عزالدين جباري
(Azeddine Jabbary)
الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 04:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الملخص
يطرح هذا المقال مفهوم "المتواجِد" كمقابل دلالي وفلسفي لمفهوم Dasein الهايدغري، في إطار فلسفة "الصيرورة الأصيلة" التي ترى أن الكينونة ليست معطًى ناجزًا، بل فعلًا متجددًا في أفق "المرمى". ننطلق من نقد الترجمة العربية لمفهوم Dasein، لنبرهن أن "المتواجِد" ليس مجرد تعريبٍ بديل، بل تأسيسٌ مفهومي غنيّ بالدلالات الحسية والوجدانية والتفاعلية والكرامية، يتجاوز حدود "الوجود-هنا" نحو "الوجود-الحامل-للمعنى".
قبل البدء: لذة هايدغر
يقول هايدغر:
"تكمن ماهية الدازاين في وجوده. وبناءً عليه، فإن السمات التي يمكن أن تظهر في هذا الكائن، ليست "خصائص" حاضرة-بين-الأشياء لكينونة ما تبدو على هذا الشكل أو ذاك وتكون بدورها حاضرة-بين-الأشياء؛ بل هي، في كل حالة، إمكانات لأن يكون على نحو معين، ولا شيء أكثر من ذلك." 1
ثمة شيء غريب في كتابات مارتن هايدغر؛ شيء لا يمكن اختزاله في وضوح المنطق أو دقة المفاهيم. تقرأه، فتشعر أنك لا تقرأ، بل تُقرأ. لا تتابع أطروحات، بل تسير في غابة كثيفة، يسكنها ضوء باهت، لكنه يوقظ فيك حسًّا قديمًا، كأنك كنت تعرف الطريق قبل أن تُولد.
لماذا نرتاح له رغم صعوبته؟ لأنه لا يحدثنا من خارجنا، بل من عمق قلقنا. لأن لغته لا تقرّر، بل توقظ. ولأن كل جملة فيه، وإن بدت ملتوية، تحمل أثر شاعر ضلّ طريقه إلى القصيدة، فوجد ملاذه في الفلسفة.
هايدغر لا يمنحنا أجوبة، بل يمنحنا حق التوتر، لذّة أن نكون في قلب السؤال. وربما كانت هذه هي الراحة الكبرى: أن نجد من يُشاركنا قلقنا دون أن يستعجل خلاصنا.
مقدمة: ضرورة التحول من التعريب إلى التأصيل
لم تخلُ الفلسفة العربية المعاصرة من محاولات لاستيعاب المفاهيم الأنطولوجية في الفكر الأوروبي الحديث، وعلى رأسها مفهوم Dasein عند مارتن هايدغر. إلا أن هذه المحاولات، رغم تنوعها، بقيت أسيرة موقفين متقابلين: الترجمة الحرفية المنزاحة عن الأصل اللغوي، أو الاحتفاظ باللفظ المعرب كما هو دون جرأة تأويلية. وهنا، يبرز سؤالنا: أليس من الممكن أن ننتقل من "تلقي" المفهوم إلى "توليده"، عبر استثمار ثراء اللغة العربية وتقاليدها الدلالية الحية؟ وهل "المتواجِد" صيغة جديدة فقط، أم رؤية بديلة للوجود في العالم؟
أولًا: في الاستقبال العربي لمفهوم الدازاين
منذ دخول فكر هايدغر إلى الفكر العربي، شكّلت ترجمة Dasein نقطة توترٍ تأويلي كبير.
عبد الرحمن بدوي كان أول من اقترح ترجمته إلى "الآنيّة"2، مستندًا إلى البعد الزماني فيه رغم محاولته تعليل اختياره بأنه تعريب لمفهوم (ENAI) اليوناني والذي يعني الوجود، غير أنه استعمال يغفل استحضار أصله المكاني (da = هنا).
أما محمد الشيخ فقد آثر الإبقاء على المصطلح معرّبًا (الدازاين) دون تفكيك دلالته الأصلية رغم استشناعه للفظ 3، وهو ما يشبه تقديم نوع من "الحصانة الرمزية" لمصطلحات الفلسفة الألمانية.
وأخيرًا، في حوار مع الأستاذ وضاح خنفر ،رئيس منتدى الشرق، يكشف طه عبد الرحمن عن الأسس العميقة لمشروعه الفلسفي، ويُصَرِّحُ في محاضرة ألقاها في 27 ماي 2025 بأن المصطلح يُمكن ترجمته إلى "الكائن"، محاولة منه للربط بين المكان والكينونة.
ومع أن "الكائن" ترجمة ممكنة من حيث المعنى الحرفي، إلا أنها لا تُترجم الثقل الوجودي الكامل الذي يحمله "الدازاين" عند هايدغر، ولا تنقل الدينامية الشعورية والزمنية التي تتخلله.
و من هنا، نقترح أن المتواجِد4، كما سنبين، لا يُقابل "الدازاين" فقط، بل يتجاوزه بوصفه حاملًا لرؤية أكثر تفاؤلًا،و تفاعلية، وكرامية.
ثانيًا: تمييز المتواجِد عن الدازاين
قد يُلاحَظ بعض التشابه الأولي بين مفهوم "المتواجِد" في فلسفة الصيرورة الأصيلة، ومفهوم Dasein في فكر هايدغر، خاصة في مسألة الانخراط في العالم والتوتر الوجودي. لكننا حين التمعن، نجد فوارق جوهرية.
لقد انطلق هايدغر من مساءلة الموجود إلى مساءلة الوجود، وبلور الدازاين بوصفه الكائن الذي يُلقى به في عالم مسبق، ليواجه القلق والموت باعتبارهما الحدود القصوى للفهم والمعنى. غير أن هذا التصور – رغم صدقه الأنطولوجي – يبقى أسير رؤية قَلِقة، وجودها هشّ، وتفاعلاتها محدودة.
في المقابل، لفظ المتواجِد كما نصوغه، يتجاوز "الانقذاف" نحو "المرمى"، أي إلى أفق منفتح على المعنى، يشكل فيه الوجود صيرورة داخلية وخارجية، تَعي وتتفعل، تتفاعل وتتجذر.
وإلى القارئ الكريم، نقدّم مسارات الدلالة المتصاعدة لهذا المفهوم:
1. المتواجِد = الحاضر في المكان: (الدلالة المشتركة). كما نقول: "فلان متواجد في الحفل"، أي يملأ حيزًا ماديًا، يحضره الآخرون ويُدرَكُ وجوده.
2. المتواجِد = ذو وجدان حي: (الدلالة الشعورية). التواجد هنا ليس ماديًا فقط، بل انفعاليًا ووجدانيًا، حين يتحرك الضمير بفعل تجربة داخلية أو خارجية.
3. المتواجِد = المتفاعل وجوديًا : (الدلالة العلائقية). في صيغة "تفاعل"، يصبح المتواجد كائنًا يتبادل التأثر والتأثير، لا يذوب في العالم بل يُشع فيه وعليه.
4. المتواجِد = من اعتراه الغضب الشريف: (الدلالة الوجودية). "الموجدة" في اللغة هي الغضب، لكنه غضبٌ يدل على الحضور الحيّ، على رفض القهر، على الكرامة الشعورية.
5. المتواجِد = حامل الكرامة كجوهر ناري للروح: (الدلالة الروحية). الكرامة هي النار الوجودية التي لا تُستنبَطُ عقلًا بل تُشاهد أثرًا، وهي ما يجعل الكائن إنسانًا، والوجود حرية.
ولنُعِد الآن ترجمة كلام هايدغر الذي افتتحنا به المقال مع إحلال لفظنا "المتواجد" محلَّ "الدازاين" ولنَدَعْ لك أيها القارئ الحصيف أريحية الحكم إذا وجدت أنَّ اللفظ العربي المختار أقدر على الدلالة على مقصود صاحبه، وعلى مقصودنا المُتجاوز لأفق الفيلسوف الألماني القدير.
"تكمن ماهية المُتواجِد في وجوده. وبناءً عليه، فإن السمات التي يمكن أن تظهر في هذا الكائن، ليست "خصائص" حاضرة-بين-الأشياء لكينونة ما تبدو على هذا الشكل أو ذاك وتكون بدورها حاضرة-بين-الأشياء؛ بل هي، في كل حالة، إمكانات لأن يكون على نحو معين، ولا شيء أكثر من ذلك."
خاتمة
المتواجِد كصيرورة حرة لا كقيد وجودي
ليس المتواجِد تكرارًا شرقيًا للدازاين، بل خروج من فلكه بفعل صيروري جدلي.
فبينما يستقر الدازاين عند حدّ القلق والموت، ينفتح المتواجِد على أفق المرمى، حيث الكينونة ليست سؤالًا فقط، وإنما تكون فعلًا ومجاهدة.
صحيح أنَّ هايدغر نبّهَنا إلى سؤال الكينونة، إلا أننا لا نريده أن يظل مرايا تحاصرنا، وتعكس قلقًا بلا معنى.
نحن أبناء أزمنة يطلب فيها الإنسانُ الكرامة، لا مجرد فهم لحقيقة الوجود من أجل الموت.
يريد الإنسان أن يكون فاعلًا في صيرورته، لا مُلقى في دوّامة قلقه.
لذلك لسنا نطرح "المتواجِد" كمجرد مصطلح بل كـرهان أنطولوجي وأخلاقي، يستعيد جدارة الإنسان في أن يكون، لا فقط على نحو ما، بل على نحو يليق بحريته وكرامته الأصلية.
ومع أن هذا المقال لا يتسع لتتبع كل تفصيل تأويلي في فكر هايدغر، ولا لكل إمكانات التأصيل في ثنايا تراث اللغة العربية، فإن ما نرجوه هنا هو إثارة السؤال لا إغلاقه.
فربما نحتاج، في زمن انطفاء المعنى، إلى إعادة اختراع الإنسان من جديد ... في أفق الصيرورة الأصيلة.
الكلمات المفتاحية
الصيرورة الأصيلة، المتواجِد، الدازاين، مارتن هايدغر، الكرامة، الفلسفة الوجودية، التأويل، الوجدان.
معلومات عن الكاتب
الاسم: عز الدين جباري
المؤسسة: باحث مستقل في الفلسفة المعاصرة
البريد الإلكتروني: [email protected]
Abstract (English)
This article proposes the concept of *al-mutawājid* (the "present-being") as a philosophical and ontological counterpart to Heidegger’s *Dasein*. Rooted in the philosophy of "authentic becoming" (al-ṣayrūrah al-aṣīlah), this term transcends the spatial and existential-limit-ations of *Dasein* by unfolding a rich, dynamic field of meanings—from physical presence to affectivity, interaction, dignified anger, and spiritual fire. Rather than being a passive being-thrown-into-the-world, *al-mutawājid* is a self-ignited subject, striving toward meaning, dignity, and the horizon of "al-marmā" (the destined aim).
الهوامش والمراجع
1. Heidegger, Martin.) Sein und Zeit.( 1927. Translated as )Being and Time( by Joan Stambaugh. Albany: State University of New York Press, 1996. P : 67.
2. بدوي، عبد الرحمن. الزمان الوجودي. مكتبة النهضة المصرية. القاهرة. الطبعة الثانية، 1955. ص: 5. (انظر الهامش)
3. الشيخ، محمد. *نقد الحداثة في فكر هايدغر*. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. الطبعة الأولى، بيروت، أغسطس، 2008. ص: 134.
4. جباري، عزالدين. رباط الحقيقة والأخلاق في سياق الصيرورة الأصيلة. / دار النشر : e-Kutub Ltd/ ISBN: 9781780588100 / لندن. الطبعة الأولى: 2025.
وقد ورد ذكر لفظة "المتواجد" - وقد كنا واعين بكامل حمولتها المفهومية منذ ذلك الوقت - في الصفحة: 243. وقد آثرنا عدم التركيز على اختيار المصطلح لئلا نشوش على القارئ تصورنل لمفهوم الإنسان البعيد عن تصور هايدغر. وكذلك لأننا ننوي تأليف كتاب حول فلاسفة الصيرورة ندرج فيها موقفنا الأساسي من فلسفة هايدغر.
#عزالدين_جباري (هاشتاغ)
Azeddine_Jabbary#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟