|
المَسرح في فلسطين قبل النّكبة وبعدها بقليل
راضي شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 14:48
المحور:
الادب والفن
عَقَبات وتحدّيات في ظُروف سياسيّة ضاغطة وغير طبيعيّة
لم تشهد فلسطين حراكاً مسرحيّاً يُذكر إبّان فترة الحكم العثماني الذي استمرّ لمدّة 400 سنة، حيث كنّا خلالها جزءاً من بلاد الشّام الكُبرى، التي أصبحت لاحقاً بحُكم التّقسيم السّايكْسْبِيكُوِيّة تُسمّى تقسيميّاً وتجزيئيّاً: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. الحالة الوحيدة التي عبّرت عن شكل حكائي شعبي مسرحي مميّز على امتداد مدّة طويلة من الزّمن، نتجت عن ظهور جدّنا الأكبر "الحكواتي" الذي اعتمد في أدائه الحكائي الشّعبي على السِّير الشعبيّة المعروفة التي ظَهرت على شكل مجلّدات ضخمة، مطبوعة او مدوَّنة، مثل "سيرة عنتر بن شداد العبسي"، التي كُتبت في القرن التّاسع الميلادي، و"تغريبة بني هلال" التي كُتبت سنة 1052 و"سيرة الزّير سالم"، الملحمة الشّعريّة التي ظهرت مطبوعة سنة 1894..وغيرها. كانت هذه السّير الشّعبيّة تشبه فنّ الرّواية، ولكن بأسلوبها الخاص، وليس صدفة أن يُطلق المصريّون على "المسرحيّة" اسم "رواية". تطورت أدوات هذا الحكواتي الرّاوي الممثّل الجدّ الأكبر من السّرد المقروء الى السّرد المحفوظ عن ظهر قلب، الى استعمال الغناء والعزف على الرّبابة، الى التّجوال، الى الجلوس على مكان مرتفع يشبه منصّة العرض، لكي يكون مرئيّاً لجميع الـمُشامعين، (اي الـمُشاهدين والسّامعين). لم يكن لديه كواليس أو ستائر او جدار رابع يفصله عن جمهوره. هكذا بدأ أيضا الممثّل اليوناني "ثيسبيس" عمله كحكواتي في القرن السّادس قبل الميلاد متجولاً مع عربته، مقدّما شكلاً رياديّا من المسرح اليوناني. هل تـَهيّأتْ ظروف بلادنا لجعل المسرح تقليداً متّبعاً بكثافة، في ظلّ احتلالات قاسية وقمعيّة ومتتالية، وفي ظلّ عدم استقرار سياسي، او استقلال وطني، او التّواجد في كيان يخصّنا، وبشكل مستقلّ خالٍ من الاحتلالات المتنوّعة التي كلّما ضَعف أحدها وانتهى، استلم احتلالٌ آخر مكانه، معبِّئاً ما تركه سابقه من فراغ لم يكن بمقدورنا ملؤه؟ هل يمكن القيام بنشاط مسرحي حرّ، او خَلق حالة مسرحيّة لم تكن الحاجة اليها مُلِحّة، في ظلّ هذه الدّوّامة الاحتلاليّة التي لا تنتهي، في أزمنة متتالية لم نتحرَّر فيها وطنيّاً، لدرجة أن يصبح فيها المسرح تقليداً يوميّاً يَؤمّه طالبوه بشَغَف، كما أصبح هذا الأمر تقليداً أساسيّا في الغرب وفي شرق آسيا منذ عقود ضاربة في جذور الزّمن والتّاريخ؟ كان الشّعر يُعتبر ديوان العرب، فالشّاعر يمكنه بمفرده أن يكتب قصائده بشكل فردي. والحكواتي الفرد أيضا يستطيع ذلك، ولكنّ ظهورهما أمام الجمهور لكي يُدْلِيا بِدَلْوهما الإبداعيّ مشروطٌ بأن لا يكون ما يقدّماه محرِّضاً ضدّ السّلطة؛ وعندما يتطلّب الأمر تقديم عروض مسرحيّة جماعيّة، اي بوجود طاقم ممثّلين وتجمّعات بشريّة، فهذا يُصبح شبيهاً بالشّكل التّظاهري الذي لا بدّ من مراقبته من قبل الاحتلال الحاكم، او السّلطة الحاكمة، حيث لا بدّ أن يكون القائمون على هذا النّشاط مدعومين من قبل السُّلطة ومُبجِّلين وشاكِراين لها لِسماحها بتقديم العرض، بحيث يكون العرض مُتطرِّقاً لمواضيع إنسانيّة عامّة بعيدة عن التّحريض والسّياسة والوطنيّة، والدّعوة الى التّمرد، والمناداة بالتّحرر من نير الاحتلال. وبناء على ما تقدّم، فإنّه لم تظهر لدينا في فلسطين، وهي موضوع بحثنا، فرقٌ مسرحيّة محترفة وطويلة العمر، إلّا في فترة متأخّرة، ابتداء من فترة نهاية الحكم العثماني سنة 1916 . لم نسمع إلّا بالقدر اليسير الحديث عن حراك مسرحي إبّان الحكم التـّركي، اللهم إلّا ما تسرّب الينا عن مسرحيّات مسرح الظّلّ القائمة على شخصيتيّ "عيواظ وقراقوز"، وهو شكل تركي؛ وطبعاً بوجود الجدّ الأكبر "الحكواتي" مع سِيَره الشّعبيّة، كوسيلة ترفيهيّة تحمل في طيّاتها بعض المضامين الأخلاقيّة والعِبَر، والتي كان يُقبِل عليها النّاس بشَغَف وبِتلَهُّف؛ بينما هو جالس على منصّة صغيرة تتّسع له ولكرسيّه، والعيون شاخصة بتلهّف، متفاعلة معه، ومتفاعل هو مع مُشامِعيه بدون حواجز، وبعدم توفّر التّقنيات المطلوبة من إضاءة ومكبـّرات صوت، لأنّه في زمن الحرمان من الكتب والتّعليم والمسارح والنّوادي الثّقافيّة، كان جدّنا الأكبر يشكّل لـمُشامِعيه بديلاً بسيطاً جدّاً، مقارنة بما نتمتّع به في عصرنا من تلفزيون وسينما ومسرح وانترنت وغيرها من وسائل التـّرفيه والتّثقيف والتّعليم وإيصال العِبَر. من الملفت للانتباه أنّ ما قُدّم من أشكالٍ لأعمالِ هُواة في نهاية الحكم العثماني كان معظمه موجّها لمديح الدّاعي لهذا العرض وهو السّلطة، بحيث تضمن ولاء مقدّمي العرض وجمهورهم للحاكم، فلا بدّ من خطاب افتتاحي قبل العرض، أكان ذلك عرضاً مسرحيّاً، فيما نَدَر، او غناء او رقصاً؛ يعبّر فيه الخطيب عن دعمه لهذا النّشاط، وغالباً ما كان يضطرّ مقدّمو العرض، او مندوب عنهم، بتقديم خطاب شُكرٍ وامتنان للسّلطان والقائمقام؛ وبما أنّ الدّولة هي دولة إسلاميّة، فلا بدّ أن يكون النّشاط او الخطاب فيه مغزى يعبّر عن نزعتهم الدّينيّة. وعلى سبيل المثال، فإنّه مع اقتراب سقوط الدّولة العثمانيّة بعشر سنوات اي سنة 1909 قَدّمت السّلطات دعماً لفرقة من الجنود الأتراك لتقديم مسرحية "هملت" الانچليزيّة الشّكسبيريّة باللغة التركيّة، ويقوم بتمثيلها عساكر أتراك وهم بزيّهم العسكري، عن طريق "جمعية الاتّحاد والتّرقّي" حيث كان المطلوب أن يـُخصّص ريعها لدعم الأسطول التّركي. تـَخيَّل أنّ ذلك كان قبل وقت قليل من فترة انهيار الخلافة الترّكيّة، وتعبئة فراغ سقوطها عن طريق الاحتلال الإنچليزي لفلسطين، وتقاسُم شرقنا بين جميع الاحتلالات الغربية الاستعماريّة. تـَخيَّل أنّنا نتحدث عن نهايات الدّولة العثمانيّة، عندما كانت بلادنا فلسطين جزءاً من بلاد الشّام، وقبل أنْ تَعقد فرنسا وانچلترا اتّفاقيتهما السّرية سنة 1916، ألا وهي "اتّفاقيّة سايكس- بيكو"، يتقاسمان بموجبها مناطق النّفوذ في غرب آسيا بعد تَفكُّك الدّولة العثمانيّة، وتلا ذلك بِسنة واحدة فقط، اي سنة 1917، عندما صَدَر "وعْد بلفور"، الذي بموجبه يحقّ لليهود إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. نحن نتحدّث عن محاولات طفيفة من الحراك الثّقافي في ظلّ احتلالات متتالية تقسيميّة تشتيتيّة طوال حياتنا في هذه البلاد. بقيت فلسطين تحت الحكم التـّركي لمدة 400 سنة، من سنة 1517 حتى سنة 1917، واستمر الحكم الإنچليزي منذ 1917 حتى 1948. هذه المحاولات ابتدأت في آخر سنوات الاحتلال التّركي، حيث كانت العروض المسرحيّة موسميّة ومناسباتيّة معتمدة على الهواة والتّطوّع أكثر من اعتمادها على فرق مسرحيّة محترفة. من هنا فصاعداً، حتى قدوم الاحتلال الانجليزي وانتهاء بسنة 1948 بظهور الاحتلال الإسرائيلي وحُكْمه العسكريّ، حدث تطوّر سريع وهبّة تصعيدية لظهور فرق مسرحيّة وإنتاجات وأعمال وعروض مسرحيّة كثيرة. لم نحظَ إلّا لاحقاً، إبّان الاحتلال الإنچليزي، بوجود فرق محترفة تعتمد على نصوص محليّة او حتى غربيّة. ويُذكر على سبيل المثال أنّ فِرَقاً ظهرت بأسماء مؤسّسيها الذين كانوا يُشرِفون عليها، إمّا بكتابة نصوصهم الخاصّة، او اختيار نصوص لغيرهم، مثل *1[فرقة "نصري الجوزي" وفرقة "جميل الجوزي" وفرقة "اميل الجوزي"، و"فرقة فريد الجوزي وابراهيم هيمو"] حيث ظهر فيها بشكل ملفت للانتباه مشاركة فتيات الى جانب الشّباب في التّمثيل. وكانت مسرحيّاتهم تُمثَّل في الإذاعة صوتياً، وأيضا أمام الجمهور. *2[وظهرت" فرقة الكرمل" قبل عام 1944 بقيادة الفنان الممثّل "إسكندر أيوب" أول رئيس لنادي التّمثيل الحيفاوي]، والحديث هنا عن سنة 1938، اي سبع سنوات قبل الحرب العالميّة الثّانية و10 سنوات تمهيديّة لقيام دولة "إسرائيل!". *3[و"فرقة الندوة الفنيّة"، و"الفرقة التمثيليّة الفلسطينيّة"، و"فرقة الهلال التّمثيليّة"، و"فرقة التّمثيل الحيفاويّة "، و"فرقة الثّقافة والفنون"، و"فرقة نادي التّمثيل العربي"، و"فرقة اتّحاد الممثّلين العرب"، ويبلغ عدد أعضاء هذه الفرق مئة وعشرين عضواً ،وللنقابة مجلس إدارة يتألف من ممثّل عن كلّ فِرقة من الفِرق الـمُنضمّة للنقابة، وعدد من الأدباء والهواة"] نلحظ اهتماماً بالمسرح والأنشطة الثّقافية عند قدوم الاحتلال الإنچليزي والفرنسي، ونشطت مدارس الإرساليّات المسيحيّة، والجمعيّات الخيريّة المسيحيّة، والنّوادي الثّقافيّة، وفرق الكشّافة الإسلاميّة والمسيحيّة، وكُتّاب النّصوص المسيحيّون المتأثّرون من المسرح الغربي المسيحي، وبخاصة المسرح الفرنسي والإنچليزي. لاحِظ الانتقال من الجمعيّات الخيريّة الإسلاميّة في نهاية الدّولة العثمانيّة، والظهور الكثيف للجمعيّات الخيريّة المسيحيّة التي تعاملت مع مجال المسرح. هنا يوجد دائماً تأكيد على التّبعيّة الدّينيّة لسلطة المستعمر، وكأنّما هي سياسة متّبعة لفلسفة "فرّق تسُد". والأمر ذاته كان عندما استلم الاستعمار الغربي الإنچليزي والفرنسي المسيحي مكان الدولة العثمانيّة الإسلاميّة، ظهر النّشاط المميّز لكثير من المفكّرين المسيحيّين المتأثّرين من المسرح الغربي، فيبدو جليّاً كثافة حضورهم في التّأليف والتّمثيل بشكل بارز، مع ظهور المدارس والنّوادي الإرسالية الغربيّة، والتي كانت معظم النّشاطات الثّقافيّة، وبضمنها المسرحيّة، تقوم بداخلها وبواسطتها. هل فطنّا نحن العرب وبضمنهم نحن الفلسطينيّين الى أهمّيّة مجال المسرح بعد احتكاكنا وتعرّفنا على المتمرّسين فيه من الأوروبيّين، والذين ينتهجونه كتقليد حياتي مطروق كحاجة ثقافيّة عميقة منذ قرون، أسوةً بسائر الفنون والآداب؟ ظهرت غزارة العروض الفنية، وبضمنها العروض المسرحيّة بشكل جليّ مع قدوم الفرق الفنيّة والمسرحيّة الى فلسطين من مصر منذ سنة 1913، وتكثّفت منذ سنة 1920 فَلاحقاً، واستمرت حتى سنة 1942، اي بالرغم من بداية الحرب العالميّة الثّانية، وكانت فِرَقاً محترفة، وليس كما هو الأمر بالنّسبة للنّشاطات الفنيّة والمسرحيّة الفلسطينيّة التي كان جلّها من الهواة والنّاشئة وطلّاب المدارس التّابعين للنّوادي والجمعيّات الخيريّة، وليس على شكل فِرَق محترفة ومتجوّلة وكثيفة العروض والإنتاجات، حيث كانت العروض تُخصص لجمع التّبرعات من أجل دعم الأعمال الخيريّة، وفي الغالب لم تكن العروض مكثَّفة، بل كان العمل يُعرض لـِمرّة او مرتين او ثلاث، وكانت، كما أسلفنا سابقا، تعتمد على التّطوّع وبدون مقابل للمتطوّعين. ولأنّ المسرح لم يكن تقليداً طاغياً في حضوره، كما هو الحال في الغرب وفي شرق آسيا، فإنّ العروض وإنتاجها كان يتمّ على فترات زمنيّة متباعدة. إنّ مسرح الهواة غير المكثّف والمتقطع الظّهور، هو الذي كان الظّاهر في فلسطين، اي أنّ المسرح لم يكن تقليداً كثيفا ًكما كان الحال في الغرب وفي مصر والشام. كانت تعتبر نشاطات المقاهي ودور العرض مكاناً للعروض، وليس بالضرورة العروض المسرحيّة، بل إنّ العروض المسرحيّة المـُنتَجة محليّاً هي أقلّ بكثير من العروض الموسيقيّة والغنائيّة والرّاقصة؛ بينما كانت هنالك وفرة من العروض المسرحيّة والفنيّة القادمة من الخارج. استمر الأمر على هذا الحال الى أن بدأت النّشاطات المسرحيّة تنطلق وتزدهر وتتكثّف، ويُلاحَظ أنّ هبّة من النّشاطات المسرحيّة، ووجود عشرات الفرق و"نقابة الفنانين العرب"، ظهرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية ما بين 1944 وسنة 1947 اي قبل سنة من الاعتراف بدولة "إسرائيل!" ونهاية الانتداب البريطاني، وانتقالنا الى مرحلة حكم عسكري إسرائيلي استمر منذ سنة 1948 حتى سنة 1965. *4"كان مقرّ نقابة الممثّلين العرب في القدس، وتضم 120 عضوا يمثلون عشرات الفرق". *5"بسبب الأحداث السّياسيّة في ظلّ الانتداب البريطاني ومؤامرات الصّهاينة وأفعالهم، وسنوات الحرب العالمية الثّانية، تأثّرت الصّحافة الفلسطينيّة سَلبا ،سواء بالتّوقّف أو الإلغاء أو المنع أو الرقابة .. إلخ، مما جعلها لا تهتم بالفنون والمسرح كما كانت !لذلك لم أجد أخباراً كثيرة عن فرقةالجوزي إلا في عام 1945" في كتابه التّوثيقي والبَحثي المهم جدّاً الذي بَذَل فيه مجهوداَ كبيراَ باعتماده على مصادر صحفيّة وكتابات نقديّة ووثائق دَلاليّة استعان بها لإنجاز هذه المهمّة الشّيّقة والشّائِقة والضّروريّة جدّاً، كان الدّكتور والباحث المصري المعروف "سيد علي اسماعيل" دقيقاً ومُحِقّاً في اختياره اسماً لكتابه "المسرح الفلسطيني في فلسطين قبل النّكبة" لأنّه قصد القول: "المسرح في فلسطين قبل النّكبة"، وليس "المسرح الفلسطيني في فلسطين قبل النّكبة"، لأنّ الزّخم المسرحي الكبير للعروض المسرحيّة التي خَصّص لها القسم الأكبر من كتابه، كان عن الفِرَق التي قَدِمَت من مصر، والتي كانت الحركة المسرحيّة قد انطلقت منها وبقوّة بشكل احترافي ومكثّف، وهي تجوب بعروضها مصر وبلاد الشّام التي كانت فلسطين بضمنها، والتي كما يبدو ساهمت في تأثّر اهل فلسطين بها، ممّا ساهم ايضا في دفعهم لإنتاج عروض مسرحيّة خاصّة بهم. ولاحقاً إبّان الاستعمار الفرنسي والإنچليزي أصبحت العروض المعتمدة على نصوص غربيّة تُستورد وتُترجَم وتُقدّم بغزارة، وتبعناهم في ذلك لاحقاً، الى حين أصبحت لدينا قدراتنا الذّاتيّة بكتابة نصوصنا وإنتاج أعمالنا. الغريب في الأمر أنّ *6[مسرحيّة "عنتر" او "الفارس العبسي" مُثّلت في مدينة القدس بواسطة "جمعيّة الفنون والتّمثيل" سنة 1929 بعد أن ترجمها من الفرنسيّة "الياس أبو شبكة"]، بدلا من أن تُمسرح نصّيّاً ومحلّيا، مع أنّ حكواتينا لم يُقصّر في اتّخاذها مصدراً شبيهاً بالمسلسل الذي لا تنتهي حلقاته عند سردها أمام مُشامعيه، تمثيلاً وغناءً وعزفاً. من الملفت للانتباه أنه عندما يتمّ ذِكْر أنّ العروض التي تُقدّم على المسرح، يَظهر أحيانا استعمال كلمة "مسرح" بمعنى "منصة" او "المسرح"، أي بِضمنه ما يُعرض من أعمال على المسرح، اي على الخشبة، يمكن أن يتخلّل ذلك أعمالاً راقصة وغنائيّة، وعروضاً سينمائيّة وخطابيّة، والقاء شعر، وطبعاً يشمل ذلك مسرح الحكواتي الجدّ الذي كان يقدّم عرضه المونودراميّ على مسرحه الصّغير الذي يتّسع لكرسيّه فقط، ويتصدّر اللعبة بمفرده، فهو "الكلّ في الكلّ"، مواظباً على تواجده في عروضه منذ الاستعمار التـّركي والإنچليزي والإسرائيلي لفلسطين. وبسبب شحّ النّصوص المسرحيّة الفلسطينيّة، فإنّه كان لا بدّ من الاستعانة بنصوص مسرحيّة غربية وترجمتها وترويضها أحيانا لكي تصبح ملائمة لمجتمعنا؛ وفي الغالب هي نصوص إنسانيّة أخلاقيّة يـَحذَر مختاروها، بدافع الرّقابة الذّاتيّة او القانونيّة او السّلطويّة، أن لا تكون تحريضيّة وصداميّة، لأنّ العين لا تسطيع أن تلاطم مخرز الاحتلال، فَلا بدّ من انتهاج الرّقابة الذّاتيّة عمّا نختاره من إبداع. كان لنشاطات مسرح المدارس دور فعال والذي يقوم بالإشراف عليه معلّمون هواة من المدرسة ذاتها، واستمر ذلك حتى إبّان الحكم العسكري الإسرائيلي بظهور "مسرح بيت الكرمة" سنة 1963 كجزء من مركز ثقافي عربي/يهودي يحمل الاسم ذاته، مدعوماً ومراقباً من الدّولة؛ وعندما انتهى الحكم العسكري سنة 1965 تأسّس "المسرح الحديث" في النّاصرة، ومن ثم "المسرح النّاهض" سنة 1972 و"مسرح البلد" سنة 1973، و"مسرح الجوّال البلدي" سنة 1973 وتأسّست فرق مسرحيّة في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة مع بداية السّبعينات، مثل "فرقة بلالين" وفرقة "صندوق العجب" وفرقة "دبابيس" وفرقة "الحكواتي".. وغيرها. وبعدها ظَهَرت وبغزارة فِرق ومسارح كثيرة في أرجاء فلسطين، أصبح فيها كوادر من المحترفين في جميع متطلّبات المسرح من مؤلّفين ومخرجين، وممثّلين، ومُصمّمي أزياء وديكور، وملحّنين وراقصين ومغنين..الخ، وهذا يستحقّ دراسة موسّعة ومعمّقة لن يشملها بحثنا هنا. وأخيرا نتساءَل: هل فنّ التّمثيل كمفهوم إبداعي مشابه للتّمثال والتّماثيل والأصنام،كان سبباً في عدم انتشار المسرح كحالة فنيّة إبداعية وثقافيّة في شرقنا لمدة تاريخيّة ضاربة في القِدم لأسباب دينيّة، ام ان التّوتّرات السّياسيّة والاحتلاليّة ساهمت في تأخير انتشاره؟ ام لكليهما معا؟ هل ازدهار الشّعر والموسيقى والغناء والرّقص في الفترة العباسيّة والأندلسيّة يدلّ أنّ مجال المسرح لم يكن موجوداً بشكل ملحوظ لعدم الشّعور بالحاجة اليه؟ اللهم ما كان يقوم به جدّنا الأكبر الحكواتي في السّهرات السّحريّة عند حضوره مواجهةً مع حُضور مُشامِعيه. هل ارتباط المسرح بالحضارات الوثنيّة لدى غير المسلمين في فترة ما قبل الإسلام يتعارض لاحقاً مع الشّرائع الإسلاميّة، حيث أنّ الدّين أصبح ملازماً وتابعاً للسّلطة السّياسيّة؟ هل كان المسرح مقموعاً بسبب اقتران السّلطة الدّينية مع السّلطة السّياسيّة؟ بينما نجد انه تطوّر في الغرب في ظل وجود السّلطة الدينيّة المسيحيّة التي استغلّت المسرح منذ القرن الحادي عشر شكلا من أشكال المسرح كَفَنٍّ يخدم التّبشير الدّينيّ، ومَيْل الكثير من المبدعين المسيحيّين الفلسطينيّين والعرب لاحقا بقرون الى طَرْق هذا المجال بشكل بارز. *راضي شحادة- مسرحيّ وباحث وروائي فلسطيني
( ملاحظة: استعنتُ هنا بشكل رئيسي بكتاب"المسرح في فلسطين قبل النّكبة" للدّكتور "سيّد علي اسماعيل"، الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية سنة، 2021 والذي حمل العنوان ذاته.. تقريباً) *الصفحات أدناه، اقتباسات من كتاب الدّكتور "سيّد علي اسماعيل" "المسرح في فلسطين قبل النكبة" *1صفحة 89 *2صفحة90 *3صفحة 93 *4صفحة92 *5 صفحة89 *6 صفحة38
#راضي_شحادة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسافر يطّا يسافر الى غزّة
-
مسرحية -سيرك- - رؤية نقديّة
-
هل المسرح توثيقي وخادم للتراث؟
-
نِسبة حرّية التّعبيرّ في المُنتَج الثَّقافي لدى فلسطينيّي ال
...
-
الهُوِيَّة والأَناوِيَّة- محاولات -إسرائيل- الحَثيثة صَهْر ه
...
-
الهُوِيَّة- و-الأَنَاوِيَّة-* - محاولات -إسرائيل- الحَثيثة ص
...
-
فيلم -صالون هُدى-
-
ما أجمل البساط الأحر، لولا..راضي شحادة
-
التَّخَفِّي والظُّهور خلف قناع وماكياج
-
ما معنى سماح ادريس؟
-
حُطّ راسك بين هالرّوس
-
ورطتنا في أوسلو
-
اللعبة التنكّريّة القاتلة
-
زمن الجوائح العربيّة- تَساؤلاتُ مُلِحّة وحارقة ومُربِكة
-
تساؤلات عربي فلسطيني -مقهور-
-
حارس القدس- سجين القضية الفلسطينية والعربية
-
إحذروا الفوضى واللعب مع كوماندوز -المُستَعرِبين-
-
الشرف المطعون
-
معركة الدَّامُورْ ونُون البندورة- محاكمة فيلم -قضية رقم23- -
...
-
المسكوت عنه في أزمة الممثل الفلسطيني بين العرض والطلب
المزيد.....
-
إطلاق جائزة فلسطين العالمية للشعر في ختام مهرجان ميديين الدو
...
-
رئيس الممثلية الألمانية لدى السلطة في مقابلة مع -القدس- قبل
...
-
جدل في أوروبا بعد دعوة -فنان بوتين- إلى مهرجان موسيقي في الج
...
-
-المدينة ذات الأسوار الغامضة- رحلة موراكامي إلى الحدود الضبا
...
-
مسرحية ترامب المذهلة
-
مسرحية كوميدية عن العراق تعرض على مسارح شيكاغو
-
بغداد تمنح 30 مليون دينار لـ 6 أفلام صنعها الشباب
-
كيف عمّق فيلم -الحراس الخالدون 2- أزمة أبطاله بدلا من إنقاذه
...
-
فشل محاولة إقصاء أيمن عودة ومخاوف استهداف التمثيل العربي بال
...
-
“أخيراً جميع الحلقات” موعد عرض الحلقة 195 من مسلسل المؤسس عث
...
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|