عزالدين جباري
(Azeddine Jabbary)
الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 08:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ملخّص تمهيدي:
تستأنف هذه المقالة مساءلة مفهوم "الخلق" خارج ثنائية الكلاميين والفلاسفة، حيث يتم تفكيك مأزق التخصيص والتسلسل في التصورات التقليدية، وصولًا إلى اقتراح أفق بديل يؤسس للحدوث بوصفه تعيّنًا صيروريًا منبثقًا من علم إلهي شامل وإمكان متجدد. وضمن هذا الأفق، يعاد تأويل العلة، والحكمة، والإرادة، باعتبارها لحظات من حركة جوهرية تفيض بالمعنى، لا تصميمًا مسبقًا أو فعلًا بالطبع، مما يفتح إمكانًا تأويليًا لفهم الخلق بوجه جديد.
1. الجزء الأول: المأزق القديم (العقل الكلامي بين التخصيص والتسلسل).
1.1 تقرير فيلو ومأزق التسلسل
يقول فيلو على صفحته الفاسيبوكية "مذكرات الناقد الاجتماعي" :
" التيمية يلزمهم القول بتسلسل العلل التامة، وذلك لأن الحادث لا يتحقق إلا عند تمام علته التامة. وهذا التمام، إما أن يكون قديمًا أو حادثًا، وهم يقولون بتجدد الإرادات الحادثة أي الشروط وهذا فيه مفارقة على أصول الفلاسفة في انكار التراخي بمدأ تضايف العلة تامة والمعلول، أو ترجيح بدون مرجح الذي هم يلزمون الأشاعرة به ويلتزمونه، ناهيك أنه يلزم منه الفيض أي الفعل بالطبع وامتناع التخصيص.
فإن قيل: إن تمام العلة يتضمن جزءًا قديمًا (كالذات) وجزءًا حادثًا (كالشروط المتجددة)، قلنا: هذا الجزء القديم من العلة إما أن يكون تامًا بذاته أو ناقصًا.
فإن كان تامًا بذاته، لزم اقتران أثره به، فيفضي ذلك إلى قدم العالم حسب أصولهم، وهذا باطل عندهم.
وإن لم يكن تامًا، أي كان ناقصًا، فلابد له من تمام، وهذا التمام يكون حادثًا بتجدد الشروط، وكل حادث يحتاج إلى محدث، وهذا المحدث بدوره يحتاج إلى تمام علته، وهكذا يلزم تسلسل العلل التامة.
فإن قالوا: إن لهذا الحادث علة تامة قديمة، لزم الاقتران ما لا نهاية من الحوادث دفعة واحدة وهو محال عندهم.
وإن قالوا: لا علة تامة له، فقد نفوا العلة التامة بالكلية، وهذا باطل أيضًا.
وإن قيل نوعها قديم النوع كلي غير متحقق فإما أنه مؤثر أو لا، إن قالوا مؤثر صار العدمي يؤثر ولزم الاقتران، وإن كان غير مؤثر فلا علة تامة لها على الحقيقة."
هذه الفقرة تبدأ بتقرير مبدئي: أن الوقوع الفعلي لأي حادث لا يتم إلا عند اكتمال العلة التامة له.
واللزوم المنطقي الذي يُحمَّل إلى التيمية هو الالتزام بتسلسل غير متناهٍ من العلل التامة، لأنهم يربطون حدوث الأفعال بتجدد الشروط (الإرادات الحادثة).
الإشكال المنطقي هنا: أن هذا التجدد يعني أن تمام العلة نفسه ليس قديمًا، بل يتجدد، وبالتالي يلزم التسلسل.
وقد حلَّ لايبنتز هذا الإشكال بمبدأ العلّة الكافية.
1.2. حل لايبنتز: العلة الكافية والسلسلة الكلية
كيف يتعامل لايبنتز مع إشكال التسلسل في سلسلة العلل؟
أولا، نوعا السلاسل العلّيّة:
يميز لايبنتز بدقة بين نوعين من السلاسل العلّية:
1. سلسلة ممكنات (série de possibles):
وهي السلسلة التي تشمل الأشياء الممكنة والأسباب الثانوية في العالم.
كل عنصر فيها له علة سابقة له، مثل: النار تسبب الاحتراق، والاحتراق يسبب تصاعد الدخان، وهكذا.
هذه سلسلة غير مكتفية بذاتها، ولا يمكن أن تفسّر وجودها بنفسها.
2. السلسلة الكلية أو النهائية:
لكيلا نقع في تسلسل لا متناهٍ يمنع تفسير الوجود، يرى لايبنتز أن السلسلة كلها تحتاج إلى علة خارجية واحدة كافية، لا تقع داخلها، بل تعطيها وجودها وتفسيرها بالكامل.
هذه العلة هي: الله بوصفه الجوهر الضروري(substance nécessaire)، الذي يوجِد السلسلة كلها دفعة واحدة وفق مبدأ الأفضل(le meilleur).
ثانيا، مبدآ الجوهر الضروري وأفضل العوالم الممكنة
مبدأ "الجوهر الضروري"
الله عند لايبنتزليس مجرد علة أولى زمنية، بل هو العلّة الكافية الماورائية التي تُفسر وجود كل الممكنات.
بمعنى: الله لا يسبق زمنيًا بداية العالم، بل هو الأساس المنطقي والمعياري الذي يجعل وجود هذا العالم ممكنًا ومفضَّلًا على غيره.
مبدأ الأفضل (le principe du meilleur):
الله يختار من بين العوالم الممكنة العالم الذي يتضمن أكبر قدر من النظام والجمال والانسجام.
وهذا الاختيار مبني على حكمة مطلقة، لا على تسلسل عرضي.
فالله، بموجب حكمته، أفاض العالم دفعة واحدة كأفضل ما يمكن أن يكون، ولا يحتاج لتسلسل علل لإحداث الأفعال.
ومن هنا فلايبنتز يرفض التسلسل اللانهائي الفعلي (actualinfiniteregress): في الأسباب كما يرفضه العقلاء، لأنه لا يفسر وجود السلسلة، بل يبقي الحاجة إلى تفسير خارجي.
لذا فهو يقول إنه حتى لو كانت هناك سلسلة علل تمتد بلا نهاية، فهي كلها لا تفسر نفسها، ولا بد لها من علة كافية خارجها.
وما يقوله هنا:
"وهذا فيه مفارقة على أصول الفلاسفة في إنكار التراخي بمبدأ تضايف العلة التامة والمعلول، أو ترجيح بدون مرجح الذي هم يلزمون الأشاعرة به ويلتزمونه." ففيه يحمّل التيمية تبعة هذا المبدأ. فكأنما يقول: إن كنتم تقولون إن الحادث لا يقع إلا عند تمام علته، وعلته هي الإرادة الإلهية المتجددة، فهذا يعني أنكم تؤخرون تحقق المعلول عن تحقق العلة القديمة، وهو تناقض في أصول العلية التي بها تلزمون غيركم.
لكن... ماذا عن ابن رشد؟
1.3. موقف ابن رشد: العلم الإلهي كشرط كافٍ
• ابن رشد في أكثر من موضع، وخاصة في ضميمته الإلهية وفي تهافت التهافت، لا يتشدد في التضايف الزماني بين العلة والمعلول، بل يُدخل عنصر العلم الإلهي الأزليكـ "شرط كافٍ" لوقوع الحادث.
مثال من الضميمة الإلهية:
يقول ابن رشد: "قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء لأن صدورها عنه إنما هو من جهة أنه عالم، لا من جهة أنه موجود فقط."
حيث يقول ابن رشد إن الحركات التي تقع في هذا العالم، فإنها تقع على ترتيب معلوم في نفس الباري، لا على ترتيب تفرضه ضرورة في ذاته.أي أن علم الله لا يُشبه السبب الطبيعي، بل هو علمٌ مُوجِد ومنظّم، يجعل لكل حادث وقته الخاص دون أن يعني ذلك تراخيًا أو ترجيحًا بلا مرجّح.
1.4. فيلو: الناقد الذي لا يبني
ما الذي يهدمه فيلو؟
يفكك مفهوم العلة عند التيمية:
يظهر أن "الإرادة الحادثة" التي يعلّلون بها الحوادث تفتح باب التسلسل أو تؤدي إلى إسقاط العلة التامة، ثم يفضح الالتباس في مفهوم "النوع الأزلي".
يوضح فيلو أن القول بوجود نوع إرادات قديم مع أفراد حادثة لا يحل الإشكال، بل يفاقمه: فإما أن نعود إلى قدم الفعل، أو نُنكر العلية التامة، أو نرضى بـ الترجيح بلا مرجّح.
وهنا، يقلب حجج التيمية ضد الأشاعرة عليهم أنفسهم:
إذا كنتم تحتجون على الأشاعرة بأنهم يرجّحون بلا مرجّح، فإنكم تقعون في الشيء نفسه عندما تقولون بتخصيص الحادث بإرادة متجددة لا علة تامة لها.
لكن... ماذا بعد الهدم؟
فيلو لا يعرض تصورًا إيجابيًا متماسكًا لماهية العلية أو كيفية حدوث الحوادث.
لا يعرض موقفًا صريحًا من:
هل الإرادة الإلهية قديمة أم متجددة؟
هل علم الله كافٍ للتخصيص كما عند ابن رشد؟
هل يقع الفعل بالضرورة كفيض كما عند الفارابي أو أفلوطين؟
هل العالم قديم أم حادث وفق نسق ميتافيزيقي بديل؟
إنه يلعب دور الفيلسوف الذي يفكك وينفي المطلقات المغلقة، ولا يبلغ مقام تأسيس الكليّات البديلة.
موقفه يُشبه إلى حدّ ما:
الغزالي في "تهافت الفلاسفة": يهدم ولا يبني إلا لاحقًا في مقامٍ آخر.
أو دريدا في نقد الأنظمة المفهومية الميتافيزيقية.
أو أن يتقبل الصمت التأويلي تجاه الحدوث، كما يُغري بعض التيارات الصوفية.
ورغم ما تتضمنه حجة فيلو من دقة منطقية وبراعة في كشف التناقضات الداخلية في الموقف التيمي، إلا أن بنيتها تظل أسيرة أفق الاعتراض السلبي. فهي تفكك التصور الكلامي للإرادة الحادثة، وتدفعه إلى حتمية التسلسل أو نفي العلية التامة، لكنها لا تعيد بناء العلاقة بين الإله والحدوث بناءً بديلًا
فهو يهدم كل النسق التيمي لكنه لا يقيم نسقًا مقابلاً له. فلا نجد لديه محاولة لإعادة تعريف العلية انطلاقًا من تصور مغاير للوجود أو للزمن أو للذات الإلهية، كما يفعل مثلًا لايبنتز حين يجعل من مبدأ العلة الكافية مرتكزًا لبناء كوني متكامل، أو كما يفعل ابن رشد حين يُنزّل الحدوث في سياق العلم الإلهي الأزلي لا في دوائر التراخي السببي أو التخصيص الإرادي الحادث.
إن هذا العجز البنائي لا يقل خطرًا عن التناقضات التي هدمها فيلو، لأنه يترك العقل الفلسفي معلّقًا في الفراغ بعد أن فكك مسلّماته الأولى. فإما أن يركن إلى نوع من الصمت التأويلي يلوّح بإجلال ما لا يُقال، كما يغري بذلك الموقف الصوفي، أو أن يتورط في إعادة إنتاج الدور نفسه بألفاظ أخرى. وحينئذ يكون فكر فيلو قد بلغ غايته كضرب من الحدّ السلبي للفهم: إنه يعلن ما لا يمكن أن يكون، لكنه لا يجرؤ على أن يصرّح بما ينبغي أن يكون.
لذلك، فإن نقد فيلو من جهة بنائية يضعنا أمام حاجة ملحة لفلسفة جديدة تعيد تأطير مفاهيم الحدوث، والفاعل، والعلة، والإرادة، ضمن نسق وجودي يملك ما يكفي من القوة التفسيرية دون أن يقع في الفيض الطبيعي، أو الترجيح بلا مرجح، أو الحتمية الغيبية، أو الفراغ المفهومي.
2. الجزء الثاني: الأفق الجديد (التعيّن والصيرورة والحكمة المفتوحة).
2.1. نفي النموذج السببي المغلق
فلنُجب الآن من منظور الصيرورة الأصيلة، باختصار دون تفصيل منهجي، بل كموقف يتكشّف عبر المفهوم.
في فلسفة الصيرورة الأصيلة، الحدوث ليس معلولًا لعلة تامة سابقة تنغلق على فعلها، ولا هو ناتج عن إرادة حادثة تستدعي سلسلة لا متناهية من التخصيصات، بل هو تجلٍ حيٌّ لصيرورة متعالية تتخلل الوجود من داخله دون أن تُختزل في زمانه أو في علله.
2.2. الحركة الجوهرية كتجلٍّ حيٍّ للصيرورة
الإله في هذا الأفق ليس فاعلًا بالطبع كالشمس، ولا فاعلًا بالمزاج كما يُفهم من بعض الكلاميين، بل هو المرجعية المتعالية التي تفيض الحركة الجوهرية السارية في ذرات الوجود، لا الأثر المفرد.
فليس الحدث هو المعلول، بل هو إحدى تجليات تلك الحركة الداخلية التي يسري فيها "أمره بين الكاف والنون"، حيث ينبعث المعنى من قلب التوتر، لا من خارجه.
إن أمره بين الكاف والنون، هو تجلٍّ إلهي لا ينفصل عن النَّفَس الوجودي المتصل بالكينونة ذاتها.
لا يأتي من الخارج كأمر سلطوي، ولا من العدم كإقحام تعسفي، بل ينبثق من صميم الحاجة الكونية إلى التحقق، ومن عمق صيرورة الأشياء التي تستدعي وجودها بما هي ممكنات في حضرة الفيض. وهو معنى قريب جدّا من المفهوم الصوفي لـ"النَّفَس الرحماني"، كما عند ابن عربي ، حيث يُفهم الخلق على أنه تنفُّس الوجود من باطن الذات الإلهية.
2.3. إعادة تأويل الإرادة والتخصيص
التخصيص لا يقع نتيجة إرادة حادثة، بل هو تحقق لنقطة تماس بين الوجه الإلهي والصيرورة الكونية، حيث تُخلق اللحظة لا في الزمان، بل بصفتها زمانًا مخصوصًا، كما يُخلَق النغم في لحظة العزف، لا لأنه نتيجة آلة خارجية، بل لأنه يتجلّى حين تتكامل المقامات والشروط.
في هذا الأفق، العلية تُستبدَل بالتفاعل، والتخصيص يُستبدَل بالتجلّي، والزمان يُستبدَل بالتعيّن الحي. ليست هناك علل تامة، بل أسباب تنفتح وتتشابك في بنية حية تتجاوز الثنائية بين الفعل والانفعال.
فالصيرورة الأصيلة ترى أن كل حادث هو برهة من معركة الوجود مع العدم، تُكسب أو تُخسر، لا لأن فاعلًا ما شاءها في لحظة معينة، بل لأن الكرامة الأنطولوجية اقتضت انبثاقها وجهًا من وجوه التحقق.والفاعل الإلهي لا يخصّص الزمان من الخارج، بل يُضيئه من الداخل.
لكن، يَحِقُّ لنا أن نتساءل: كيف نجمع بين مطلب الحكمة كما تفهمه العقلانية الكلاسيكية، وبين مبدأ الصيرورة كما تفهمه الفلسفات الحيّة، ومنها فلسفة الصيرورة الأصيلة.
فهل الصيرورة الاحتمالية تنفي الحكمة؟
لا. لكنها تنفي التصوّر الميكانيكي للحكمة، الذي يرى الحكمة كخطة مسبقة مُحكمة ومُغلقة، تتكشف على نحو تطابق هندسي بين الأسباب والمسببات، لا مجال فيه للانفتاح أو المغامرة أو النبض.
في هذا النموذج، تُختزل الحكمة إلى ما يشبه التخطيط الإلهي الشامل الذي يحاكي عقلًا رياضيًا صارمًا. أما الصيرورة الأصيلة، فترى أن هذه الصورة ضيقة، وهي تسقط بعد أول شر أو فوضى أو سقوط مؤلم لا يجد له العقل تبريرًا ضمن السلسلة "الحكيمة".
2.4. الحكمة المفتوحة وتمكين الإمكان
فما الحكمة البديلة إذن؟
الحكمة في الصيرورة الأصيلة هي سريان المعنى عبر التفاعل، لا فوق التفاعل.
إنها ليست في ضبط النتائج سلفًا، بل في ضمان قابلية الصيرورة لأن تُثمر معنى في كل منعطف، حتى في التوتر، والاحتمال، والتعارض، والشر أحيانًا.
بمعنى أوضح:
الحكمة ليست أن يقع "الخير" دائمًا، بل أن يكون للوجود من القدرة ما يكفي ليحوّل الفوضى إلى شكل، والسقوط إلى نهوض، والتفاوت إلى تناغم متجدِّد.
ولهذا، فإن الاحتمال لا يناقض الحكمة، بل هو الشرط الحي الذي يجعل المعنى حرًّا لا مفروضًا، ويجعل التحقق ثمرة نضج لا نتيجة تصميم مسبق.
وماذا عن الإرادة الإلهية؟ أليست محدِّدة وقاصدة؟
بلى، ولكن ينبغي التمييز بين الإرادة كقصد مغلق يُلزِم النتائج، وبين الإرادة كنور يتخلل الوجود ليهبه قابليته على أن يكون.
الصيرورة الأصيلة تنظر إلى الإرادة الإلهية بوصفها مبدأ إنطاق لا مبدأ إلزام ، هي لا تُجبر العالم على هيئة واحدة، بل تدعوه ليكشف عن وجهه الممكن في أفق الكرامة.
هكذا تصبح الحكمة هي تمكين الإمكان، لا خنقه، وهي رعاية الصيرورة كي تنبت ما أمكنها من النور، لا هندستها المسبقة.
2.5. بين العلم والإمكان: في خلق التعيّن وفق فلسفة الصيرورة الأصيلة
الخلق، في أفق الصيرورة الأصيلة، ليس فعلًا لحظةً واحدة، ولا نتيجة لقرار علوي يختزل الإمكانات في مسار محدد، بل هو تعيّنٌ حيٌّ ينبثق من رحم الإمكان اللامتناهي في ضوء علم إلهيٍّ شامل.
فالعلم الإلهي، بحسب هذا التصور، محيط بجميع الممكنات إلى غير نهاية، لا يغيب عنه احتمال، ولا يعزب عنه شأن. إن جميع الوقائع الممكنة، بجميع تنوعاتها وظلالها الزمنية، حاضرة في حضرة العلم، لكن ليس بوصفها محتمات، بل بوصفها استعدادات كامنة تنتظر لحظة تجلّيها.
وفي قلب هذا النسق، لا تُفهم الإرادة الإلهية على أنها حادثٌ زماني يُخصّص الممكنات بفعل قرار عارض، بل هي لحظة كشف وجودي، انبثاق تعيّن مخصوص من الإمكان، تتعلق به الإرادة لأن فيه من الاستعداد ما يؤهله للتجلّي. فالإرادة هنا لا تُقحم الوقائع على عالم الإمكان، بل تستجيب لما هو قابل لأن يُنطق بالوجود.
هكذا يصبح الحدوث فعل تجاوب، لا نتيجة حتمية ولا ترجيحًا تعسفيًا. وما يتحقق في الزمان ليس ما فُرض من خارج، بل ما تماهى لحظيًا مع النور، فانفتح لتلقيه.
لكن هذا التعيّن، إذ ينفصل عن رحم الإمكان، لا يُولد مكتملًا، بل يخضع منذ لحظة تحققه إلى "الحركة الجوهرية". هذه الحركة ليست انتقالًا عرضيًا، بل سريان وجودي خالص يخلُق التفاوتات الداخلية في بنية كل شيء، ويدفعه إلى التحقق التدريجي. فهي التي تفصل الممكن عن المستحيل، وتمنح الكائن وجهه الخاص، وتُبقي على انفتاحه المستمر نحو مزيد من الاكتمال.
إن ما يبدو في ظاهر القول "خلقًا" هو، في العمق، تجلٍّ متدرج للصيرورة في حضرة التعيّن. والفاعل الإلهي في هذا الأفق، ليس فاعلًا بالطبع كالشمس، ولا فاعلًا بالمزاج كما يُفهم في بعض الكلاميات، بل هو المرجعية المتعالية التي تُفيض الحركة الجوهرية ذاتها، لا الأثر المفرد. وما الحدث إلا أثر ذلك الفيض حين يلتقي الاستعداد بالضوء، فينبثق معنى، ويتعيّن وجه.
وهكذا، تتبدد معضلات الترجيح بلا مرجّح، أو التسلسل، أو المجازفة بنفي الحكمة، لأن الحكمة، في فلسفة الصيرورة الأصيلة، ليست ضبط النتائج مسبقًا، بل تمكين الإمكان من أن يُثمر، وضمان قابلية الوجود لأن ينطق بالمعنى في كل أطواره.
2.6. خلاصة مكثفة:
إن الخلق الإلهي هو انبثاق التعيّن من رحم الإمكان، لا من علّة خارجة عنه.
العلم الإلهي محيط بكل الممكنات، يضمها دون أن يحكم عليها بالتحقق.
وما يقع منها هو ما استعدّ للوجود، وما توجّه تلقاء النور.
الإرادة ليست قرارًا فوقيًا، بل لحظة كشف يلتقي فيها الاستعداد مع الإمكان في أفق التعيّن.
وكل تعيّن، مهما بدا بسيطًا، يخضع للحركة الجوهرية التي تخلق تفاوتاته الداخلية، وتحمله من الإمكان إلى الفعل، ومن العدم إلى الوجه.
ثبت المراجع:
ابن رشد ضميمة في العلم الإلهي، ضمن كتاب فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، نوفمبر 1998.
ابن عربي. فصوص الحِكم. شرح القاشاني، عبد الرازق. دار الآفاق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة، 2016.
غوتفريد ليبنتز، المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي. جمع وترجمة عبد الغقار مكاوي. طبعة مؤسسة هنداوي، 2023
Derrida, Jacques. L écriture et la différence. Paris: Éditions du Seuil, 1967.
Leibniz, Gottfried Wilhelm. Essais de Théodicée sur la bonté de Dieu, la liberté de l’homme et l’origine du mal. Paris: Desbordes, 1710.
Leibniz, Gottfried Wilhelm. La Monadologie suivi de Principes de la nature et de la grâce fondés en raison. Paris: GF Flammarion, 1996.
#عزالدين_جباري (هاشتاغ)
Azeddine_Jabbary#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟