار النسق المناسب جمالياً..
ومن هنا تختلف شعرية المحفزات النصية من قصيدة لقصيدة،ومن سياق شعري إلى آخر،تبعاً لحساسية المبدع الجمالية ودرجة شعرية النسق..
ولهذا نلحظ اختلاف درجة شعرية المحفزات في جل قصائد الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري-تبعاً لحساسية الشاعر وبراعته في الانتقال من نسق تصويري إلى آخر،ومدى الوعي في الاختيار النسق الجمالي المؤثر في إيقاعه الشعري،ومن هنا يختلف الشاعر المبدع عما سواه وفقاً لحساسيته الرؤيوية،وبراعته النسقية في التشكيل والخبرة المعرفية في الانتقال من نسق شعري إلى آخر،وهذا دليل الحنكة الجمالية في التشكيل والوعي الجمالي في تفعيل المحفزات الجمالية تبعاً لحساسية الرؤية وفنية اللغة في التعبير عن الفكرة الشعرية.
وبتصورنا : إن الفكر النقدي الإبداعي يقف على المثيرات النصية المؤثرة التي تجعل القارئ يتلذذ بمتعة المكاشفة والاكتشاف الجمالي،فالقارئ الجمالي هو الذي يكتشف ما خفي من النص، ويكتشف الرؤى البؤرية العميقة التي ينطوي عليها..
ومن هنا فمن يبحث في مثيرات الشعرية ومتحولاتها النصية في قصيدة من القصائد عليه أن يقف على المتغيرات الجمالية التي تنطوي عليها القصيدة في تجلياتها النصية الشعرية المفتوحة برؤاها ودلالاتها النصية.
ومن يطلع على قصيدة(“أما كان أجدى بك..الإنتظار قليلا..؟!)،يلحظ-دون عناء-أن البناء الجمالي الذي تؤسس عليها حركة القصيدة يرتكز على المقومات والبؤر النصية التي تحقق قيمة جمالية عالية،من حيث الاستثارة والفاعلية واللذة في التلقي الجمالي..
إن حنكة الشاعر التونسي القدير أ-محمد الهادي الجزيري التشكيلية وراء التوهجات الإبداعية-كما أشرت-في جل قصائده،وهذا يؤكد أن الشعرية قيمة تفاعلية تحقق استعلائها الجمالي من تشكيلها النصي المثير،وحراكها الشعوري المفتوح،وهذا دليل احتفاء قصائده بكل مظاهر الاستثارة واللذة في تلقيها الجمالي الآسر.
إن الروح الجمالية هي التي تحكم سيرورة قصائد -الجزيري-من حيث الفاعلية والدهشة والتأثير،وهذا يؤكد أن الشعرية تشكل الرحم الجمالي لقصائده،في توثباتها الإبداعية الخلاقة بالمعاني والدلالات الجديدة،وهذا ما يحسب له على المستوى الإبداعي.
إن الفكر الجمالي في تشكيل القصيدة عند-شاعرنا الجزيري-ينبع من فاعلية الرؤى التشكيلية في ترسيم الجمل الشعرية لتحمل دلالاتها ورؤاها النصية،وهذا يؤكد أن الشعرية تفاعل مؤثرات جمالية محمومة بالدلالات النصية الجديدة والرؤى المتخمة بدلالاتها ورؤاها الشعرية..
من هذا المنطلق تتأبى قصائد أ-محمد الهادي الجزيري عن الصور السطحية لتركز رؤيتها على المعاني البؤرية العميقة والدلالات المفتوحة في مدها الشعوري الاغترابي المحموم،أو العاطفي المتوتر بدراما الأحداث والرؤى الواقعية المتخيلة.
على سبيل الخاتمة :
إن احتفاء الشاعر بالصور هو احتفاء في تأسيس اللغة الشعرية على مثيرات درامية مفتوحة في تشكيل القصيدة،وهذا ما يجعل الرؤيا الشعرية متغيرة في تجلياتها الإبداعية تبعاً لفاعلية الصورة الشعرية عند -الجزيري-وغناها بالمؤثرات التشكيلية التي تحقق إيقاعها الجمالي بأقصر الألفاظ وأرقى الصور الشعرية في الإحاطة بالموقف والحدث الشعري في آن معاً.
ومن هذا المنطلق-أولا..وأخيرا- تغتني الشعرية في قصائده بدلالات شتى لأنها نابعة من روح شاعرية مفعمة بالرؤى والدلالات الشعرية الجديدة.
وللقارئات الفضليات،والقراء الكرام حق الرد والتفاعل :
أما كان أجدى بك الانتظار قليلا
فبيني وبينك عقد اتفاق بريء
ينُصّ على أن أموت
أنا أوّلا
ولكن ذهبت وخلفتني ذاهلا وذليلا...
أما كان أجدى بك الانتظار قليلا
لكي أستعيدَ نشاطي وعافيتي
وأشفى وأصبح ربّا خدوما.. جليلا
وحتّى أعدّ لك البيض معتدلا / ناضجا بين بين
وأجري كما النهر بين يديك
فتى عاشقا طائعا
سلسبيلا
وكنت أظنّك يا قطتي تطلبين
مزيدا من الحبّ
لكنها الأرض كانت تناديك
يا هولها الأرض
كم هيَ فعلا.. أنانية وعجولةْ
أما كان أجدى بك الانتظار قليلا
ليعتذر القلب منكِ
ويُجهش بالاعتراف
وأبكي طويلا
( كأنّي
لمحت ابتسامة عفو...على شفتيك...ِ
وقد بزغ الفجر
يا أنتِ..
كم كنتِ دوما نبيلةْ )
أما كان أجدى بك الانتظار قليلا
لكي أستعدّ لهذا؟؟؟
فكيف أسمّيه..هذا؟؟؟
وأدعوه ماذا؟؟؟
وأرجوه أن يتبرّأ من فعله المُسترابِ
وأن يستقيلَ...
لماذا تبعتِ إلى القبر..
هذا الدميم الفظيع الرهيب..
الذي يقطع الجذر من أصلهِ
والقصيدة من كلّ معنى عظيم
فتمسي حقيقة حُبّي
هباءً وقولا وقيلَ
أما كان أجدى بك الانتظار قليلا..فقطْ
ريثما أستعدّ لإصلاح هذا الخطأْ
غيابك أفدح جُرم
وأقسى.. وأقصى..غلطْ
هذا هو شعر أ-محمد الهادي الجزيري،جلباب نسجه بأنامله الحرفية الدقيقة مختزلا قيم الحب والشوق والحنين والولاء للروح والمكان والحبيبة،ناشرا هويته بين قلوب الناس بطاقات وشهادات ميلاد جديدة،كزهرة أقحوان فواحة بأريجها ووريقاتها التي لا تنذبل..
وقصيدته “ أما كان أجدى بك..الإنتظار قليلا..؟! " منبجسة من دهاليز الروح ،وهي عاطفية في المقام الأول وفريدة في عالم القصائد بل أدعي أنها-أي القصيدة -كافية للولوج بكاتبها إلى مدارات الفن العليا رافعا الرأس على أن للقصيدة مدارات أخرى لم أتناول منها شيئا إذ لكل مقام مقال..وأنا في مقام الإشارة لجودة نص وتفرد ناصة في دنيا القصيد.
دمت-يا محمد-لامع الحرف..وذائقا لمعانيه العميقة..
#محمد_المحسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟