أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين جباري - من هيوم إلى فلسفة الصيرورة الأصيلة: في نقد الاستقراء وبناء الرباط بين الحقيقة والكينونة والكرامة















المزيد.....

من هيوم إلى فلسفة الصيرورة الأصيلة: في نقد الاستقراء وبناء الرباط بين الحقيقة والكينونة والكرامة


عزالدين جباري
(Azeddine Jabbary)


الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 10:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عزالدين جباري


1. مقدمة
منذ لحظة الانفصال الكبرى بين الفكر والواقع التي دشنتها الفلسفة الحديثة، ظلت المعرفة البشرية تتأرجح بين نزعتين: الأولى تشكك في إمكان الوصول إلى يقين عقلي حول العالم الخارجي، والثانية تسعى إلى تأسيس منطق يقيني يعوّض هشاشة الحواس. في قلب هذا التوتر، يبرز ديفيد هيوم بوصفه الفيلسوف الذي أحدث الصدمة الأعمق في مشروع اليقين، عبر تحليله لمفاهيم مثل السببية والاستقراء والقيمة الأخلاقية.
لكن ما قدّمه هيوم لم يكن نهاية المسار، بل لحظة انكشاف تدعو إلى إعادة التفكير في العلاقة بين العقل والعالم، بين التصور والتكوُّن، بين الحقيقة والكرامة. وهو المعنى ذاته الذي تسعى فلسفة الصيرورة الأصيلة إلى تبيينه عن طريق فلسفة الصيرورة الأصيلة، وذلك بإعادة تأسيس العلاقة بين المعرفة والكينونة ضمن أفق تأويلي-أنطولوجي جديد.

2. سقوط اليقين عند هيوم
حين طرح ديفيد هيوم مشروعه النقدي في كتابه "التحقيق في الفهم البشري" (An Enquiry Concerning Human Understanding)، ميّز بين نوعين من موضوعات الفهم البشري:
يقول:
"كل اعتقاد يتعلق بمسائل الواقع أو بالوجود الحقيقي ينبع فقط من شيء حاضر في الذاكرة أو الحواس، ومن اقتران معتاد بينه وبين شيء آخر."

هكذا يُبين هيوم أن معرفتنا بالواقع لا تقوم على أساس عقلي ضروري، بل على عادة نشأت من اقتران متكرر في التجربة.
ويُقسم هيوم موضوعات المعرفة إلى:
الارتباطات التصورية: كقولنا (3 × 2 = 6)، أو "الخط المستقيم لا يمكن أن يكون منحنياً"، وهي قضايا تقوم على التحليل العقلي وحده.
معطيات التكوُّن: كقولنا "الثلج يذوب عند الحرارة"، أو "يوجد ذهب في الجبال"، وهي قضايا لا يمكن نفيها بمنطق محض، لكنها لا تضمن اليقين العقلي.

3. مشكلة الاستقراء: The Problem of Induction
يشكك هيوم في مبرر الاستقراء قائلاً:
"ليست لدينا فكرة عن هذه العلاقة إلا أنها بين شيئين اقترنا معًا بشكل متكرر؛ ولا نملك حجة لإقناعنا بأن الأشياء التي اقترنت في تجربتنا ستقترن دائمًا بنفس الطريقة؛ ولا يقودنا إلى هذا الاستنتاج شيء سوى العادة أو غريزة معينة في طبيعتنا."
ويضيف في موضع آخر من الكتاب نفسه:
"بكلمة واحدة، إذا لم ننطلق من واقعة حاضرة في الذاكرة أو الحواس، فإن استدلالاتنا ستكون افتراضية فقط؛ وحتى لو ارتبطت الحلقات الجزئية ببعضها، فلن يكون هناك ما يدعم السلسلة بأكملها، ولن نصل عبرها إلى معرفة أي وجود حقيقي."

أي إن الاستقراء لا يملك سندًا عقليًا، بل يقوم على عادة نفسية، أو ما يسميه هيوم بـ "instinct"، لا أكثر.

4. مشكلة الكائن والواجب: Is/Ought Problem

في كتابه "Treatise of Human Nature"، ينتقد هيوم الانتقال من وصف الواقع إلى إطلاق أحكام أخلاقية، ويؤكد على أنّ:
"فكرة الضرورة تنشأ من انطباع ما. وباختصار، الضرورة شيء يوجد في الذهن، لا في الأشياء؛ ولا يمكن لنا حتى تكوين فكرة بعيدة عنها بوصفها خاصية للأجسام. فإما أننا لا نملك فكرة عن الضرورة، أو أنها ليست سوى ميل الفكر إلى الانتقال من الأسباب إلى النتائج ومن النتائج إلى الأسباب، وفقًا لاقترانهما في التجربة."
وبهذا الشكل يُرسي هيوم الفصل الجذري بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، ليضع أساسًا لما سُمّي لاحقًا بـ قانون هيوم (Hume s Law).

5. فلسفة الصيرورة الأصيلة: نحو تجاوز جذري
تسعى فلسفة الصيرورة الأصيلة إلى تجاوز هذه التشققات الثلاث التي كشفها هيوم، من خلال مفاهيم:
 الصيرورة الحية بدل الحدوث الميكانيكي
 التفاوتات التكوينية بدل التكرار
 جوهر المسافة والتجذر بدل الانفصال
 الرباط الثلاثي بين الأنطولوجيا، الإبستمولوجيا، والإبثيقا

لا نعتبر السببية وهمًا ناجمًا عن التكرار، بل هي تجلٍّ داخلي للتفاوت الصيروري.
كما إن الارتباطات التصورية تتولد حين تنخرط الذات في معطيات التكوُّن عبر مسافة خلاقة تسمح بالمعنى. ولا ينبغي للقيمة أنْ تُفصل عن التكوين، بل إنها تتخلق داخله كـ رباط بين الحقيقة والكينونة.

6. رفع تعارض وهمي بين الكرامة الحية والمعرفة التجريبية
قد يعترض البعض بأن "الكرامة الحية"، كما تتجلى في فلسفة الصيرورة الأصيلة، لا يمكنها أن تغني عن العمل التجريبي الدقيق الذي يمارسه العالم في مختبره. وهذا اعتراض وجيه إذا ما فُهمت الكرامة بوصفها بديلاً عن الاستقراء أو حلاً تقنيًا لمشكلات الطبيعة. لكن الفهم الصائب أن الكرامة هنا ليست بديلة عن المعرفة العلمية، بل هي بُعد مكمّل ومؤسّس لأفق المعنى الذي تُفهم فيه هذه المعرفة.
فالعلم يشتغل على انتظام الظواهر، لكن هذا الانتظام، كما كشف هيوم، لا يقوم على مبررات عقلية صلبة، بل على عادة استقرائية. وما تقدّمه الصيرورة الأصيلة هو تأويل جديد لهذا الانتظام من الداخل، حيث يُفهم كنتاج لـ التفاوتات التكوينية في الصيرورة، لا كتماهٍ ميكانيكي.
يَحِقٌّ إذًا للعالِم أن يعمل داخل نموذج مغلق لفهم ما هو ممكن، أما الفيلسوف الصيروراني الأصيل(The authentic processist) فيسائل هذا الممكن من جهة وجهه الأخلاقي ومآله الوجودي. ومنه فالكرامة لا تلغي التقنية، لكنها تُضيء أثرها على المتكوِّن والمتكوَّن؛ تسأل: هل يحرر؟ هل يحفظ الوجه؟ هل يزرع النور في مسار الصيرورة؟
الكرامة الحية إذًا ليست بديلًا عن الاستقراء التجريبي، بل هي نَفَسُ المعنى الذي يجعل من المعرفة فعلاً ذا مغزى، لا مجرد رصد لظواهر صامتة. فالعالِم يشرّح جسد الزمن، أما الفيلسوف الصيروراني فينصت إلى نبضه الداخلي: هل ينبض نحو الحرية، أم يُستهلك في دوائر السَّوْء وانغلاق قد يطمس نور البصيرة؟
بفضل هذا الامتداد الصيروري من تحليل هيوم إلى مشروع الصيرورة الأصيلة، فإننا لا نسعى إلى نفي الشك أو استبداله بيقين جاهز، بل نعيد توجيه النظر إلى موضع المعنى في علاقتنا بالواقع. فالسببية تُفهم بوصفها تفاوتًا لا تكرارًا، والمعرفة تُخاض كتجربة منفتحة لا كاحتواء مطلق، أما الكرامة فتبقى النور الذي يكشف لنا وجه الحقيقة الحيّ داخل صيرورة لا تنفصل عنّا.


7. خاتمة: نحو يقين صيروراني
لا تنقض فلسفة الصيرورة الأصيلة مشروع هيوم، بل تتجاوزه تأويليًّا:
 فالاستقراء ليس عادة بل انكشاف.
 والسببية ليست تتابعًا بل تفاوتًا.
 والواجب ليس قفزًا بل امتدادًا للكينونة.

إنها دعوة إلى تأسيس اليقين لا على التطابق، بل على الكرامة الحية التي تنمو في صميم الصيرورة.



المراجع

• David Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding, ed. Chicago, The open court publishing company, London Agents. 1900.
• David Hume, A Treatise of Human Nature, ed. The Aldine Press Letchworth Herts. First published in this edition 1911, Last re--print--ed 1956.

• جباري، ع. (2025). رباط الحقيقة والأخلاق في سياق الصيرورة الأصيلة. لندن: دار
Kutub e-للنشر.



#عزالدين_جباري (هاشتاغ)       Azeddine_Jabbary#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يغيب الرباط: سقوط المعنى في أثينا وروما
- في فضاء الغيبة المصنوعة: نقد لمقال مشير باسيل عون عن -الغيبة ...
- من مأزق التسلسل إلى إمكان التعيّن: في تأويل الخلق وفق فلسفة ...
- المتواجِد والدازاين: تأصيلٌ دلاليّ لفارق أنطولوجي بين فلسفة ...
- الإمكان الترددي وشبكة النبض: نحو تجاوز المفهوم الماهوي
- ما بعد القطيعة: نحو صيرورة أصيلة في العلاقات الجزائرية الفرن ...
- ما بعد القطيعة
- فَرْقُ ما بين الأخلاق والأخلاقيات
- لغم الوجود
- منطق الفقهاء
- الحداثة وفراغ الوجود .
- الظاهر والباطن، أو محنة الوجود.
- الحرية نداء الوجود
- مساواة أم تماثل ؟ بحث في الرؤيا الكونية.
- هل كل خطاب يحمل حقيقته في ذاته ؟
- في الموقف الفلسفي، أو الموقف من الحقيقة .
- في ماهية القول الفلسفي وضرورته .


المزيد.....




- زيلينسكي يكشف عن مباحثات مع ترامب لعقد -صفقة ضخمة- تشمل طائر ...
- دبلوماسيون غربيون كانوا على مقربة من وزارة الدفاع السورية لح ...
- عشائر بدوية تشن هجوما بالسويداء واتهامات لمجموعات محلية بارت ...
- لماذا أصبح النوم عزيزا رغم توفر وسائل الراحة؟
- محللون: ما يجري بالمنطقة تفكير جنوني بطور التنفيذ وهذه خيارا ...
- محافظة السويداء.. معقل الموحدين الدروز في جنوب سوريا
- الرئاسة السورية: قطر والسعودية وتركيا أكدت للشرع دعم وحدة سو ...
- رئيس البرازيل لـCNN: ترامب -لم يُنتخب ليكون إمبراطور العالم- ...
- الولايات المتحدة: عارضنا الضربات الإسرائيلية في سوريا
- تنديد أممي بمقتل عشرات المدنيين في كردفان


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين جباري - من هيوم إلى فلسفة الصيرورة الأصيلة: في نقد الاستقراء وبناء الرباط بين الحقيقة والكينونة والكرامة