أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - الحب الفجيعة :قصة قصيرة















المزيد.....


الحب الفجيعة :قصة قصيرة


حبيب هنا

الحوار المتمدن-العدد: 1812 - 2007 / 1 / 31 - 07:40
المحور: الادب والفن
    


-1-

أن تسكن في حي ملامحه جادة.. أن تقف على الشرفة وتنظر من خلف الزجاج إلى حبال المطر المتدلية من السماء، وأنت تقرأ رواية أحداثها تشد اهتمامك.. أن تنتظر ابتسامة الصباح اليومية التي ترافق التحية في نفس التوقيت تقريباً.. أن تصاب بالحيرة والتوتر إن مضى يوم دون أن تراها. فهذا يعني أنك عاشق..
أن تسكن هي في حي حيادي لا يقوى على الانتماء.. أن تغلق الغرفة على نفسها وتبدأ بقراءة آخر كتاب أرسلته إليها في جو من الهدوء والسكينة.. أن تطلعك على أدق تفاصيل البيت كلما أتيحت الفرصة.. أن تهاتفك بين الحين والآخر كي تسمع صوتك.. أن تصبح كل شئ بالنسبة لها، فهذا يعني أن أمك تضرعت إلى السماء حتى تتحقق أمانيك، فامتلكت الروح والجسد، وبقيت هي تائهة بانتظار لمسة حنان تحتاجها عاشقة ولهانة تلوي جسدها فأصبح بشكل القصيدة..
القصة يا أستاذ، بدأت بالحب وانتهت بالفجيعة.. أكتب إليك حيثياتها، بعد أن سلخ العشق الروح عن الجسد فهرم من توه.. كل العروض التي قدمت إليّ كان من الصعب مقاومتها بنفس القوة، ومع ذلك، رفضتها وأنا متمترسة خلف سماع كلمة حب عبر الهاتف كلما اتصلت به.. كان يبصقها من بين أسنانه، في وقت ربما كانت فيه امرأة أخرى تداعب خصلات الشعر النامية على صدره.. لم أستطع نسيان أفضل اللحظات التي أمضيتها معه. أنفاسه ما فتئت تلهب حواسي وتحيلها إلى لحظة انصهار مجنونة، تراكمت حتى تمكنت مني فصرت معنى لا ينطبق على الموضوع، أو شعاراً لا يصلح أن يعلق على الجدار..
كان ينقلني من عالم إلى آخر لم أكن منه مرة. وكان يكفيني أن أكون معه.. أنظر من بين السحب فأجد الحاجز يرتفع كلما زدت عشقاً له. وكان يلعب على وتر مشاعري بشكل لا يوصف.. اكتشفت ذلك، ولكن بعد فوات الأوان. كان قد نال من روحي ما لم يستطع نيله من جسدي..
يا أستاذ جهدت في البحث بين صفحات الكتب عن تفسير معقول للحالة التي مزقت كياني وبعثرته في الأركان المختلفة.. من علم النفس إلى الفلسفة، ومنهما إلى قصص وروايات تناولت الحب بإفاضة، بيد أنني لم أعثر على واحدة إلى حد ما شبيهة بقصتي..
يا أستاذ.. إذ أردت أن تكتب عن قصتي، أرجو منك إعفاءي من الإحراج إذا كنت تحمل في نفسك مشاعر طيبة عني، أتمنى أن تستمر رغم عدم قدرتي على مبادلتك نفس المشاعر، وتعفي اسمي من تصدر صفحات روايتك، عندما يداهمك إحساس أن تسجل مذكرات فتاة، فتحت قلبها إليك وأباحت بأدق التفاصيل عن علاقتها مع شاب اعتقدت انه فارس الأحلام..
مع خالص تقديري لك وإلى اللقاء.. سلوى! أذكر الآن، كيف كانت هيئة ملامحها عندما خرجت.. وعندما حاولت بعد ذلك بأيام، أن أكتب رواية تحمل اسم "مذكرات فتاة" لم أستطع لذلك سبيلاً.. ومع مرور الوقت وانشغالي بهموم أخرى، تاهت في ذهني تفاصيل القصة، ولم أعد أعبأ بها، لدرجة تلاشت من تلقاء نفسها.
ولكن الآن عادت تقتحم وجداني بالمعنى الكامل للحضور.. سيطرت على تصرفاتي دون أن تعطيني فرصة للارتداد أو التريث والتفكير بما أنا مقدم عليه! كيف حدث هذا؟ متى وأين؟.
كرمتني إحدى الجامعات بإلقاء محاضرة في آخر ما توصل إليه علم النفس من بحوث، بعد عودتي من المشاركة في مؤتمر دولي عقد خصيصاً لهذا الغرض، وعندما اعتليت المنصة، سقطت عيناي عليها.. أنها هي بشحمها ولحمها، بروحها وجسدها؛ سلوى! تجلس بين الطالبات و بين أصابعها قلم يتحرك بليونة وسط صفحة بيضاء من دفتر المحاضرات..
هبطت عن المنصة، وأنا في حيرة من أمري.. توجهت نحوها ونظرت إلى الدفتر بطرف خفي حتى لا يلاحظ أحد سلوكي، فرأيت بداية ملامح وجه ينقله القلم من العقل إلى الورق.. صعدت إلى المنصة مجدداً، وبدأت إلقاء محاضرتي التي لفتت انتباه العديدين من أساتذة الجامعة إلى جانب الطلبة الذين وجدوا فيها مادة جديدة لم تصلهم بعد. وبين الحين والآخر أنظر إليها، فأراها ما تزال ترسم، وكأنها تحاول الهرب مما أقوله..
أثار هذا التصرف حفيظتي، ومع ذلك، من غير اللائق أن أسمعها بعض الكلمات، باعتباري ضيفاً، رداً على استخفافها بي. وعندما انتهيت من المحاضرة، وبدأ الطلاب بمغادرة القاعة، استوقفتها قبل أن تخرج قائلاً:
- أرجو أن تنتظري حتى أتحدث معك بعد خلو القاعة!
لم تبدُ على ملامحها أية مفاجأة.. جلست على المقعد القريب منها وبدأت تقلب الدفتر على الصفحات المختلفة، تقف عند البعض منها، وتمر سريعاً على بعضها الآخر. ولما فرغت القاعة، وقبل أن أتقدم نحوها، كانت هي قد نهضت وتقدمت نحوي قائلة:
- ماذا تريد مني يا دكتور؟
- أحسب أنه من غير اللائق، في محاضرة كهذه، أن تنشغلي في الرسم على حساب المعلومات التي من الممكن الاستفادة منها، ثم أن هذه الطريقة من الاستهزاء لا تليق بفتاة جامعية مثلك! أليس من الأجدر أن تكونين مثل زميلاتك اللواتي أبدين الاهتمام المطلوب نحو قيمة المعلومات التي تحدثت عنها؟
- إنني أرفض حضرة الدكتور أن أكون مثل زميلاتي، ثم انك جئت للتو من مؤتمر علمي يتناول آخر البحوث في علم النفس، فكيف لك أن تنسى أن الشخص بإمكانه أن يمارس عملين في ذات اللحظة، أن يرسم مثلاً، وأن يسمع.
- هل تملكين هذه القدرة؟
- نعم. وبإمكاني أن ألخص لك كل ما تحدثت عنه أكثر من أية زميلة أخرى..
- إذا كان ذلك لا يضايقك، فأنا مستعد للاستماع.
بدأت تتحدث وأعادت معظم ما تفوهت به. عندها سألت:
- ماذا كنت ترسمين؟
- لا تشغل بالك بي.
- حب الفضول كما تعلمين!
- أرسم ملامح شخص لم أره.
- أهو فارس الأحلام؟
- لا، ولكن سمعت عنه وصف لي.
- هل انتهيت من رسمه؟
- نعم.
- هل لي أن أراه؟
- لن يضيرني ذلك في شئ. تفضل..
قدمت إليّ الدفتر وبدأت أقلب صفحاته. وفي الجزء الأخير منه وجدت عدداً من الصفحات تحمل نفس الرسم تقريباً. وعندما أمعنت النظر في آخر رسم كدت أصعق.. أغلقت الدفتر في الوقت الذي فتحت فيه أبواب الذكريات على مصراعيها، وسألت:
- من أعطاك هذه الأوصاف؟
- أرى أنك يا دكتور تحاول التدخل في تفاصيل خصوصياتي..
- أرجوك.
- قصة هذه الأوصاف يطول الحديث عنها. وإذا كان لديك متسع من الوقت يمكن لي أن أسردها عليك شرط أن نذهب إلى الكافتيريا وتطلب لي شاياً.
أستوعب جيداً أن تحدث مثل هذه المواقف الجريئة في دولة تأسس فيها المجتمع المدني منذ زمن طويل، ولكن أن يحدث هنا في "غزة" أربكني كثيراً مثل هذا المطلب!
ذهبنا إلى الكافتيريا وجلسنا بانتظار قدوم الشاي الذي طلبته. وكنت بين لحظة وأخرى أنظر إليها في محاولة لسبر غورها، دون جدوى، ومع ذلك، شدني إليها طريقة الحديث والثقة العالية في كل تصرف مهما بلغت عفويته. ولما بدأت تتحدث لم تنتظر أن أطلب منها ذلك. ففي اللحظة التي أعقبت وضع الكأس على شفتيها، تتناول أول الرشفات، بدأت تتحدث فقالت:
- حدثتني أمي منذ أيام عن قصة حب عاشتها مع رجل لم يقيض لها الاقتران به لأسباب كثيرة، وعندما ألححت عليها لأجل معرفة اسمه أو أوصافه، وافقت أن تعطيني الأوصاف دون ذكر الاسم و..
قاطعتها قبل أن تكمل حديثها وشعور بالخجل يسيطر عليّ، فقلت:
- هل اسم أمك سلوى؟
- وهل أنت الرجل الذي يحمل هذه الملامح قبل عشرين عاماً؟
- نعم.
- إذن هي سلوى!
- أرجوك أن نذهب إليها! كيف هي الآن؟ وماذا يقول والدك عندما يسمع هذه القصة؟
أطرقت رأسها دون أن تنبس بكلمة.. وعرفت من فوري أن والدها لا يمكن إلا أن يكون إما متوفي أو منفصلاً عن زوجه، وربما يكون بسبب هذه القصة. فسألت:
- أهو منفصل عن أمك أم متوفى؟
- كلاهما معاً!
وضعتني في حيرة من أمري.. جعلت الأسئلة الملحاحة تتسلق عقلي وتجعله أكثر جدية في التعاطي مع التفاصيل، التي حاول جاهداً التخلص منها منذ عشرين عاماً.. أحدثت شرخاً في جدار وجداني، فانقلب معه دولاب العقل وتحطمت جواريره وتبعثرت الأوراق المتراكمة التي احتفظت فيما مضى بأهم الجزئيات. وكان على الخروج من هذه الدوامة قبل أن تجرفني إلى أعماق الجروح الماضية التي لم يسبق لأحد نكؤها. فقلت مطالباً بمزيد من التوضيح:
- لابد أن تكون قصته أكثر حزناً من زواج ثان، أشعل فيها نار الغيرة عند أمك، دون أن يفكر للحظة بتركها بالحسنى! إذ كيف نفسر قولك: كلاهما معاً! منفصل ومتوفى؟
- الأمر، يا دكتور، يبلغ من التعقيد ما يصعب تصديقه، ولكن قابل للحدوث.. إنني أثق بقول أمي دون حدود!
- الآن اطمأننت على الفكرة التي تحملينها عني. أطفأت النار قبل أن يصل لهيبها إلى عقلي..
- من هذه الزاوية اطمئن!
- إذن فسري قولك السابق عن والدك.
- رغم أنني أرغب أن تسمع القصة من أمي إلا أنه ينبغي أن تعلم قبل لقائها، أن والدي توفى عندما جئت أنا إلى هذه الدنيا، ولكن الفكرة التي لدي عنه تدفعني دوماً لأن أتمنى لو كنت ابنة لشخص آخر.
- هيا بنا من أجل لقاء أمك..
- لا تتعجل الأمر. دعني أفاتحها بالموضوع أولاً حتى لا تصاب بصدمة.
- من هذا أفهم أنها تتحدث عني بأريحية..
- نعم. بكل تأكيد.. اطمئن! غداً سأرتب لهذه المفاجأة.
غادرت الكافتيريا بأسرع ما يكون.. عدت إلى البيت.. دخلت إلى مكتبي أنقب عن الأوراق القديمة في محاولة لإعداد المرافعة أمام محكمة الغد.. أمضيت ما تبقى من النهار، وجزءاً من الليل، وأنا أبحث دون كلل عن الرسالة التي خاطبتني فيها عن قصتها التي بدأت بالحب وانتهت بالفجيعة ولما فقدت لأمل في العثور عليها، رأيت اسمها يرقص بين السطور في الأوراق المبعثرة.. سلوى!
أخذت أقرأ في الرسالة، ومع كل حرف يمر أمام ناظري، كنت أتمثل الحالة التي نشأت فيها العلاقة بيننا، مما دفعها إلى الحديث عن قصتها والتوقف عند أدق التفاصيل، قبل أن تسلمني الرسالة مكتوبة ثم تختفي دون العثور عليها، علماً بان بحثي لم يكن جاداً بالمعني الشمولي.
قرأت الرسالة، المرة تلو المرة، أسترجع ذهنياً ما حدثتني عنه في حينه. القصة وراء القصة، تجلس قبالتي وترويها في كل مرة كانت تأتي لزيارتي في المكتب.. صورتها تتشكل في ذهني خطوطاً سوداء، يرسمها فنان يحاول قدر الإمكان أن يترك فضاءات في أفق القماش كي يملأه المحبون بمعاني انعكاس الصورة على أرواحهم، في وقت كنت فيه الوحيد الذي يقرأ ما خلف القماش دون أن يراه الآخرون..
تذكرت حكايات أذابت جسدها وهي ترويها، جعلتها تتلوى على المقعد المقابل، لا يفصل بيننا أكثر من متر واحد هو عرض المكتب الذي أجلس خلفه.. وتذكرت حكايات، كنت أتوقع أن تقولها، ولكن لم تفعل. وعندما تجسدت الصورة تماماً، لما كانت عليه قبل أكثر من عشرين عاماً، لا أدري، كيف تناولت القلم وبدأت أسجل على الورق، دون وعي لما أنا فاعل، كلمات الحكاية التي تلفظت بها بتؤدة: "دفن رأسه بين ضلوعي فاختفى وجهه خلف مرايا حرير الشعر وسنابل الأمل، اللذين أحالا السنوات الماضية إلى لحظة غير قابلة للفكاك أو التوقف على رصيف المشاة، بانتظار إضاءة اللون الأخضر من الإشارة الضوئية. آه..! وجاء الربيع على غير توقع يبحث في عتمة الأيام عن الخريف المقبل قبل سقوط أوراق الشجر وذبول الورود، فأطفأ في روحي كتلة الضوء المنبعثة من كوة السعادة التي أعيشها الآن لاحقاً وعندما ودعت آخر قطرات النبيذ المتبقية في الكأس، ومضيت تلتهمني نظرات الرجال كأنني الوعاء الأخير الذي تبقى على مائدة الطعام، يتحسر المتخمون على فراقه. وكنت مازلت أشعر بالرطوبة على شفتي، تذكرت قوله لي ذات مرة: إن شرب النبيذ من كأس الغرام متعة لا يضارعها الوقوف أمام لوحة فنية وتأملها في عزلة عن العالم تماماً! فأخذت أبكي حسرة على أفضل لحظات السعادة..".
عندئذ بدأت فعلاً تبكي أمامي، فتملكتني حالة من الوجد تمنيت أن أعتصرها بين ذراعي كي أخنق شريان الدموع الذي أفسد نقاء الوصف لمشاعر محبة، عاشقة، لا تقوى على الصمود أمام هذا التبدل.. تناولت بضعة أوراق من "الفاين" وبدأت أجفف دموعها، وأنا أقف خلف ظهرها، في الوقت الذي كانت فيه ما تزال جالسة وجسدها يهتز مع تساقط الدموع، وفي الوقت الذي شعرت فيه للحظة أنني بحاجة إلى من يواسيني ويجفف دموع القلب النازفة. وعرفت أنني عاشق على نحو ما!
تناولت ورق "الفاين" عن مكتبي في المنزل، استعداداً للتصدي لمحاولات عيني فتح قنوات الدموع على مصراعيها. عندها، انتابني إحساس غريب، وتساءلت: هل يمكن اعتبار هذه الحالة، اللحظة خيانة زوجية؟ لقد قرأت كل ما وقع تحت يدي من كتب علم النفس، فلم أجد مرة أيا منها يجيب على هذا التساؤل. غير أنني قرأت في إحدى الروايات عن قصة مماثلة، فيها يسأل الزوج زوجه عند نهاية الحوار بينهما: هل من العدل بمكان، محاصرة المشاعر الإنسانية عند حدود الزوجة؟ عندها أخذت في البكاء!
آه.. أيها الكون المعقد! كيف تجئ بكل هذا الحزن؟ كيف تقلب دفاتر الذاكرة وتحرك نسائمك أوراق المشاعر؟ تقف سدّاً منيعاً في وجه المحبين لحظة، وتجمع بين أقدارهم لحظة أخرى! وبين اللحظة واللحظة تفتح مجالاً لأجيال بالتحاب والتزاوج والإنجاب.
تفتح مجالاً للعشاق يتقيئون فيه أوجاعهم ثم يمضون بعدما تهرس أقدامهم عتمة القلوب الحائرة، في ليلة صيفية يتلظون فيها تحت سياط الحب والفجيعة! كيف لك أن تفعل هذا؟ كيف؟ كيف ؟!
كيف جئت بي إلى داخل الغرفة وحشرتني بين الأوراق شبه المهترئة، ثم أوصدت الباب خلفي ومضيت؟ تركتني فريسة بين سطور رسالة عفا عليها الزمن، كي تثبت أنك عندما تهمش شيئاً، تقدر على العودة إليه. لا يهمك ماذا يقال، وأي عذاب نكابد!

-2-

لم أخرج من مكتبي في المنزل في اليوم التالي.. قاومت بأعجوبة تدفق المشاعر، وتمترست خلف حاجز الرفض الذي تعرضت له عندما عرضت عليها الاقتران بي. وكان ينبغي الصمود في الخندق الأخير الذي حفرته رموشها في عمق القلب فأحالته إلى أوتار يصعب العزف عليها بعد عشرين عاماً..
أمضيت معظم الوقت وأنا أتفقد الأوراق القديمة، أقرأ في سطورها ما تلاشى من الذاكرة، وفي علبة الأقلام الْتمعتْ فجأة، صدفة كنت قد وضعتها بين الأقلام بعد أن تركتها عندما غادرتْ المكتب قائلة في دعابة لازلت أذكرها:
- احتفظ بهذه الصدفة، فهي آخر شيء أتركه لك!
خرجت في الوقت الذي كانت فيه الرسالة ما تزال على المكتب وبجوارها تجلس الصدفة. وعندما وصلت إلى الباب، ألقت نظرة أخيرة وقالت:
- لا تنسى الاحتفاظ بالصدفة، سأسألك عنها يوماً!
اغرورقت عيناي، وسألت نفسي في حينه: هل يمكن لي أن أنسى أنني طلبت منها الاقتران ورفضت؟ وهاأنذا اليوم، بعد مضي هذه السنوات، وبعد أن عرفت أنها تعيش فقط مع ابنتها، أجلس خلف المكتب، يداهمني السؤال: هل يمكن لها الموافقة على الاقتران بي فيما لو طلبت منها ذلك؟ غير أن الإجابة محاصرة بالتساؤلات التي تجر بعضها البعض: وهل هناك متسع من الوقت لنسيان الرفض لو تعرضت إليه؟ هل العمر يكفي لتكرار التجربة معها والسقوط إلى أعماق الجراح التي نكئت عندما رأيت ابنتها بنفس الصورة والعمر تقريباً، وعندما عرفت أنها وحيدة، ربما تكون بانتظاري؟
تأملت الصدفة، ومعها تذكرت قولها: "كنت أوهم نفسي بأن لحظة حب مؤقتة كفيلة بإذابة الجليد، في الوقت الذي لا تكفي فيه كل لحظات الحب الحقيقية لإصلاح ما تم إفساده.."
تناولت آخر قطرات النبيذ التي ما زالت عالقة في قعر الكأس المنتصب أمامي، فارتسمت ملامح شفتيها في وجه الصباح وأحلام الغد.. أصدافاً تطحنها أمواج البحر، تبحث عن خيوط حرير نسجتها ديدان القز، وأنهكها وجع الوحدة ومرور الأعوام.
ولما فقدتها، انطفأ نور الكوكب الذي أضاء روحي أسابيع متصلة، ولم أعد أعبأ بما يحيط بي من الحسناوات.. بات همي العلم ولا شيئ غيره.. ومع مرور الوقت تعايشت مع الأوراق، غدت أهم المفاصل في حياتي. عندها أتوقف، ثم أعاود السير من جديد. صار التفكير بتكرار التجربة ترفاً لا أقوى على الانغماس في حيثياته.. وكنت، كلما انزلقت عيناي على أنف يشبه المنجل في موسم الحصاد، اشتعلت النار في داخلي، وتذكرت من فوري، القرط الذي أثارني جداً القرط المتدلي من الأذن وهو يرسل بريقه على عيون تحلم بعقد يملأ مساحة الصدر كله، وببستان مزروع فيه كل ما تشتهيه النفس وتطمح بالاستظلال تحته، وبحبات العنب التي تعطي للحياة طعمها الخاص الذي يوازي التسكع على شاطئ مليء بالنوارس.
آه.. يا سلوى! هل لي من سلوى ونسيان، بعد أن دخلتي عليّ من الباب الذي لم استطع وصده على مدار العشرين عاماً الماضية؟ وإلى متى يمكن لي الصمود داخل الغرفة دون الخروج منها؟.
ولم أخرج في اليوم التالي.. لقد حاولت على مدار اليومين الماضيين إطفاء شمعدان المحبة في داخلي، ولكن لم أستطع، هجوم الفراش مع نجمة الصباح الأولى أحالني إلى عنقود عنب حافظ على نضارته المشروطة ببقائه داخل الثلاجة تحت درجة تبريد تكفل له عدم التلف، وغدوت أكثر ما أخشاه الخروج، لعدم ضمان استعداد يديك للاستفادة من التالف وتحويله إلى نبيذ ترتشفينه قبل وجبة عشاء شهية.
صمدت لليوم الثالث على التوالي، ولم أخرج، وقرأت كل الأوراق المبعثرة، المدفونة بين صفحات الكتب، علني أشغل نفسي عنها. وعند المساء، رن جرس الباب الخارجي للمنزل.. لم أعره اهتمامي.. ألح مجدداً.. تجاهلته، لعل القادم يتوقف ويمضي، بيد أنه استمر ملحاحاً، ومن بين صوته المغرد، سمعت من غرفة مكتبي المطلة على الشارع حديث دكتور زميلي يعمل في الجامعة في ذات التخصص يقول:
- لا يمكن له إلا أن يكون داخل البيت ما دامت سيارته تقف هنا.
وجاء رد سلوى عليه كما صوت الناي الحزين.
- السيارة مغبرة من التراب مما يدل على أنها لم تتحرك من مكانها منذ أيام..
صمتت، فيما استمر جرس الباب في الرنين.. ولما توقفت سمعتها تقول:
- يجب أن نفعل شيئاً يا دكتور! إنني أخشى أن يكون قد تعرض لنوبة اكتئاب جراء المفاجأة ويرفض الاستجابة إلى مشاعره..
عندها قالت ابنتها:
- سنمضي يا دكتور بعد أن نسمع صوتك، أنا واثقة من سماعك لكل كلمة نتحدث بها.. أرجو أن ترد علينا ولا تسمح لنا بالدخول!
ذهبت دون أي تفكير، إلى المفتاح الآلي وضغطت عليه.. انفتح الباب.. عدت إلى مكاني أصيخ السمع لوقع خطواتهم، في حين أخذ عقلي فجأة يستذكر إحدى القصص التي روتها لي:
- ركبت أمس مع سائق تاكسي، عندما غادرتك واكتشفت بعد أن قطع نصف المسافة تقريباً، أن النقود التي بحوزتي لا تكفي، وكنت أنت قد عرضت عليّ أن تقلني إلى البيت ورفضت، عندها تساءلت: لماذا رفضت؟ هل هو الخوف من أن يراني الناس اجلس إلى جوارك؟ هل هي التقاليد التي تحول دون تصرف الإنسان بحرية وبراءة؟ ولكن الوقت لم يكن كافياً لاستمرار التفكير في هذا المنحى.. المسافة تتقلص ويجب التصرف.. قلت في سري: أفضل الطرق لإصلاح الأمر، الدعابة.. وجهت كلامي للسائق: هل تعلم أن ما لدي من النقود ينقص القليل منها؟! ثم قدمت ما بحوزتي إليه، غير أنه رفض تناولها قائلاً:
- دعي ما لديك لديك !
- ازددت حرجاً، ولكن من أجل الخروج من المأزق قلت: ما لدي يجلب الحظ، ولهذا ينبغي أن تأخذها.. لا تترك حظك يذهب فربما لا يعود ثانية..
نظر إليّ ثم تناول النقود ووضعها في مكان آخر غير الذي يضع فيه ما يأخذه من الركاب، وأضاف معلقاً:
- إنها جميلة! ستبقى هنا ما حييت مادامت تجلب الحظ!
- ابتسمت له في الوقت الذي وصلت فيه إلى المكان الذي ينبغي النزول فيه.. نزلت دون أن أنظر خلفي..
اقترب وقع خطواتهم، وكان باب المكتب ما زال مفتوحاً بعد أن خرجت منه للمرة الأولى منذ ثلاثة أيام.. تحسست وجهي بحركة لا إرادية، وعرفت أن الشعر قد نما بغزارة.. توقف اقتراب الخطوات.. نهضت نحو الباب، وعندما صرت في منتصفه وجدتهم يقفون أمامي وجهاً لوجه.. تقدم الدكتور يصافحني.. تبعته سلوى، وفي أقل من لحظة كانت بين أحضاني؛ لا اعرف هل أنا من اجتذبها إلى صدره أم هي التي استسلمت للحظة، ترددت عن الإقدام عليها منذ عشرين عاماً؟ ولكن الشيء الذي أعرفه، أن رأسها اتكأ على كتفي ودموعها بدأت تتدحرج فوق صدري، في الوقت الذي أخذت فيه الابنة تتأمل مقدار الاشتياق. ولما ابتعدت قليلاً نظرت إليها ملياً، وكانت درجة التبريد قد ضمنت لعنقود العنب النضارة وعدم التلف، مما جعلها قريبة من صورة ابنتها رغم مرور عشرين عاماً.
تقدمت الابنة وصافحتني.. لم أقدر على منع نفسي من احتضانها مثل أب، قبل أن تتفوه بأيما كلمة. وحين بدأت تتحدث، تراجعت إلى الوراء نصف خطوة:
- انتظرتك في اليوم التالي في الجامعة.. لماذا تغيبت عمداً يا دكتور؟ إن الهروب من المواجهة لا يحل المشكلة!
- أي هروب وأي مواجهة؟
- انتظرناك أنا وسلواك في الجامعة على مدار الأيام الثلاثة الماضية، ولما لم تحضر، خفنا عليك من نفسك وآثرنا المجيء مع "الدكتور" إلى البيت حتى نخرجك مما أنت فيه..
ألقت نظرة على الأوراق المبعثرة داخل المكتب بعد أن كانت قد اقتربت منه إلى حد المواجهة، ثم واصلت الحديث قائلة:
- نخرجك من الأوراق التي نكأت عليك الجراح وأعادتك إلى الوراء عشرين عاماً، أفضل ما فيها جددت روحك وجعلتك تنطلق، في التفكير على الأقل، من المرحلة التي كانت فيها الحياة تستمر في التجديد رغم توقفها، وأنت تردد في سرك: خذيني يا سلوى، "لا تخافين مني أو من نفسك أو من الناس أو من المستقبل.. أرجوك.. دعيني معك. دعيني أراك. إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك.. إنني أعرف أن العالم ضدنا، فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟ لماذا الهرب؟.. فلا أنا ولا أنت نستحق أن نسحق على هذه الصورة"! فلماذا الهرب عندما علمت، أن بالإمكان إعادة بناء ما تم تدميره بفعل الزمن؟
- توقفت عن الحديث تماماً.. حاولت تبرير تصرفي. نظرت إلى سلوى، وكانت قد جلست على المقعد خلف المكتب، تتأمل الصدفة بين أصابعها ، شاردة الذهن كلياً. عندها وضعت شفتي على أذنها وقلت هامساً، دون وعي لما أنا فاعل:
- في هذا الجو البديع، وعلى مقربة من تماس الأحلام، تبين دون شك أن للبحر طقوسه، فيها يطحن المتعة ومعها الرياح وبعض النوافذ المغلقة في وجه الغد..
وعندما ابتعدت شفتاي عنها، اجتذبت رأسي.. وضعت شفتيها على أذني.. همست:
- لم أعد بحاجة إلى السؤال عن الصدفة!



#حبيب_هنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الراقص المقعد :قصة قصيرة
- قلعةلبنان تقتحم من الداخل
- قصة قصيرة
- خروب عسل-- قصة قصيرة
- أمريكا ..الذهاب إلى الانتحار
- ملامح استراتيجية جديدة بتكتيك قديم
- إسرائيل الخاسر الوحيد من الحرب
- إسرائيل.. رياح التغيير تخطف النوم والأمن
- قانا و-متلازمات جينوفيز-
- لبنان وحزب الله في طور التحول
- رسالة الى غسان كنفاني في الذكرى ال33 لاستشهاده
- -17-مازال المسيح مصلوبا
- مازال المسيح مصلوبا 15
- -13- مازال المسيح مصلوبا
- مازال المسيح مصلوبا 11
- مازال المسيح مصلوبا
- ما زال المسيح مصلوبا
- ما زال المسيح مصلوباً
- شهادة ابداعية


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - الحب الفجيعة :قصة قصيرة