علي لهروشي
كاتب
(Ali Lahrouchi)
الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 09:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان خوسيه ألبرتو "بيبي" موخيكا كوردانو سياسيًا أوروغوايانيًا وناشطًا يساريًا، و هو شخصية بارزة، اشتهر بتواضعه و نمط حياته البسيط، انضم في شبابه إلى حركة "توباماروس" اليسارية المسلحة، التي كانت تنشط في الستينيات والسبعينيات مما أدى إلى اعتقاله وسجنه لمدة 14 عامًا، تعرض خلالها للتعذيب والعزلة الانفرادية. بعد عودة الديمقراطية إلى الأوروغواي عام 1985، تخلى عن العمل المسلح وانخرط في السياسة المدنية، حيث أسس حركة "المشاركة الشعبية" التي أصبحت جزءًا من تحالف "الجبهة الواسعة " تولى رئاسة الأوروغواي من 2010 إلى 2015، واشتهر عالميًا بلقب "أفقر رئيس في العالم " بسبب أسلوب حياته المتواضع و تبرعه بمعظم راتبه للأعمال الخيرية، نفذ إصلاحات اجتماعية بارزة خلال حقبة حكمه شملت تقنين الإجهاض، زواج المثليين، وتجارة الماريجوانا، مما جعل الأوروغواي نموذجًا للتقدم الاجتماعي في أمريكا اللاتينية. كما ركز على تعزيز العدالة الاجتماعية، ودعم الفلاحين والطبقات الفقيرة، عُرف بتواضعه وابتعاده عن مظاهر السلطة؛ فقد رفض الإقامة في القصر الرئاسي، مفضلاً العيش في مزرعته الريفية، وكان يقود سيارة المتواضعة فولكس فاغن بيتل موديل 1987.تبرع بحوالي 90% من راتبه الشهري، وكان ينتقد النزعة الاستهلاكية ويدعو إلى البساطة، معتبرًا أن السعادة الحقيقية لا تأتي من امتلاك الأشياء.
يعدّ رمزًا للنزاهة والتواضع في السياسة، وأحد أبرز القادة اليساريين في أمريكا اللاتينية، حيث ترك إرثًا من الإصلاحات الاجتماعية والالتزام بالعدالة والكرامة الإنسانية،شهدت الأوروغواي خلال مدّة رئاسته تحسنًا ملحوظًا في العديد من المجالات، خاصةً في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن بعض التحديات استمرت في الظهور فكان من بين الإنجازات والتحسينات التي حققها متجلية في النمو الاقتصادي والاستقرار الذي عرفته البلاد، إذ تم تسجيل نموًا اقتصاديًا مستمرًا، و ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد إلى حوالي 17,000 دولار، مما جعل الأوروغواي من بين أعلى الدول في أمريكا اللاتينية من حيث الدخل الفردي كما انخفضت معدلات الفقر من أربعون إلى أحدى عشر و نصف في المئة ، مع تراجع الفقر المدقع إلى 0،5 فقط بحلول نهاية حقبة حكمه
ثم أن الإصلاحات الاجتماعية والتقدمية التي قادتها حكومته كانت إصلاحات اجتماعية جذرية، حيث ارتفعت نسبة الإنفاق الاجتماعي من ستون فاصلة تسعة إلى خمسة وسبعون فاصلة خمسة في المئة من إجمالي الإنفاق العام بين عامي 2004 و2013، و زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 250 في المئة مع تعزيز حقوق العمال ، فشهدت البلاد نموًا في عدد النقابات العمالية، حيث ارتفع عدد الأعضاء من 110,000 في عام 2003 إلى أكثر من 400,000 في عام 2015، مما عزز من حقوق العمال والحريات النقابية ، إلا أن هناك تحديات وانتقادات خاصة فيما يتعلق بالخدمات العامة، إذ أنه بالرغْم من النمو الاقتصادي، أشار بعض النقاد إلى أن التحسن لم ينعكس بشكل كافٍ على جودة الخدمات العامة، خاصةً في مجالي الصحة والتعليم ، كما بلغت نسبة العبء الضريبي في الأوروغواي حوالي 43% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة مقارنةً بدول ذات مستويات رفاهية مماثلة، مما أثار بعض المخاوف بشأن استدامة النظام المالي ، لكنه على الرغْم من كل تلك الصعوبات فقد حققت الأوروغواي تحت قيادة خوسيه موخيكا تقدمًا ملحوظًا في مجالات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والحريات الفردية. ومع ذلك، استمرت بعض التحديات، خاصةً فيما يتعلق بتحسين جودة الخدمات العامة وإدارة التوازن بين الإنفاق الاجتماعي والاستدامة المالية.
توفي موخيكا في 13 مايو 2025، عن عمر يناهز 89 عامًا بعد معاناة مع سرطان المريء. وعلى أثر ذلك أعلنت الحكومة الأوروغوايانية الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام، وأُقيمت له جَنازة رسمية. و دُفن رماده تحت شجرة " سيكويا " في حديقة منزله الريفي، بجانب قبر كلبته الراحلة " مانويلا " بناءً على وصيته. يعدّ خوسيه موخيكا رمزًا للنزاهة و التواضع في السياسة، وأحد أبرز القادة اليساريين في أمريكا اللاتينية، حيث ترك إرثًا من الإصلاحات الاجتماعية والالتزام بالعدالة والكرامة الإنسانية، خلال مدّة رئاسته (2010 2015).
لم تكن العِلاقة بين الأوروغواي والدول الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة متوترة كما قد يُتوقع من رئيس يساري ذي خلفية ثورية. بل على العكس، اتسمت العِلاقة بالتعاون والاحترام المتبادل، بالرغْم من بعض التباينات الأيديولوجية والسياسات المثيرة للجدل، فكانت العِلاقة بينه و بين بالولايات المتحدة تتسم بالتعاون على الرغْم من الخلافات، في مايو 2014، استقبله الرئيس الأمريكي باراك أوباما في البيت الأبيض، حيث أشاد أوباما بتقدم الأوروغواي تحت قيادة موخيكا، واصفًا إياه بأنه "قائد في مجال حقوق الإنسان في نصف الكرة الغربي" . ناقش الزعيمان تعزيز العلاقات التجارية والتعاون في مجالات التعليم والتكنولوجيا، دون التطرق العلني إلى تقنين الماريجوانا في الأوروغواي، الذي كان قد أُقر مؤخرًا كما أبدى موخيكا استعداد بلاده لاستقبال معتقلين من غوانتانامو، استجابة لطلب من إدارة أوباما، مما ظهر التزامه بحقوق الإنسان وساهم في تعزيز العلاقات الثنائية ، حظي موخيكا باحترام و تقدير دُوَليّ واسع، حيث وصفه الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، بان كي مون، بأنه "قائد ملتزم بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحياة أفضل لجميع الأوروغوايانيين" . كما منحته الحكومة المكسيكية وسام "نسر الأزتك" تقديرًا لجهوده في تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة الاجتماعية .
و في عهده واجهت بلاده دعوى قضائية من شركة فيليب موريس بسبب سياسات الأوروغواي الصارمة لمكافحة التدخين. ورغم الضغوط، حظيت البلاد بدعم من منظمة الصحة العالمية وشخصيات بارزة ، مما ساعدها على الفوز بالقضية، حيث أكد موخيكا على التزامه بالصحة العامة بالرغْم من التحديات ، لكن على الرغْم من سياساته التقدمية والجريئة، استطاع الحفاظ على علاقات إيجابية بالدول الإمبريالية، خاصة الولايات المتحدة. تميزت علاقاته بالتوازن بين المبادئ والبراغماتية، مما جعله يحظى باحترام دَوْليّ واسع، حتى من قبل دول قد تختلف معه أيديولوجيًا، فما هي أوجه التشابه بين موخيكا ومانديلا ؟
يعرف الرجلين بالنضال ضد الأنظمة القمعية، حيث انخرط كلاهما في حركات مقاومة ضد الأنظمة الديكتاتورية في بلادهما. فحمل موخيكا السلاح ضد الحكم العسكري في الأوروغواي، بينما قاوم مانديلا نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما قضى موخيكا حوالي 14 عامًا في السجون، منها سنوات عدّة في الحبس الانفرادي. أما مانديلا، فقد أمضى 27 عامًا في السجون، معظمها في جزيرة " روبن آيلاند " رفض كلاهما الاستفادة من امتيازات السلطة، فعاش موخيكا في مزرعته الريفية وتبرع بنسبة 90% من راتبه للجمعيات الخيرية، بينما رفض مانديلا تعديل الدستور للبقاء في السلطة بعد انتهاء ولايته الأولى، بعد خروجهما من السجن، ركز كلاهما على تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة بين مختلف فئات المجتمع. فأسس مانديلا لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، بينما عمل موخيكا على تعزيز العدالة الاجتماعية في الأرغواي ، أما المرجعية الفكرية التي ينطلق منها كل واحد منهما فهي أن مانديلا كان قوميًّا أفريقيًّا وديمقراطيًّا اشتراكيًّا ، بينما كان موخيكا فوضويًّا يساريًّا حسب ما يصفه به الكثير، ثم أن الظروف السياسية التي جعلت مانديلا يتولى رئاسة جنوب أفريقيا هي نهاية نظام الفصل العنصري، بينما تولى موخيكا رئاسة الأوروغواي في سياق ديمقراطي مستقر نسبيًّا، و فيما يخص تركيز الرجلين على القضايا الدولية فكان مانديلا ناشطًا دوليًّا بارزًا، حيث دعم قضايا حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، بينما ركز موخيكا بشكل أكبر على القضايا المحلية في الأوروغواي. إلا أن كلا الرجلين قد كانا من أبرز الداعمين للقضية الفلسطينية على الساحة الدولية، حيث اتخذ موخيكا مواقف واضحة وجريئة تظهر التزامه بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان، إذ تم اعتراف رسمي بدولة فلسطين في 15 مارس 2011، و أعلنت الأوروغواي، خلال مدّة رئاسة موخيكا، اعترافها الرسمي بدولة فلسطين كدولة حرة وذات سيادة، وفقًا لمبادئ القانون الدَّوْليّ وقرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك القرار 181 لعام 1947 والقرار 242 لعام 1967. تم تسليم بيان الاعتراف إلى السفير الفلسطيني في الأرجنتين خلال لقاء رسمي في القصر الرئاسي في مونتيفيديو ، إلى جانب ذلك عبر عن إدانة صريحة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، واصفا ذلك العدوان و الهجمات بأنها "إبادة جماعية"، مشيرًا إلى أن قصف المستشفيات والأطفال وكبار السن يرقى إلى هذا الوصف. هذا التصريح أثار استياء الحكومة الإسرائيلية، التي اعتبرته غير مناسب من صديق، معربة عن قلقها من استخدام مصطلح "إبادة جماعية"، بعد وفاته في 13 مايو 2025، أشادت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بمواقفه، واصفة إياه بـ"البطل من أجل فلسطين"، وأشارت إلى أن فلسطين كانت تعيش بعمق في قلبه وضميره مستذكرة وصفه للعدوان الإسرائيلي على غزة بالإبادة الجماعية ، تميزت مواقفه بدعم قوي وصريح للقضية الفلسطينية، و هي مواقف تظهر التزامه العميق بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان، وتبرز دوره كصوت عالمي في دعم القضايا العادلة.
ثم أن نيلسون مانديلا بدوره قد اعتبر نضال الشعب الفلسطيني جزءًا من النضال العالمي ضد الظلم والتمييز. في عام 1997، خلال كلمته في يوم التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني ، قال: " نعلم جيدًا أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين " ، بعد إطلاق سراحه من السجن في عام 1990، التقى مانديلا بالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في لوساكا ، زامبيا ، في إشارة واضحة إلى تضامنه مع الشعب الفلسطيني . كما دعا إلى حل سلمي وعادل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ، مؤكدًا على ضرورة احترام حقوق جميع الشعوب ، وبذلك اعترافت جنوب أفريقيا بدولة فلسطين في 15 فبراير 1995، بعد عام من انتخاب مانديلا كأول رئيس أسود للبلاد في أول انتخابات ديمقراطية ، الذي تولى منصب الرئيس سنة 1994 ، كان هذا الاعتراف جزءًا من سياسة خارجية جديدة تبنتها حكومة مانديلا، حيث أكد أن "حقوق الإنسان ستكون النور الذي يرشد سياستنا الخارجية " . جاء هذا القرار أيضًا في سياق العلاقات التاريخية بين المؤتمر الوطني الأفريقي ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث كان للجانبين تعاون طويل في الكفاح ضد الاستعمار والتمييز العنصري ، منذ ذلك الحين حافظت جنوب أفريقيا على موقف داعم للفلسطينيين، حيث وصف العديد من قادتها، بمن فيهم الرئيس الحالي " سيريل رامافوزا "، إسرائيل بأنها "دولة فصل عنصري"، وشددوا على أهمية تحقيق حل الدولتين ، كما تقدمت جنوب افريقيا في ديسمبر 2023 بدعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة . هذا الموقف يظهر استمرار التزام جنوب أفريقيا بمبادئ العدالة و حقوق الإنسان الذي كان مانديلا من أبرز رموزها.
و انطلاقًا من هذا يمكن اعتبار خوسيه موخيكا "مانديلا الثاني" من حيث النضال ضد الظلم والفساد، والزهد في السلطة، والتركيز على المصالحة الوطنية. ويبقى لكل منهما خصوصياته التي تظهر السياق التاريخي والسياسي الذي نشأ فيه ، فقد تشابهت مسيرتهما في العديد من الجوانب ، ومع ذلك، فإن لكل منهما خصوصياته التي تميز مسيرتهما. إلا أن كلاهما رمزًا للعدالة والكرامة الإنسانية في تاريخ العالم ، لأن خوسيه موخيكا ونيلسون مانديلا هما رمزان بارزان في تاريخ النضال السياسي والاجتماعي، و الصمود و الصبر و التحمل ، و الثبات في المواقف و المباديء التي لم تستطع الإمبريالية الرأسمالية هزمها أو تكسيرها بمختلف إغراءاتها و تهديداتها ، و بذلك فشلت فشلا ذريعا أمام صلابة هذين الرجلين العظيمين ، ولم يكن أمام هذه الإمبريالية سوى احترامهما و تقديرهما و الانصياع للحوار أمام شموخهما.، وهو ما يُستخلص منه على أن الإمبريالية تخشي أخلاق و قيم و مباديء و صمود الرجال من أمثال هؤلاء الذين وصلوا إلى كرسي الحكم بنزاهة و بإرادة شعبية مما يفرض عليها أن تحاورهم. فيما أن نفس الإمبريالية لا تكن أي احترام للحكام الطغاة أذ أنها تحلبهم كالأبقار كما تفعل لحكام العرب أمراءا و ملوكا و سلاطين، لأنها تعلم علم اليقين أن جشع هولاء قد حولهم إلى مجرد تماسيح في صفة بشر يعيشون بأمتصاصهم لدماء الشعوب التي يحكمونها و يتحكمون فيها بقوة الحديد و النار ، ولما لا يكونوا مجرد أبقار حلوب للإمبريالية و الصهيونية و الماسونية؟
#علي_لهروشي (هاشتاغ)
Ali_Lahrouchi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟