علي لهروشي
كاتب
(Ali Lahrouchi)
الحوار المتمدن-العدد: 8392 - 2025 / 7 / 3 - 23:34
المحور:
حقوق الانسان
يعتبر المغرب في واقع الحال مجرد ضيعة ملكية يأكل فيها القوي الضعيف، فمنذ مغادرة الحماية الفرنسية للمغرب سنة 1956، والتي تركت ما يمكن تسميته بالمقيم العام الفرنسي في المغرب، المجسد في شخص الملك وحاشيته، الذين تحولوا الآن، من خلال تطبيعهم مع الكيان الصهيوني الإسرائيلي، إلى مقيم عام فرنسي إسرائيلي بالمغرب. هذا النظام الفاسد قد يختفي ويسقط يومًا ما عندما يحتدم صراع المصالح بين أسياده الإسرائيليين والفرنسيين على من سيتحكم منهما في المغرب.
منذ ما يسمى باستقلال المغرب، لا يعرف هذا البلد معنى الاستقرار، رغم الحملات الإعلامية المأجورة والعميلة للديكتاتورية الملكية الحاكمة، التي تروج لصورة مزيفة عن المغرب على أنه بلد مستقر، ذو سيادة، مؤسسات مستقلة، ومؤسسات منتخبة، ومجتمع مدني متحرك نحو الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان. في الوقت الذي عرف فيه المغرب، ولا زال يعرف، موجات متتالية من الخروقات التي تطال حقوق الإنسان، كالجرائم المنظمة التي ترتكبها أجهزة السلطة، وعلى رأسها المخابرات الداخلية والخارجية، والشرطة القضائية في تحالف مع جهاز قضائي مسخّر، تُنظم تلك الجرائم بدءًا من الاختطاف، والاعتقال التعسفي، والاغتيال، وفبركة الملفات، وتلفيق التهم، وتجهيز الأحكام والعقوبات، والزج بالأبرياء في السجون ،وعندما تقترب نهاية المدة السجنية التي حُكم بها عليهم، يتم إذلالهم من جديد بالعفو الملكي، وهو "العلامة التجارية" أو "الماركة" التي تستعملها الديكتاتورية المغربية في تجارتها لمحاولة تحسين وجهها القبيح أمام الرأي العام الدولي. لكنها لا تدرك أن مجرد إصدار العفو الملكي هو اعتراف صريح بالظلم الذي تعرض له المعتقل، واعتراف بفساد جهاز القضاء. في هذه المسرحية السياسية، يظل المحامي مجرد شبح يُستغل حضوره ومرافعاته الشكلية والجوهرية دفاعًا عن النظام أمام الرأي العام الدولي، ليوهمهم بوجود قضاء حقيقي، قضاة ومحامين وعدالة تسير في مجراها، بينما الحقيقة المرة هي أن القضاء المغربي هو طرف وعضو في العصابة الحاكمة.
فماذا تغير في المغرب منذ كذبة "الاستقلال" حتى اليوم؟ كم من احتجاجات وإضرابات واعتصامات ومحاولات انقلابية عرفها المغرب ولا يزال؟ كم من جريمة في حق الإنسان المغربي ارتكبتها أجهزة السلطة كرد فعل على هذه الأحداث؟ كم من ضحايا انتهاك حقوق الإنسان وُجدوا لإسكات أصوات الشعب؟ أين الاستقرار وسط كل هذا الظلم والقهر؟ إن هذا النظام القمعي والديكتاتوري ليس إلا جلادًا مستبدًا ينهش جسد هذا الوطن، يطمس فيه كل أمل، ويُشعل نار الحقد والكراهية تحت رماد الخوف والذل
منذ أن أعلن المغرب استقلاله الشكلي عن فرنسا سنة 1956، دخلت البلاد مرحلة طويلة من القمع السياسي المنهجي، تجلّت بوضوح في سياسة الاختطاف، والتعذيب، والإخفاء القسري داخل شبكة من السجون والمعتقلات السرية، التي ظلت خارج أعين القانون والمساءلة ، هذه السجون ليست فقط أماكن احتجاز، بل أدوات هيكلية للسيطرة على المجتمع، وقمع أي صوت معارض، وتكريس الديكتاتورية المخزنية المتوارثة.
أشهر هذه السجون وأكثرها رعبًا هو سجن تازمامارت، الذي بُني في أعقاب محاولتي الانقلاب العسكريتين عامي 1971 و1972 ضد نظام الحسن الثاني. وقد تم الزج فيه بالأبرياء، حتى بعد انقضاء المدة التي حُكم عليهم بها. يقع هذا السجن السري في منطقة قاحلة جنوب شرق البلاد، وبقي مجهولًا لسنوات قبل أن تفضحه شهادات نادرة ومرعبة من معتقلين سابقين. اعتُقل فيه عشرات الضباط، وعانوا من ظروف لا إنسانية: ظلمة دائمة، قذارة، جوع، غياب الرعاية الطبية، وانعدام التواصل مع العالم الخارجي. أكثر من نصفهم قضوا نحبهم داخله، بينما أُفرج عن الباقين مطلع التسعينيات تحت ضغط دولي كبير.
كما يوجد سجن سري تحت الأرض في منطقة "كرامة"، لا يبعد عن تازمامارت سوى بخمسين كيلومترًا تقريبًا. وقد توفي فيه بعض المعتقلين، ودُفنت جثثهم سرًا في البستان المحيط بمقر قيادة "كرامة"، وذلك حسب ما تداوله أبناء المنطقة سنة 1986.
عرف جنوب المغرب، وتحديدًا منطقتا قلعة مكونة وأكدز، وجود معتقلات سرية استُعملت لاحتجاز مئات المعارضين، سواء المنتمين للتيارات اليسارية أو المتعاطفين مع جبهة البوليساريو. لم تكن تلك المعتقلات سوى مسالخ بشرية، حيث يُنقل السجناء في شاحنات مموهة، ليقضوا سنوات من الإذلال والصمت بين جدران لا تعرف قانونًا ولا محاسبة.
سجن آخر لا يقلّ خطورة هو درب مولاي الشريف، في قلب مدينة الدار البيضاء. لم يكن سجنًا عاديًا، بل مركزًا لتعذيب النشطاء اليساريين، والطلبة، والنقابيين، والمنتمين إلى الحركات المعارضة منذ ستينيات القرن الماضي. كانت المخابرات تلجأ إليه لإخضاع المعتقلين لتعذيب نفسي وجسدي شديد، بهدف انتزاع الاعترافات أو كسر إرادتهم. وظل هذا المكان نقطة سوداء في سجل القمع المغربي.
في عهد ما بعد "سنوات الرصاص"، رغم أن سنوات الرصاص لن تنتهي إلا بنهاية الحكم الملكي بالمغرب لم تتوقف سياسة السجون السرية، بل تطورت بأشكال جديدة، حيث توسّعت الديكتاتورية وأجهزتها القمعية في اعتقالات واسعة شملت المئات، استُخدمت فيها أماكن سرية خارج أي رقابة. أبرزها مركز تابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني في تمارة. ورغم نفي النظام، فإن العديد من التقارير الحقوقية من بينها تقارير "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي" أكدت وجود هذا المركز كموقع تعذيب سري، حيث يُحتجز فيه متهمون في قضايا "الإرهاب" المفبركة دون محاكمة، في عزلة تامة، وتُمارس عليهم أبشع الانتهاكات. كما ظهر في السنوات الأخيرة اسم "عين عودة"، قرب الرباط، كمركز جديد يُستخدم لاستقبال المعتقلين. ويُقال إنه استفاد من دعم خارجي، خصوصًا من أجهزة مخابرات أجنبية مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. ، في إطار ما يُعرف بـ"الترحيل السري للمشتبه بهم" خلال فترة ما بعد 11 شتنبر
عرفت مناطق الجنوب، خاصة السمارة وآيت ملول، حالات توثيق لشهادات عن وجود معتقلات غير معلنة، استُخدمت لقمع المدنيين الصحراويين المتعاطفين مع جبهة البوليساريو، لا سيما خلال فترات التوتر، كما حدث عقب تفكيك مخيم "أكديم إيزيك" سنة 2010. وقد اتهمت منظمات دولية المغرب بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق المعتقلين، ومنعهم من المحاكمة العادلة، وإخضاعهم لتعذيب ممنهج داخل أماكن احتجاز مجهولة المصير.
رغم تأسيس مهزلة ما سُمي بهيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، التي أقرت رسميًا بوقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بين سنتي 1956 و1999، فإن ملف السجون السرية لم يُفتح بالكامل. لم يُحاسَب أي من الجناة، ولم تُكشف الحقيقة الكاملة، خاصة فيما يتعلق بمصير المختفين قسرًا أو أماكن دفن من قضوا تحت التعذيب . يبقى سؤال العدالة معلقًا، والمحاسبة غائبة، بينما تُواصل الديكتاتورية المغربية إنكارها أو تبريرها لهذه الممارسات تحت غطاء "الأمن القومي" أو "الاستقرار" أو "هيبة الدولة " ، متناسيةً أن التاريخ لا يُمحى، وأن ذاكرة الضحايا لا تسقط بالتقادم، وأن الأمم تُقاس بمدى جرأتها في مواجهة ماضيها، لا بدفنه خلف جدران الخوف والنسيان.
ولا يزال المغرب يعيش مشاهد سياسية مأساوية، اتسمت بارتكاب أجهزة السلطة لجرائم لا توصف، من اغتيالات، واختطافات، ومحاكمات صورية، والزج بالأبرياء في السجون السرية والعلنية، في سياق تضييق متزايد لا يطال فقط حرية التعبير، بل يشمل حتى الحق في الوجود السياسي والفكري. ومن أبرز تلك الجرائم الحكم القضائي الصادم الذي مُنع بموجبه الصحفي علي لمرابط من ممارسة مهنة الصحافة لمدة عشر سنوات، إلى جانب منع بعض المنابر الإعلامية، واختراق الأحزاب والمنظمات والنقابات من طرف المخابرات، وتمزيقها من الداخل، وإضعافها، والزج بالإعلاميين في السجون بتهم ملفقة، لا لشيء سوى إسكات كل صوت حر يصدح بالحقيقة.
كل مرحلة تاريخية، بل وكل شهر وكل سنة، وخلف كل حدث كحالات طرد المواطنين من منازلهم أو أراضيهم ظلماً لبيعها للصهاينة أو لمافيا العقار ، وفي كل اعتصام أو احتجاج أو مظاهرة، تبرز أصوات مناضلة من أبناء هذا الشعب المقهور، لكشف وفضح جرائم الديكتاتورية الحاكمة المتحكمة في أرواح المغاربة. يتم اختطافهم، واعتقالهم، والزج بهم في السجون، بهدف إرهاب باقي الشعب، وإخفاء الفضائح. أما عدد المعتقلين المظلومين فهو بالآلاف، لا يُعد ولا يُحصى.
من بين هؤلاء تبرز سعيدة العلمي، الناشطة والمدوّنة، كإحدى أبرز الأصوات النسائية المعارضة، التي دفعت ثمنًا باهظًا لآرائها ومواقفها الجريئة. من التدوين على فيسبوك إلى الاعتقال، ثم الإفراج، فعودة إلى السجن، تسلط قضيتها الضوء على معضلة متنامية في المغرب، البلد الذي يُسخّر فيه القانون لمطاردة النشطاء بدل حمايتهم. وقد عُرفت سعيدة العلمي بمواقفها الجريئة في نقد السلطات، وخاصة الجهاز القضائي والأمني، من خلال منشوراتها على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا ما تسبب في الزجّ بها في السجن لأول مرة في مارس 2022، بعد سلسلة من التدوينات اعتبرتها أجهزة الديكتاتورية، وعلى رأسها النيابة العامة، "مهينة ومضلّلة". تم الحكم عليها ابتدائيًا بسنتين سجنًا نافذًا وغرامة مالية قدرها 5000 درهم، بتهم إهانة موظفين وبث أخبار كاذبة. وفي شتنبر 2022، تم رفع الحكم من قبل محكمة الاستئناف إلى ثلاث سنوات، مع إدراج تهم إضافية تشمل "إهانة الملك والقضاء".
في أكتوبر 2023، تم تخفيف حكم ثانوي من عامين إلى 8 أشهر، ليتم بعد ذلك، في يوليوز 2024، الإفراج عنها ضمن ما سُمّي بـ"العفو الملكي"، الذي شمل عددًا من معتقلي الرأي. لكنها اختُطفت من جديد في يوليوز 2025 في سياق غامض، دون توجيه تهم رسمية حتى لحظة كتابة هذا المقال.
ورغم أن تدويناتها تضمنت انتقادات حادة للقضاء المغربي، وتنديدًا بممارسات الأجهزة الأمنية واعتقال الصحفيين والنشطاء الحقوقيين، فإنها لم تدعُ إلى العنف أو التحريض. ومع ذلك، وُوجهت بتهم ثقيلة مثل نشر أخبار كاذبة وإهانة مؤسسات. ، وقد تمت مؤازرتها من قبل عدة منظمات حقوقية، مثل أمنستي إنترناشونال، التي أدانت توقيفها ووصفت التهم بـ"الواهية"، معتبرة أن السلطات تسعى لإسكات الأصوات المنتقدة عبر القضاء. كما أدانت هيومن رايتس ووتش ما يحدث واصفةً إيّاه بـ"القمع الممنهج" للنشطاء الرقميين، في حين أشارت منظمة فريدوم هاوس إلى تراجع حاد في مؤشر حرية الإنترنت في المغرب، وذكرت اسم سعيدة العلمي كأحد أبرز الأمثلة. . تشكل قضية سعيدة العلمي نموذجًا متكررًا لما يسميه الحقوقيون "التجريم الممنهج للتعبير السلمي في المغرب. فبينما يُفترض أن الدستور الملكي "الممنوح" يضمن حرية التعبير، فإن الواقع يشير إلى العكس تمامًا، حيث يتم عسكرة القضاء واستعماله لتصفية الحسابات مع الأصوات المعارضة.
إن الإفراج عن سعيدة العلمي أو محاكمتها لن يكون مجرد نهاية لملف قضائي، بل مؤشرًا حاسمًا على مستقبل الحريات في المغرب، والتي لن تعرف أي تقدم أو استقلالية في ظل بقاء النظام الملكي. وتلك حقيقة لا بد من البوح بها. كما يجب على كل العقلاء أن يطرحوا السؤال الجوهري: ماذا استفاد المغرب والمغاربة من بقاء واستمرار الحكم الملكي؟
#علي_لهروشي (هاشتاغ)
Ali_Lahrouchi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟