|
نحو فهم أعمق للمساواة بين الجنسين
رسلان جادالله عامر
الحوار المتمدن-العدد: 8377 - 2025 / 6 / 18 - 12:04
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
عند طرح فكرة المساواة بين الرجال والنساء، كثيرا ما يُعتقد أنّ هذه المساواة تقوم على أساس يعتبر فيه الجنسان متماثلين بحيث يتم تجاهل الفروقات والاختلافات بينهما أو عدم إيلائها الأهمية، وهذا أمر مناف للواقع بالطبع، لأن الاختلافات والفروق موجودة بين الجنسين في تكوينهما الطبيعي، وهذا ما يتبعه بشكل سببي اختلافات على مستوى النفس والفكر، ومن ثم السلوك. بهذا الفهم للمساواة، وبما أن الفروق والاختلافات بين الجنسين هي حقيقة موضوعية لا يمكن بتاتا إنكارها، يرفض الذكوريون فكرة المساواة، وذلك ببساطة من وجهة نظرهم لأن المرأة ليست كالرجل في حقيقة الواقع. وهكذا يتشوه مفهوم المساواة، ويتم الخلط بينها وين "المطابقة"، وتُصور من قبل رافضيها وكأنها إسقاط للفروق والاختلافات بين الجنسين بشكل قسري وتعسفي متعمّد. وهذا المفهوم المغلوط للمساواة، الذي تُصور فيه وكأنها حالة عدم اعتراف بالفروق والاختلافات وتجاهل لها، لا نجده في مسألة المساواة بين الرجل والمرأة وحسب، بل يتعداها إلى فكرة المساواة العامة بين الناس، التي يعتبر فيها أن الإنسان مساويا للإنسان أيا كان كلا منهما، حيث تـُرفض هذه الفكرة من قبل من يرفضها بذريعة أن البشر في حقيقتهم مختلفون في طبيعاتهم، وبالتالي فهم ليسوا متساوين، ومحاولة جعلهم متساوين هي بناء على ذلك باطلة، ومناقضة للواقع ومضادة للطبيعة برأي رافضي المساواة هؤلاء. ببسيط الكلام يمكن الرد على هذه الموقف المسطح المغلوط من قضية المساواة ببعدها الإنساني العام، أو بعدها الجنسي الخاص، أو أي بعد آخر لها، هو أن المساواة لا تعني مطلقا إلغاء وانتفاء أو نفي الفروق والاختلافات في تكوين شخصيات أو أجناس الناس، ولكهنا تُطرح كمسألة مبدأ وغاية إنسانيين، وفيها يعتبر كل إنسان مساويا لأي إنسان آخر بناء على حقيقة أن كلا منهما هو إنسان، إنسان وحسب، بصرف النظر عن أية صفات خاصة يتصف بها كلا منهما، وهكذا يتساوى إنسانيا الطفل مع الشخص البالغ، ولا أحد يقول من أنصار المساواة أنّ هذين الشخصين ليسا مختلفين، ولذلك، وبناء على هذا التساوي المبدئي في "الكون إنسانا"، أو في الكونية أو الكينونة الإنسانية، تتم المساواة بين جميع الناس في الحق والقيمة الإنسانيين مبدئيا، والغاية من ذلك هي إقرار حقوق إنسانية متساوية للجميع وإعطائهم الفرص المتكافئة ليعيشوا جميعا حياة إنسانية حقيقية تليق بكرامة الإنسان.
وهكذا يمكن القول باختصار أن فكرة المساواة بين الرجال والنساء لا تقوم على الزعم بأنه لا يوجد بينهما كجنسين فروق واختلافات هامة، ولكنها تقوم على حقيقة أن كلا منهما هو إنسان، إنسان واقعي حقيقي، ما يجعلهما حكما متساويين في الإنسانية كإنسانين. لكن يبقى الاعتراف بوجود الفروق والاختلافات كحقائق موضوعية أمرا واقعيا موضوعيا بدوره، إلا أنّ القول الإطلاقي بتفوق الرجال على النساء هو أمر مختلف كليا، فالاعتراف بحقيقة وجود الفرق والاختلاف يعني أنه ثمة بشكل عام أمور يتصف بها الرجال، ولا تتصف بها النساء، وهناك بالمقابل عموما أمور تتصف بها النساء ولا يتصف بها الرجال، وفي عداد هذا وذاك تدخل واقعيا أشياء حسنة وأخرى سيئة، وبناء على ذلك تصبح فكرة "تفوق" جنس على آخر بالمطلق باطلة، ما يعني وجوب التخلص من مصلح "التفوق" وهو مصطلح عنصري استعلائي متدني أخلاقيا، ويجب استبداله بمصطلح "التميز" الواقعي والموضوعي لتوصيف أية اختلافات على مستوى الجنس أو الشخص، ذلك أن الأفضليات الإنسانية لا تتجمع في جنس واحد وحسب، وهي تتوزع بين الجنسين، بشكل يشبه عموما توزعها بين الأشخاص، كما أنها ليست أفضليات قطعية يمتلكها كل جنس بشكل تام ويمتاز بها بتمامها وكليتها على الآخر، وإنما هي أفضليات وسطية أو نسبية، ما يعني أن ما هو أفضل عند الرجال تكون نسبة المتميزين فيه عند الرجال أكبر من نسبة النساء، وكذلك هو حال ما هو أفضل عند النساء، وهو لا يعني أفضلية مطلقة لديهن، إنما يعني أن نسبة تميز النساء فيه أعلى من مثيلتها عند الرجال، وعدا عن ذلك لا يمكن فصل أية تميزات عن ظروفها البيئية الموضوعية وربطها بشكل تام بالعوامل الفطرية الذاتية المحضة.
من الهام جدا عند الكلام عن الذكورة والأنوثة، وعن الرجل والمرأة، أن نعي أنه ليس هناك واقعيا "رجل مطلق" أو "كامل الذكورة" أو "امرأة مطلقة" أو "كاملة الأنوثة"، فمسألة الجنوسة لا تنحصر فعليا في الشكل التشريحي والمظهر التناسلي الخارجي وحسب، وهي اليوم علميا تتحدد على مستويات عديدة بيولوجية واجتماعية، وشخصية الشخص في المحصلة هي نتيجة لتفاعل كل من الجانب الفطري الجيني لديه، الذي يتكون من مورثات وطفرات (mutations)، مع الجانب الاجتماعي ممثلا بالظرف التي ينشأ ويعيش فيها ويتعرض لها هذا الشخص في بيئته، والهوية الجنسية للشخص أيضا، والصورة أو الكيفية التي تتخذها هذه الهوية لا تتحدد فقط بالجانب البيولوجي، وهي بالقدر نفسه تتأثر بالعوامل الاجتماعية، وبثقافة الجندر السائدة في المجتمع، وهي التي تنشئ عادة كلا من صورة الرجل وصورة المرأة في هذا المجتمع.
عندما يقول الذكوريون أن الرجل يتفوق على المرأة، فهم لا ينتبهون، وربما لا يبالون، بأنهم يقعون في مغالطتين كُبرَيين: الأولى في أنهم يتكلمون بشكل معمم، وهو يعني بالتالي أن أي رجل يتفوق في كل شيء على أية امرأة، وهذا ما ينفيه الواقع المعاش بمنتهى البساطة، فهناك نساء عالمات وقائدات وبطلات وفاضلات ومبدعات وسوى ذلك من أشكال التميز، وبالمقابل هناك رجال جهلاء، وضعيفو الشخصية، وجبناء، وفاسدو الأخلاق، وبليدو الذهن، وسوى ذلك من ضروب فقر الشخصية، فكيف يمكن آن يكون كل هؤلاء الرجال أفضل من تلك النساء ومتفوقين عليهن؟! أما الثانية، فهي في الإطلاق الهويوي، ذلك أنه بنظر هؤلاء الذكوريون تحمل كلا من صفتي "رجل" و"امرأة" معنى وبعدا مطلقين، وكأنه هناك شكل أو صورة محددة وقطعية وسرمدية ومنفصلة في كليتها لكل من الرجل والمرأة، ولا تتغير عبر التاريخ، وهذا أيضا بعيد تماما عن الواقع، وفيه يتم تماما إلغاء الجانب الاجتماعي والتاريخي الجوهريين من مفهوم الجنوسة، فرجل عصر الفضاء الحديث لا يتشابه مع رجل عصر الكهوف تقريبا إلا في الذكورة البيولوجية، ومفهوم الرجولة يختلف بشكل جذري بين عصر وعصر، وبين ثقافة وثقافة، فالرجولة ليست ذكورة بيولوجية محددة وثابتة تماما كما هو الحال عند الحيوانات، وهي عند الإنسان إضافة إلى البيولوجيا حالة اجتماعية وثقافية بدرجة جوهرية، ولذا فهي تتغير وتتطور، وهذا ينطبق على "النسوءة" أيضا، فصفة "المرأة" بدورها ليست صفة كلية مطلقة منفصلة عن التاريخ والواقع الاجتماعي، فالإنسان، ذكرا كان أم أنثى، هو ليس كائنا مؤطرا ومحددا في بيولوجيتيه، فهو كائن اجتماعي ثقافي، ولذلك فأية شخصية أو هوية أو صفة أو ميزة أو قدرة يمتلكها، هي ليست مسألة بيولوجيا وفطرة وحسب، ولكنها بنفس الوقت والقدر مسألة اجتماع وثقافة تجعل الإنسان واقعيا منتَجا اجتماعيا ثقافيا لمجتمعه وواقعه المعيشي، وهذا يعني أنه مهما كانت الصفات التي يتصف بها أي شخص في لحظة ما وموقع ما سلبية أو إيجابية، فهي قطعا لا تستنفد إمكانياته، ولا تضع حدودا كلية ونهائية لطبيعته وشخصيته وهويته، وهناك دوما إمكانية واقعية حقيقية غير محدودة لأن يكون هذا الشخص أفضل، بل وأفضل بكثير، سواء كانت صفاته تلك مرتبطة به كفرد أو عائدة إلى طبيعته كجنس. ذاك يعني أنه عندما يدّعي الذكوريون أن الرجل يتفوق على المرأة، فهم مطالبون بأن يحددوا بدقة" من هو الرجل المتفوِّق، ومن هي المرأة المتفوَّق عليها؟"، وما هي أيضا مفاهيم ومعايير وظروف هذا التفوق؟ وما لا شك فيه أنه لن يكون لديهم من حجج إلا مفرزات الثقافة الذكورية التي كانت تضع معاييرها للتفوق وتنتج ظروف التفوق بما يتناسب مع ذهنياتها، والأصح ذهانياتها الذكورية ومبادئها المتعصبة المتطرفة ضد النساء، وفي هذه الثقافات كانت المرأة فعليا ملغاة على مستوى النشاط، ومحشورة في قالب قسري يحرمها من امتلاك المؤهلات، ويمنعها من الفاعلية، ولا يعترف لها بأية كفاءات تمتلكها بصفتها الجنسية أو الشخصية، لأنها ببساطة كأنثى كانت مقولبة ومنمطة سلفا بشكل يقصيها عن ميدان الفعل، ويلغي فاعليتها، ويضعها في موقع الخضوع والتبعية بالنسبة للرجل، وعندها فهي حكما لن تمتلك الفرصة لتبدع وتتميز وتبتكر وتنتج، وإن حصل هذا فهو لا يمثل إلا استثناءات نادرة، والرجل الذكوري هو المذنب في كل هذا، فهو من يدفع المرأة إلى هذه الحالة التي تصبح فيها عقيمة اجتماعيا وإبداعيا، فهل تعاب عندها المرأة لأنها لا تبدع وتنجح وتتميز كما هو حال الرجل وهو من يمنعها من كل هذا؟! وهل يحكم عليها بالفشل وهي ممنوعة من العمل وامتلاك مؤهلات العمل؟! والحال هنا يصبح كالحكم على رياضي محبوس بخسارة منافسة يمنعه حبسه من الاستعداد لها والاشتراك فيها، ثم وصمه من قبل حابسه بالفشل بسبب هذه الخسارة!
تلك الظروف التي تنعدم فيها المساواة بين رجل متسلط جائر وامرأة مقموعة مضطهدة، لا يمكن لأي عقل أو عدل أن يجري فيها مفاضلة بين الجنسين ويحكم فيها بأفضلية وتفوق أحدهما، فهذه المفاضلة ستكون كمبارزة يعطى فيها أحد الخصمين أخطر الأسلحة، فيما لا يحرم الآخر من الأسلحة فقط، بل توضع أيضا في يديه ورجليه القيود! ولكي تكون المقارنة صحيحة وعادلة، فهي يجب أن تتم في ظروف متكافئة، لا تعطى فيها الفرصة للمرأة في النجاح كما تعطى للرجل وحسب، بل يجب أن تعطى لها بنفس القدر بالشكل الذي يتناسب مع طبيعتها كامرأة، وليس بالمعايير والنواظم الموضوعة في عالم الرجال وبما تناسب مع خصوصياتهم ومصالحهم. إذا يمكن ببساطة القول عن أي حكم بتفوق الرجل يصدر في مجتمع ذكوري يجبر المرأة على أن تكون ضعيفة وعاجزة، ويتذرع بما هي عليه من ضعف وعجز، بأن التفوق الحقيقي الوحيد الذي يمكن أن يصدق فيه الحكم الصادر هذا هو التفوق في الجور، ومجتمع يكون في مثل هذا الجور، لا يمكن أن تعطى أحكامه أية قيمة إنسانية أو عقلانية! فهو مجتمع بائس، وكل ما يصدر فيه وعنه من أحكام لا تكون إلا ثمارا فاسدة لحالة البؤس التي يتخبط فيها! هذا الوضع المزري.. يبدو وكأن العلاقة بين النساء والرجال فيه تشبه علاقة العبد بالسيد، وهذا صحيح ظاهريا، أما في جوهر الأمر فالتوصيف الحقيقي للعلاقة هنا هو أنها حالة يضطهد فيها عبد عبدا آخر، وكلاهما يتخبطان في العبودية، وهذه العبودية ضخمت ذات الرجل، إلى حد التورم، وقزمت ذات المرأة إلى حد الاضمحلال، وهكذا جاءت فكرة المساواة لتنقذ كلا من الرجل والمرأة من هذه العبودية.
والمساواة الحقيقية لا تعني أن تعاد قولبة المرأة ليعاد إنتاجها كنسخة أخرى من الرجل، فالمساواة تعني المساواة بين ذات المرأة وذات الرجل، بين الذات المؤنثة والذات المذكرة، ووفق معيارية إنسانية حقيقية يتم فيها تحقيق الجنوسة بشكلها الصحيح، وبذلك لا تكون المساواة عبارة عن عملية انتاج صور شوهاء متشابهة ومتماثلة من الرجل والمرأة. وعند طرح مسألة المساواة بين الجنسين، فهي تطرح على المستويين المنطقي والأخلاقي كمبدأ ينطلق من تساوي كل منها في الإنسانية، وكغاية تسعى لجعل هذا المبدأ حقيقة معاشة في الواقع البشري ويتحقق فيها التساوي في الحقوق والقيم الإنسانية بين الجنسين، وهنا يجب الحذر من الوقوع في "المجردات"، والقولبات" التي تُسقـَط بناء على هذه المجردات على الواقع من خارج الواقع! فعلى المستوى العملي، وعند الحديث عن المساواة كمشروع تطبيقي، لابد من الإجابة عن أسئلة جوهرية عمن هي وكيف هي المرأة ومن هو وكيف هو الرجل اللذين ستتم المساواة بينهما؟ وفي ماذا وكيف ستتم هذه المساواة؟ فالقول المجرد بالمساواة بين الرجل بمفهومه المجرد والمرأة بمفهومها المجرد لن يكون له أية فاعلية بناءة على أرض الواقع، ويمكن أن يؤدي ليس إلى المساواة قطعا، وإنما إلى مطابقة قسرية بين صورة المرأة المزعوم تحريرها ومساواتها مع صورة الرجل التقليدية، وبذلك تختزل أو تمسخ هذه المساواة لتصبح مجرد إتاحة للنساء ما كان ممنوعا عليهن كنساء ومسموحا فقط للرجال التقليديين كرجال. مساواة مثل هذه هي في أحسن أحوالها مساواة سطحية، وإذا ما تعمقنا وتوسعنا في النظر إليها فهي لن تكون مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة، مساواة يتساوى كل منهما فيها كنموذج إنساني بنّاء يلتقي ويتكامل مع الآخر، وما يحصل في مثل هذه الحالة أن المرأة لا تتساوى فعليا مع الرجل، بل تتشبه به، والأنكى من ذلك أنها تتشبه به دون تحريره هو نفسه تحريرا جذريا كافيا من عيوب وشوائب ونواقص ذكوريته التقليدية! أما المساواة الحقيقية بين الجنسين، فهي تعني فعليا التحرير والتطوير الجذريين لكل من شخصيتي الرجل والمرأة ليصبح كلا منها ذاتا إنسانية راقية فاعلة، تتساوى وتتكامل إنسانيا مع الذات الإنسانية الراقية الأخرى، دون أن تتماهى معها تماهيا يلغي الجنوسة الطبيعية لأي منهما.
إذا، عند السعي العملي إلى المساواة بين الجنسين، يجب وعي أنه لابد أن تكون الهويات الجنسية محققة بشكل لا يلغي جنوستهما، وبنفس الوقت تكون هذه الهويات قابلة فيه للتساوي في القيمة والحق الإنسانيين بكل ما فيها من تماثلات واختلافات، أما عندما يتم إعادة تشكيل المرأة لتصير رجلا آخرا، فالمساواة المزعومة هنا لا تكون بين الرجل والمرأة، وإنما تكون بين "الرجل" و"الرجل الآخر"، أو بين "نسختين رجليتين متشابهتين"، وكلاهما متدنية في سويتها الإنسانية، وبالتالي فنحن هنا نكون أما حالة "كذبة"، وليس حالة مساواة. المساواة بالطبع مستحيلة التحقيق والتطبيق بين امرأة مستلبة مقزّمة إنسانيا كأنثى ورجل متسلط متورم الذكورة، ولدى كل منهما إيمان مشترك بدونية وقصور المرأة، فلتحقيق المساواة يجب أن يتحرر كل من الرجل والمرأة ثقافيا من عقدة تفوق الرجل ودونية المرأة، ويجب أن يكون المجتمع ككل متخلصا من كل المفاعيل والبنى والنظم التي أنتجتها تلك الثقافة غير السوية، وهذه المساواة تصبح باطلة إن هي تمت بشكل تتماهى فيها المرأة مع نموذج رجل تلك المرحلة، وبقي المجتمع منظما وفق الآليات التي أنتجتها أو أسست لها تلك المرحلة أو طبعتها بطابعها، فعندما يحدث أو يبقى ذلك لا تكون المرأة قد حققت الحرية والمساواة.. بل تعرضت للتذكير ولإعادة الإلغاء في شكل جديد بواسطة هذا التذكير.
بالطبع.. من المهم جدا توضيح أن التركيز على وجوب أن تتم المساواة بين الجنسين كمساواة بينهما كجنسين مختلفين، وبحيث يحافظ كل منهما على جنوسته، لا تعني المحافظة فيها على الجنوسة الخاصة قطعا إنشاء نظام من التمييز الجنوسي الذي يخص أدوارا ووظائفا معينة بجنس معين ويخصصها له دون الآخر بذريعة مناسبة هذه الأدوار والوظائف لجنس دون آخر، باستثناء الأدوار والوظائف الطبيعية المحضة طبعا، فأمر كهذا يتناقض تماما مع المساواة وينتج حالة من "الأبارتايد الجنوسي" أو "التمييز العنصري الجنوسي" و"التمييز العنصري الوظيفي"! إن المساواة الوظيفية بين الجنسين في مجتمع المساواة هي جزء جوهري من هذه المساواة، ولكن المطلوب جوهريا هو ألا يتم في مجتمع المساواة التعامل مع "الوظائف والأدوار الاجتماعية أو المجتمعية" بشكل روتيني ميكانيكي يحافظ على وضعها السابق الذي كانت عليه في المجتمع الذكوري، وإنما تحرير هذه الوظائف والأدوار بحيث تتخلص من شروط المجتمع الذكوري وترتقي إلى شروط المجتمع الإنساني، فلا تعود فيه وظائفا وأدوارا تلبي حاجات المجتمع الذكوري بل وظائفا وأدورا مقترنة بضرورات الاجتماع والتطور الإنسانيين. وإضافة إلى ذلك، ففي هذا المجتمع الإنساني الراقي تصبح الفرصة متاحة أمام كل إنسان لينمي ويطور كما وكيفا إمكاناته الخاصة الجنسية أو الفردية ويحقق ذاته بالشكل الإنساني الأفضل، ليصير شخصية فاعلة مبتكرة مبدعة في مجتمعه.
واليوم.. العالم البشري المعاصر بمجتمعاته المختلفة، بالتأكيد ليس في نقطة الصفر في هذا القضية، ومعظم المجتمعات البشرية قطعت أشواطا معينة في هذا السبيل، والعديد منها أنجزت فيه الكثير، ولكن حتى في هذه المجتمعات ماتزال الذكورية حاضرة بقدر ليس بالقليل، سواء بشكلها الموعى أو غير الموعى، وهناك أمور عديدة في هذه المجتمعات لم تتم فيها المساواة بعد، فيما تمت في مسائل أخرى المساواة بأشكال غير صحيحة؛ ولكن بنفس الوقت الذي تم فيه إقرار مبدأ المساواة إقرارا نهائيا في هذه المجتمعات المتقدمة والاعتراف به اعترافا حاسما، فهناك مجتمعات معاصرة عديدة ماتزال فيها فكرة المساواة نفسها تواجه أكبر التحديات، ويتم رفضها بقوة وعلى أنطقة واسعة من قبل القوى والذهنيات التقليدية الذكورية التي ماتزال فيها شديدة الهيمنة والسطوة والتسلط، بل والطغيان في كثير من الأحيان. وختاما.. هذه المشكلة بالتأكيد لا يمكن حلها إلا بعملية اجتماعية متكاملة تعاد فيها هندسة المجتمع بشكل جذري وتُعتمد فيها منهجية تشبه الهندسة الزراعية التي تهيّئ الحقل بأسلوب يجعله مناسبا لنمو وازدهار أنواع مخلفة عديدة من النباتات النافعة؛ ومثل أية قضية اجتماعية أخرى، فقضية المساواة في المجتمع بجوانبها المختلفة لا تنفصل عن الكلية الاجتماعية التي تنتمي إليها، بل تتداخل وتتفاعل مع سواها من العناصر والعوامل الفاعلة والمؤثرة في هذه الكلية. وبالطبع مسألة معقدة كهذه لا يمكن إيفاؤها حقها من المعالجة في مقال واحد، وأقصى ما يمكن لمقال كهذا فعله هو أن يقدم بعض المساهمة الفعلية في السعي إلى الحل الصحيح لهذه المسألة الفائقة الأهمية.
#رسلان_جادالله_عامر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإلحاد والأخلاق هل توجد أخلاق إلحادية؟!
-
كلمات الحب الست عند الإغريق القدماء.. ولماذا يمكن لمعرفتهما
...
-
جرائم شرف أم جرائم عار
-
الجنس بين عقدة العيب وابتذال الاستهلاكية
-
الأيروس الجميل.. رقصة حياة على أنفاس أفروديت
-
اعتذاري حنظلة
-
الجمال لا يعيه إلا الجمال
-
تهاويم في جنازة كذبة تدعى الوطن
-
الدولة المدنية الديمقراطية هي الحل الوحيد في سوريا
-
أفكار وجيزة في العلمانية
-
بشرى الحياة
-
هل كانت ديكتاتورية اﻷسد حكما علويا أو بعثيا أو علمانيا
...
-
ديالكتيك العَلمانية
-
ما هي العلمانية؟
-
التناقض الجوهري بين الدولة المدنية الديمقراطية ونظام المحاصص
...
-
ما هي -الدولة المدنية الديمقراطية-؟
-
الكتابة عن الحب والجنس في موضع جدل
-
إشكالية الاختلاف، دور النظام الاجتماعي وإمكانية الحل
-
ما هي -ما بعد العلمانية-؟
-
بناء الثقة والأمن: البريكس والنظام العالمي
المزيد.....
-
تواصل العصابات تجنيد الاطفال رغم الأساليب الجديدة للشرطة
-
المرأة التي ترعى 98 طفلا من ذوي الإعاقة
-
“رابط فعال” خطوات التسجيل في منحة المرأة الماكثة بالبيت 2025
...
-
سحر دليجاني المعارضة الإيرانية: الحرب على إيران ليست دفاعًا
...
-
أهم تدخلات وزارة شؤون المرأة خلال العام الأول لتولي حكومة د
...
-
النساء لا يتملّكن.. مصريات محرومات من حيازة الأراضي الزراعية
...
-
فارسين أغابكيان.. أول امرأة تقود الدبلوماسية الفلسطينية
-
دراسة: تدمير آثار الملكة حتشبسوت لم يكن بسبب كونها امرأة
-
الناشطتان الإيرانيتان نرجس محمدي وشيرين عبادي تطالبان بوقف ف
...
-
بليز ميتروويلي أول امرأة تقود جهاز الاستخبارات الخارجية البر
...
المزيد.....
-
المرأة والفلسفة.. هل منعت المجتمعات الذكورية عبر تاريخها الن
...
/ رسلان جادالله عامر
-
كتاب تطور المرأة السودانية وخصوصيتها
/ تاج السر عثمان
-
كراهية النساء من الجذور إلى المواجهة: استكشاف شامل للسياقات،
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
الطابع الطبقي لمسألة المرأة وتطورها. مسؤولية الاحزاب الشيوعي
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
المزيد.....
|