|
هيجل
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 16:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
285 - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 33 هيجل
وصل هيجل إلى جامعة يينا Iéna في سنة ١٨٠١ وعمره يناهز الثلاثين عاما، وفيختة كان قد طرد قبل ذلك في 5 نوفمبر عام 1799 بتهمة الكفر والإلحاد والتي أستغلها جاكوبي كما رأينا ليواصل هجماته العنيفة ضد الفلسفة وضد العقل عموما، بينما شيلنج كان مايزال يواصل التدريس في هذه الجامعة، متعاونا مع هيجل، الذي كان صديقه في مناقشة العديد من القضايا الفلسفية المطروحة ذلك الوقت، وساهما معا في تأسيس وإصدار مجلة دورية «مجلة النقد الفلسفي» والتي لم تستمر سوى سنة واحدة. يمثِّل هيجل ذروة تطور الوعي الفلسفي الأوروبي واكتمال أدواته النظرية في بداية القرن التاسع عشر، قبل أن يبدأ هذا الوعي في تحطيم نفسه بنفسه، وذلك بالتخلِّي عن "العقل" لصالح العواطف والأحاسيس الذاتية ثم ما بعد الحداثة والتفكيكية، وأولوية اللامعقول على المعقول، والحدس العشوائي على المنهج المنظم، والذاتية النسبية على الموضوعية العلمية، وأصبح هذا العقل تائها ومشتتا بين عشرات ومئات المدارس الفكرية المتناقضة في أغلب الأحيان. فقد استطاع هيجل تحويل الجانب الديني للحياة إلى فكر، وفكرة التثليث إلى ديالكتيك ـ أو ما يترجم عادة بالجدلية، وفكرة التجسد إلى تاريخ، والإيمان الخالص إلى عقلٍ مطلق. خرجت الفلسفة أولا من الدين في أعمال هيجل الأولى ثم عادت إليه لتعقله وفهمه بالعقل الخالص دون ما حاجةٍ إلى وحي أو كتابٍ أو رسولٍ أو رسالة. في نهاية الأمر، لا جديد تحت الشمس، فهذا الموقف العقلي من الدين هو ما قال به سبينوزا ثلاثة قرون قبل هيجل كما رأينا في الفصول السابقة. وهذا ما أدى بالهيجليين الشُّبان أو اليسار الهيجلي الأكثر جذرية من هيجل لإنتقاد المثاليَّة بإعتبارها جوهر الدين واكتشاف أنها مجرد أسطورةٌ لغوية وصورية ومجرد وهم ذاتيٌّ، واغتراب عن العالَم الحسي.. كما فعل دافيد شتراوس في «حياة المسيح». واكتشاف لودفيج فويرباخ أن الدين اغترابٌ عن العالَم في «جوهر المسيحية». ثم بدأ هؤلاء الشباب المثقف البحث عن البديل عن المثالية كما وجدها هيجل بديلًا عن الدين. «الوعي الفردي» عند برونو باور، و«الطبقة» عند ماركس. وتحوُّل «الأنا الترنسندتنالي» الكانطي إلى «الأنا الوجودي» عند ماكس شترنر حيث بدأت الوجودية قبل الأوان في كتابه الوحيد «L’Unique et sa propriété». فقد كان الاتجاه الفكري والسياسي السائد في أوساط الشباب الهيجلي الراديكالي أن نقد المسيحية وتجاوزها هو الحل الوحيد الممكن والذي يفتح أبواب الثقافة المعاصرة للمجتمع الألماني، أي إلى اللحاق ببريطانيا التي أنجزت ثورتها الصناعية وكونت حياة برلمانية، وبفرنسا التي قضت على الحكم المطلق عبر ثورة 1789 ووضعت أسس المواطنة والمساواة السياسية ولو إلى حين. ولذلك ركز مثقفوا اليسار الهيجلي في كفاحهم ضد الإقطاع على تحطيم أسس الدين المسيحي وقواعده، خاصة وأن الهجوم على الدين كان أقل خطرا من المواجهة المباشرة مع النظام المطلق. لقد كانت الأسلحة الموظفة في الصراع هي أطروحات وكتب ورسائل ومحاضرات ونقاشات فلسفية عقلية ومنطقية، لكن الغايات الحقيقية كانت سياسية في أغلب الأحيان. وكانت المواجهة والصراع ضد هيمنة هيجل الطاغية وانتصاره للدولة البروسية ومماثلته بين الدين والفلسفة باعتبارهما تعبيرين متنوعين "للروح المطلق" أو "العقل" هو المدخل للكفاح السياسي المناهض للحكم المطلق. في سنة ١٨٠٢ نشر هيجل كتابه النقدي "الإيمان والمعرفة - foi & savoir " الذي يحتوي ثلاث دراسات عن كل من كانط وفخته وجاكوبي، مما يدل على استمرار حضور كانط وفخته في كتابات هيجل الأولى، وكذلك عن أهمية أطروحات جاكوبي الذي يفتقد إلى الشرعية والشهرة الأكاديمية التي يتمتع بها كانط وفيخته وشيلنج. في المقدمة يعرض هيجل عن الحالة الراهنة من العصر والتيارات الفكرية السائدة والصراع بين الإيمان والعقل. فبالرغم من أن المقارنة بين مذهبي فخته وشلنج تقتضي عرض أفكار شلنج ثم عرض فلسفة فخته قبل المقارنة بينهما، إلا أنه أكتفى بعرض فلسفة فخته فقط في الجزء الأخير من «الإيمان والمعرفة». تكشف أعمال هيجل في هذه الفترة عن حيرته وتردده بين المثالية والواقعية، بين الصورية والمادية، بين العقل والوجدان، ثم أنتقد بشدة موقف جاكوبي بإعتباره موقفا مناهضا للفلسفة وبالتالي ليس فلسفيا. واعتبر أن موقف جاكوبي من الفلسفة يمنع أي تفكير فلسفي من ناحية، ومن ناحية أخري يجعل الوصول إلى أية معرفة عقلانية تستحق نعتها بالحقيقة شبه مستحيلة. غير أن هيجل بعد خمسة عشرة عاما من صدور كتابه "الإيمان والمعرفة" والذي يعتبر جاكوبي كشخص تجريبي يرفض العقل ويُظهر عمىً تامًا عما هو تأملي أصيل في أفكار سبينوزا وكانط،، غير رأيه تماما وذلك في في كتابه "مراجعة أعمال جاكوبي - Recension des œuvres de Jacobi" الصادر سنة ١٨١٧. وقد كتب هيجل بخصوص المجلد الثالث للأعمال الكاملة لجاكوبي، بأن جاكوبي، رغم الإنتقادات السابقة له، تمكن على الأقل، لأول مرة أن يفهم "المطلق" من خلال العينيي أو المتشخص والمتعين وإنجاز الانتقال من الجوهر المطلق إلى الروح المطلقة. وإن كان يأخذ عليه رغبته في إغلاق هذا المحتوى المطلق داخل صندوق "المعرفة المباشرة". ذلك أن هيجل يرى أن مقابلة العلم المباشر بالعلم الفلسفي هو شيء يشبه "الأعمى الذي يتكلم عن الألوان". وهذا الإعتراف المتأخر بصحة إنتقادات جاكوبي لفلسفة كانط، أعطى معنى جديدا لهذه المعركة الفكرية. فها هو أكبر فلاسفة ألمانيا يعترف بأن جاكوبي كان على حق في إنتقاداته لكل من هاجمهم. وهكذا في صيف سنة ١٨١٨، جاء جاكوبي وشلة من أصدقاءه إلى هايدلبرج Heidelberg لمقابلة هيجل وشكره على موقفه المساند لهم. هذا الإنقلاب الفكري والتراجع عن إدانة أفكار جاكوبي ليس مجرد نصٍّ ظرفي، بل هو إحدى نتائج تطور الفكر الهيجلي، الذي سيُفضي في موسوعة العلوم الفلسفية l Encyclopédie des sciences philosophiques إلى تعارض واضح بين ميتافيزيقا فورية تنتقد الميتافيزيقا التقليدية للعودة إلى بدايتها الديكارتية، وبين نظام تأملي حقيقي، هو الوحيد القادر على فهم معنى التجربة الوجودية. مشروع هيجل الفلسفي، هومشروع كل فيلسوف يريد الوصول إلى الحقيقة، أي البداية من الصفر، وبناء الفكرالفلسفي على أسس أكثر متانة وأكثر قربا من الحقيقة، أي إعادة تأسيس الفلسفة، كما فعل من قبله بارمينيدس وسبينوزا وكانط وغيرهم من كبار العقول الذين يعتبرون أن العالم الفكري مجرد كميات ضخمة من المعلومات والأفكار والمقولات، مكدسة بطريقة عشوائية في فوضى تحتاج إلى جهد رهيب لتنظيمها في نسق منطقي واضح. وكما أكد بارمينيدس وكذلك سبينوزا من بعده، لبناء فلسفة جديدة تقود إلى الحقيقة، لا بد من التخلص من العادات الفكرية والتقاليد الفلسفية والأفكار الجاهزة المتعارف عليها. وللوصول إلى ذلك، لابد من إستعمال العقل وصقله ليتمكن من إستكشاف عالم الحقيقة. رغم أن هيجل نفسه يتظاهر بغير ذلك، فيقول عن فلسفته أنها احتوت الفلسفات السابقة جميعا، فهي امتداد وليس نشوءا جديدا، وهي تفسير لما اراد من سبقه من الفلاسفة أن يقوله ولم تسعفهم التجربة الإنسانية في الاستدلال أو الإيضاح. ولكن كان ذلك في بداية شبابه والمناقشات الطويلة بينه وبين شيلنج وهولدرلين، وقد كان يريد أن يكون فيلسوفا شعبيا يفهمه الجميع. وانتهى به الأمر لأن يكون عكس ذلك تماما كما يقول برتراند راسل، في تاريخ الفلسفة الغربية: «من بين كبار الفلاسفة، هيجل هو أعصاهم على الفهم وأكثرهم تعقيدا.»
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجسد معبد اللغة
-
تفتت الأنا
-
ميلاد الموتى
-
دهاليز الروح
-
سبينوزا ونهاية المغامرة
-
سبينوزا وفكرة السلب
-
حرية الحجر
-
الجسد المثقوب
-
الرصاصة والثقب
-
المعطف المثقوب
-
اليهودي الملعون
-
فيخته بين العقل والأخلاق
-
إما الثورة وإما العبودية ..
-
فلسفة القفزة القاتلة
-
الله والذكاء الإصطناعي
-
رسالة جاكوبي ضد العدمية
-
المثالية الألمانية
-
بيكيت بين العبث والعدمية
-
الجنون
-
محنة هاملت
المزيد.....
-
مفاجأة غير متوقعة.. العثور على ضعف ما أبُلغ عنه من عدد حيوان
...
-
جان نويل بارو يزور كييف بعد وابل من القصف الروسي
-
سرعتها تفوق 700 كيلومتر في الساعة..كييف تعثر على حُطام المُس
...
-
إيران تكشف عن موعد ومكان محادثاتها مع -الترويكا- الأوروبية..
...
-
ترقب بشأن تطور هجوم برشلونة بعد التحاق النجم الانجليزي راشفو
...
-
استئناف المحادثات النووية بين إيران والقوى الأوروبية في إسطن
...
-
عشائر بدو سوريا.. جذور عميقة في التاريخ وامتداد في الجغرافيا
...
-
السجن ثلاث سنوات لطالب في كوت ديفوار بتهمة الإساءة للرئيس
-
المحتوى المضلل يجد طريقه إلى -شات جي بي تي- بفضل المحتالين
-
ما المواد -المتطرفة- التي أقرت روسيا تغريم الباحثين عنها؟
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|