أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جورج منصور - -وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض














المزيد.....

-وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض


جورج منصور

الحوار المتمدن-العدد: 8378 - 2025 / 6 / 19 - 16:14
المحور: الادب والفن
    


تفاجأت حينما انتهيت من الخمسين قصة، والتي شكلت قوام رواية (وادي الفراشات) لمؤلفها أزهر جرجيس، عندما وجدت ملاحظة في الصفحة 213 تقول: "النص نسج من الخيال، وأي تطابق أو تشابه في الأسماء والأحداث والأمكنة هو محض مصادفة غير مقصودة".
هكذا يقول المؤلف دفعة واحدة، في حين ظلَّ انغماسي شديداً وأنا أتابع أحداث الرواية، صغيرها وكبيرها، وهي تتحدث عن واقع عاشه الشعب العراقي، عندما كان العراقي يستيقظ كل صباح لا ليعيش، بل ليقاوم. يقاوم الجوع، والذل، والسوق السوداء، والدواء المفقود، والكهرباء المنطفئة، والماء الآسن. يقاوم خيبة وطنٍ صار فيه الحلم كماليات، وصار الرغيف هدفاً استراتيجياً.
في زمن الحصار، كانت الدينار يُعدّ بالأكياس لا بالقيم. وكان الموظف يُسحق من الصباح إلى المساء ليعود آخر الشهر بأجر لا يكفي لعلبة حليب مستورد، إن وُجدت. الكرامة كانت تُباع على الأرصفة، بالتقسيط، مقابل حفنة من الدولارات أو كيس طحين.
الناس كانت تبتكر طرق البقاء: تخبز من النخالة، وتغلي الشاي ثلاث مرات، وتخلط زيت السيارات بزيت الطهي، وتزرع النعناع في علب السمن الفارغة على الشرفات.
كان الدواء حلماً لا يأتي، والسرطان لا يُعالج، والأطفال يموتون في صمت، كأنهم أرقام في نشرةٍ أممية. الأم كانت تقايض خاتم زواجها بحليب لطفلها، والأب كان يهرب من نظرات صغاره حين يسألون: “ليش ما عدنا جبن"؟
ومع ذلك، وسط هذا الخراب، لم يمت العراقي. كان يضحك رغم الغصة، ويعزف على العود أغنية، ويكتب الشعر في دفتر باهت. كانت الحياة تمشي على عكازين، لكنها تمشي.
في بغداد، خلال سنوات الحصار القاسية في التسعينات، لم يكن غريباً أن ترى رجلاً خريج جامعة، بملامح مثقفة، عينان تترقرق فيهما خيبات كثيرة، يجلس خلف مقود سيارة تاكسي متهالكة تجوب شوارع المدينة المكتظة بالغبار والحواجز والأسى. هذا ما كان يفعله عزيزعواد بطل الرواية.
كان يؤرقه زيارة المقابر، حيث إليها ينتهي الجسد الذي أنهكه الزمن أو المرض أو الحرب، والتي يلفها الصمت، بيد انها تنطق لمن يحسن الإصغاء، وتشكّل أرشيفات للوجع. بينما مع تناسخ الأرواح تبدأ الرحلة من جديد.
كان عزيز، الذي قضى ثمانية عشر شهراً في الخدمة العسكرية بكركوك، والتي كانت إلزامية وتحولت إلى مصير مفتوح على كل الاحتمالات ويعود إلى بغداد ليعمل في أرشيف دائرة الفنون ثم يتركه لكون أن ما يتقاضاه منه شحيح جداً، يبدأ يومه سائقاً للتاكسي مع طلوع الشمس، لا لأن الزبائن يكثرون في الصباح، بل لأنه لا يستطيع النوم، فالهموم لا تترك له فسحة للراحة. يلبس قميصاً نظيفاً رغم اهترائه، ويحرص على تسريح شعره بدقة، كأنما يصرّ أن لا يخسر ما تبقى من كرامته. يركب سيارة خاله جبران القديمة، يدفعها بروحه قبل محركها، وينطلق بين الطرقات، يبحث عن رزق اليوم. وفي قصص كل زبون يرى انعكاساً لقصته أو ما تشبهها.
يحمل في سيارته كتاباً قديماً من مكتبة خاله جبران، ربما رواية أو كتاب في تخصصه، يقرؤه في لحظات الانتظار الطويلة عند محطات الوقود أو أمام المدارس. حين يسمع خطاباً حكومياً يتحدث عن صمود الشعب، يبتلع الغصة ويكتم ضحكة ساخرة. هو لا يريد الصمود، يريد فقط أن يعيش حياةً تليق بتعبه، بشهادته، بسنوات دراسته التي قضاها في أروقة الكلية على ضوء الشموع أحياناً.
كان أكثر ما يؤلم عزيز، هو عندما تركته زوجته تمارا لشظف العيش وفقدها طفلها البِكر سامر، ومن ثم فقد طفله سامر ثانية. وفيما كان هو لا يستطيع شراء حذاء جديد، أو علبة دواء لزوجته المريضة، كان يرفض أن يمدّ يده، أو أن يهاجر. ظل يقاوم بصمت، يقود التاكسي كما يقود قدره، بعينين مفتوحتين على المرارة، وبقلب يحلم بأن يتغير شيء.
وادي الفراشات رواية مكتوبة بلغة أنيقة، وفيها سردٌ مزدان بالكثير من عناصر التشويق، تشُّد القارئ ليتابع الأحداث الغزيرة، التي تأتيه الواحدة بعد الأخرى..
وعندما أنتهت الرواية بصفحاتها ال 215، تمنيت أن لا تكون قد أنتهت. أردت أن أبقى مع عزيز وهو يقود سيارته في شوارع وأزقة بغداد، وقد ظل، بسيارته القديمة، جزءاً من ذاكرة المدينة، وحكاياتها الكثيرة التي لم تُكتب بعد.



#جورج_منصور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جولة حرة في الموصل.. الطيور الهاربة لم تعد إلى اعشاشها بعد
- شكرا لهذا الاحتفاء المُبهر
- (ذاكرة يد).. مدخلٌ إلى جحيم أقبية الموت
- عروض التعازي طقوس درامية
- حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س
- لقاء في قم
- بغداد 2003: عندما كشّر الموت أنيابه*
- الفنان الآشوري هانيبال ألخاص كما عرفتهُ
- حكايتان من الجبل: الساقية والبغل
- عن الهجوم الكيمياوي على حلبجة كًلستان*
- مشياً على الأقدام بإتجاه الوطن: من موسكو الى قرية نائية .. ه ...
- هل رفع خيم المتظاهرين تفكيك لإنتفاضة تشرين؟
- حكاية لقائي مع غائب طعمة فرمان وزهير الجزائري في موسكو
- مع مصطفى الكاظمي (ذاك يوم.. وهذا يوم)
- ليس رثاءً.. في رحيل الصديق علي شبيب (أبو بدر)
- ما أوجعنا يا صديقي هشام الهاشمي
- العراق: لماذا العنف ضد المرأة؟
- هل تجيز إيران بيع ألاعضاء ألبشرية؟
- هل تضمد زيارة البابا جراح مسيحيي العراق؟
- العراق... ويسألونني عن هيبتك؟


المزيد.....




- المعمار الصحراوي.. هوية بصرية تروي ذاكرة المغرب العميق
- خطه بالمعتقل.. أسير فلسطيني محرر يشهر -مصحف الحفاظ- بمعرض إس ...
- موعد نزال حمزة شيماييف ضد دو بليسيس في فنون القتال المختلطة ...
- من السجن إلى رفض جائزة الدولة… سيرة الأديب المتمرّد صنع الله ...
- مثقفون مغاربة يطلقون صرخة تضامن ضد تجويع غزة وتهجير أهاليها ...
- مركز جينوفيت يحتفل بتخريج دورة اللغة العبرية – المصطلحات الط ...
- -وقائع سنوات الجمر- الذي وثّق كفاح الجزائريين من أجل الحرية ...
- مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
- سرديّة كريمة فنان
- -وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جورج منصور - -وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض