أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - شهادة ابداعية















المزيد.....


شهادة ابداعية


حبيب هنا

الحوار المتمدن-العدد: 1054 - 2004 / 12 / 21 - 09:02
المحور: الادب والفن
    


من داخل البيت
أولاً القصة القصيرة :
هل تهيئ القصة القصيرة مناخاً مناسباً لتحرك الشخصية داخل مربع الفعل ؟
هل تمارس القصة القصيرة ـ الشخصية الرئيسية والثانوية ـ دورها في بناء الوعي الفردي والجماعي في غياب بلورة المجتمع بمعناه المكاني ؟
هل لخصوصية انتماء الشخصية الفلسطينية إلى مكان معاد دور فاعل في إلباس البطل ثوب المقاومة والمحافظة على الهوية من الضياع والدخول في متاهة الاستلاب والنفي كجدلية الصراع ؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير تتبادر إلى ذهن القارئ عندما تقع بين يديه العديد من النصوص القصصية الأولى لكتاب السبعينات في الأرض المحتلة، فتجبره على التوقف والاستعانة بمناهج التحليل المختلفة حتى يستطيع تصنيفها بالاعتماد على الثابت منها ( رغم تجاوز النقد لها) كي يقول كلمته وما إذا كان هذا العمل يرقى إلى مستوى الإبداع أم لا، من خلال معرفة الأدوات المستخدمة فنياً. ومن بين هذه القصص نختار نموذجين نتوقف أمامها، يجمعهما قاسم مشترك (زمن الإصدار ومقاومة الاحتلال ).
النموذج الأول: قصة " تلاميذ ولكن.. " من المجموعة القصصية " الدوائر برتقالية " الصادرة عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين.1991 للقاص والروائي عبد الله تايه . هذه القصة التي تحتل بجدارة موقعها المتقدم في سلم الإبداع القصصي، لم تأت من فراغ بقدر ما هي انعكاس للواقع الأليم الذي يتعرض له قطاع العمال من أبناء شعبنا الفلسطيني؛ ففي الحوار الذي يدور بين والد عبد السلام العامل الذي يصر على عدم الذهاب إلى مكان العمل أيام الإضراب وشلومو الإسرائيلي صاحب العمل، إنما يعبر بوضوح عن حجم الاضطهاد المزدوج الذي يتعرض له العامل:
ـ" هددني شلومو بالطرد من العمل ..
ـ لماذا يهددك بالطرد يا أبو العبد !!
ـ يطب مني الذهاب إلى العمل كل يوم .. قلت له لا أستطيع الحضور أيام الإضراب.. فقال لي:
-نم في ورشة الشغل..
-أنا لا أترك أولادي وحدهم.. ولا أشتغل أيام الإضراب
ـ اسمع يا أبو العبد يا إضراب يا شغل
ـ الإضراب إضراب .. والشغل شغل"
هذا الرفض للانصياع إلى مشيئة شلومو يأتي تأكيداً على استمرار الانتفاضة والالتزام ببرنامجها الوطني الداعي إلى طرد الاحتلال والتخلص من اضطهاده مهما كلف من ثمن، حتى وإن كان على حساب لقمة العيش. وهنا لا يفوتنا الحديث عن المكان المعادي الذي وجدت فيه القصة أرضاً خصبة لنموها في الفترة الممتدة منذ هزيمة 67وحتى قدوم السلطة الفلسطينية، ذلك أنه لا يجوز لنا القفز من فوق تلك الفترة وكأن الإبداع الأدبي بمختلف أجناسه لم يبدأ إلاّ عند تسلم السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور في أيديها، في وقت شكلت فيه أحداث الأعوام الماضية أساس نمو أبطال الأعمال القصصية والروائية عند العديد من الكتاب الذين وجدوا في الإنسان الذي يبيع قوة عمله للمحتل ممثلاً بصاحب العمل عرضه للاضطهاد والسلب المزدوج، مما خلق حالة من نمو الوعي الطبقي عند الكثيرين من الذين آثروا السير بخط متواز وباتزان مطلق بين السياسي والأدبي، أملاً في حصد النتيجة المتوخاة وصولاً إلى المكان الأليف، أو في الحدود الدنيا، المكان المحايد الذي لا يناصب العداء، علماً بأن الاغتراب جعل الأمكنة الفلسطينية ـ المدينة الإسرائيلية ـ قاسية ومخيفة وتبعث على الرهبة وغير مألوفة الجانب وتناصب الفلسطينيين العداء مهما ظهرت بثوب الألفة الأنيق.
وعندما نفتح المجموعة القصصية ـ دون اختيار ـ نشتم رائحة الانتفاضة وحنين الذات إلى التحرر وبناء الدولة المسلوبة . وليس غريباً أن يسجل معظم كتاب القصة في الوطن المحتل هذيان المرارة وطمس الذات عند حواف حراب جنود الاحتلال على أبواب الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش والتنقل من مكان لآخر سعياً وراء رغيف الخبز. هذا التسجيل العجيب الذي يضم أكثر من مئة ألف عامل ، عليهم التوجه صباحاً إلى أماكن عملهم عند المحتل بغية التحايل على ظروف الواقع الاقتصادي القاهر والتعايش الرمادي مع الظلم بانتظار اللحظة المناسبة من أجل الانقلاب عليه والتحرر من اضطهاده المزدوج .
وبعد، فإن المدقق في القصة وأبطالها يلاحظ التطور الأسلوبي عند القاص منسجماً تماماً مع تقنيات السرد الكلاسيكي وغير بعيد في الوقت ذاته عن الدخول في أتون الحداثة والتجريب الذي يتيح المزج بين الواقعية الثورية وأساليب النص الحديث.
النموذج الثاني : قصة " وردة بيضاء من أجل ديفيد " من المجموعة القصصية " الصبي والشمس الصغيرة " الصادرة عن اتحاد الكتاب الفلسطينية عام 1992 للقاص والروائي غريب عسقلاني . هذه القصة التي يتحدث فيها الكاتب عن الانتفاضة والواقع اليومي الذي يتعرض له الفلسطينيون على أيدي جنود الاحتلال من قتل وغاز مسيل للدموع وهراوات " تشذب " أطراف المنتفضين بعد إعلان " شارون "عن سياسة تكسير العظام، تأتي في سياق الدفاع عن شعار الانتفاضة من أجل دولة فلسطينية مستقلة ترتسم ملامحها على وجوه الأطفال الذين لا يبالون بما يتعرضوا له من بطش وقتل في سبيل الحصول على الحرية. ولكن أحداث القصة تعود بنا إلى علاقة الصداقة التي تربط " محمود " البطل ب " ديفيد " الجندي الذي جاء من المجدل المدينة الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948 ، بهدف القضاء على الانتفاضة وإحكام سيطرة الاحتلال على المواطنين الذين سئموا العيش تحت حراب السلب الوطني ونهب قوة عملهم لصالح تضخم قوة العدو .
في المواجهة التي تحتدم بين الأطفال وجنود الاحتلال في مخيم الشاطئ بغزة، يصوب " ديفيد " بندقيته إلى صدر " حسام " ابن صديقه " محمود " دون معرفة، فيتدخل الأب للدفاع عن ابنه الذي أضحى قاب قوس أو أدنى من القتل المحقق، فيعالج " ديفيد " بالحجر ويشج رأسه ويحول دون إطلاق الرصاص القاتل على حسام. وفي حوار داخلي ترتفع معه مستويات الدراما يتساءل محمود : " لماذا حسام من دون الأطفال ؟ .. ولماذا ديفيد من دون الجنود ؟ .. أهو القدر ؟ .. أهي الحرب .. ؟ ولكني وجدت نفسي بين جموع الناس، أذوب، أنصهر، هي الانتفاضة..!! " .
وفي موضع آخر يعود بنا الكاتب إلى طبيعة العلاقة التي نشأت بين محمود وديفيد وصولاً إلى المستوى الذي وصلت إليه من الزيارات العائلية وتبادل الهدايا في الوقت الذي يضعنا أمام صورة ديفيد المهاجر من أوروبا والذي يسكن في نفس المدينة التي كان يسكنها محمود قبل نكبة 1948. فيقول : " وعادت آخر النهار ترتدي الثوب المجدلاوي ، هدية من أمي وشالاً عربياً يزين رأسها هدية من هيفاء .. " في إشارة إلى زوجة ديفيد بالاسم؛ غير أن الكاتب يرمز في هذا الموضوع إلى سرقة العدو إلى تراثنا ونسبه إليه كي يؤكد أصالته غير المعترف بها محيطياً حتى ينسب نفسه للأرض التي ما زالت ترفض الاعتراف به ويصر أهلها على استمرار المقاومة ونيل الحرية.
ولا يفوتنا الإشارة إلى طوابير العمال الذين يبحثون عن رغيف الخبز بين عجلات ناقلة الجنود وحرابهم المسلطة على الرقاب من خلال الحوار التالي: " قال ضابط الدورية ملوحاً بالهراوة انزلوا العلم وانتظروا لما نرجع
ومضى .. وقال أحد العمال:
ـ نهار من أوله أخذنا الرزق: من بدري..
رد عليه آخر من خلال وجعه :
ـ ايش تتوقع من عدو... ؟ "
هذا الحوار يعكس مستوى السخط والغضب الذي يهيمن على المشهد الفلسطيني سعياً وراء المصدر الوحيد للرزق المغموس بالإذلال والضرب والتعريض بالعمال الفلسطينيين مقابل منحهم فرصة العمل المتاحة التي تعالج جوع الأطفال وتبقيهم على قيد الحياة بانتظار الفعل المقاوم القادر على تحريرهم من ربقة التبعية الاقتصادية والسياسة للمحتل. بهذا المعنى، الفلسطيني يحمل قروحه أينما ذهب. القروح التي لا شفاء منها مهما تغيرت الأمكنة وتعددت احتمالات التغلب عليها، فهي تسكنه سكون الروح في الجسد. إنها مرضه الدائم الذي ينتقل معه عبر الأمكنة والفضاءات وحتى المتخيل من الواقع الجميل، حيث لا وجود لوطن مستقر مؤسس على المدينة والاستقرار والحلم بالغد الذي يتيح النظر إلى أفق يطل على المستقبل الزاهي الذي يفتح أبوابه لكل مواطن طموح يسعى للمساهمة في البناء، دون وجود المكان الآمن الذي يعطي الطمأنينة ويشحن الروح بالانتماء.
وعليه، قد يأخذ البعض على هذا النوع من الأدب المباشرة، ولكنه في هذه الحالة لا يرى الشفافية الرمزية التي ترفض نسخ الواقع كما هو قائم أو تسجيله كما يتطلبه التأريخ، وأغلب الظن، أن الذين ينظرون لهذه الأعمال من قلب الحدث هم وحدهم الذين يأخذون عليها الانتماء للواقعية الثورية التي تنتمي بكل خصائصها إلى الدفاع عن الشعب وتنويره حتى يتمكن من الحصول على حريته وبناء دولته المستقلة. ومع ذلك ،فإن النظرة الإنسانية كانت واضحة في الثوب المجدلاوي الذي أهدته الأم إلى زوجة ديفيد بغية توطيد العلاقة والتعايش مع الواقع، الأمر الذي يؤكد أن الكاتب بذل جهداً غير مسبوق في إنتاج علاقة تتفاعل اجتماعياً بشكل طبيعي ومعقد في ذات الوقت، ترمي في محصلتها النهائية إلى البحث عن القواسم المشتركة التي تمكن من التعايش بمساواة ودون تمييز عرقي يتيح للقوي السيطرة على الضعيف والتحكم بمقدراته وقوت أطفاله.
ثانياً الرواية :
أحسب أن الرواية عند الغالبية من كتابها تستخدم نفس الأدوات التي تستخدمها القصة القصيرة حتى وإن طفا على السطح عند بعض المفاصل اختلافا يبدو للوهلة الأولى جوهرياً، غير أنه من الخطأ الاعتقاد بأن القصة القصيرة التي تعتمد على اللغة الشعرية والكثافة اللغوية يمكن لها أن تتطور من تلقاء نفسها بعد أن يضيق بها الثوب، بعيداً عن سطوة الصنعة والتدخل في نمو الأحداث وتطورها انسجاماً مع دور الشخوص وتصاعد فعلهم.
وأغلب الظن، أن معظم كتاب القصة القصيرة والرواية في فلسطين أثقلت إبداعاتهم الحالة الفلسطينية الوطنية المتميزة والتي لا يتسع هامشها إلى النظر من فوق أكتاف المشهد اليومي الذي يصيب المخيم والقرية والمدينة في صميم استقراره ويستبيح وعيه مما يحد من فضاء التأمل ويقلص بالتالي من مدى الرؤية واعتماد الإبداع الوسيلة الوحيدة نحو تجربة إنسانية غير مسكونة بالهاجس الوطني الملح، بعيداً عن قياس أدوات الإبداع بالمنجز الذي راكمته التجارب الإنسانية على مستوى القرية الكونية.
ولأن الحالة الفلسطينية مليئة باليومي والمباشر ، في ظل البحث الدائم عن المكان المستقر الذي يوفر مناخات إبداعية غير موجودة في الواقع الفلسطيني ، بحكم المواجهة المستمرة مع الاحتلال ، كان لابد من ابتداع صيغة تأخذ بعين الاعتبار مهمة الكاتب في الدفاع عن طموح الشعب بالتنوير والتحريض والمشاركة في الفعل المقاوم ، الأمر الذي أثقل الكثير من الأعمال على حساب تقنية الإبداع وحملها جهداً ينوء تحت ثقل تضاد المهمة المزدوجة ، مما أضعف جانباً لصالح الجانب الآخر ، وكأننا نكتب بهدف إفراغ شحنات نفوسنا على الورق ، في محاولة جادة للوصول إلى نهاية الطريق التي تحررنا من السجن في لحظات نحن أحوج ما نكون إليها حتى نحافظ على خضرة انتمائنا – للمشروع – الهدف من الكتابة ، مصطحبين شخصياتنا صوب البؤرة التي حددناها سلفاً كي لا نترك الحبر يسيل على الورق ثم يجف دون أن يؤدي غرضه الذي غالباً ما نسعى إليه في إطار المشروع الإبداعي المنحاز بوضوح إلى المجتمع المدني الديمقراطي الذي عليه يتم بناء الحاضر ومن أجله يتم التأسيس للمستقبل .
كل هذا لا ينفي وجود حالات متميزة سكنها هاجس الإبداع فأخلصت إليه وقدمت بالتالي أعمالاً ترقى لمستوى التصنيف وتجاوز القامات –الأسماء- المتعارف عليها . ربما لم يأت ذلك إلا بعد أن عرفت العلاقة التبادلية بين الأمكنة والشخوص والأحداث فاندفعت صوب رسم الهيكل العام لعمل روائي يؤسس لمدينة واقعية لا تسمح للمتخيل أن يسرق منها المكان الحقيقي أو يدمره على اعتبار أنه منافي لها بالتطور ويصعب بناؤه في إطار الواقع ألاحتلالي، الأمر الذي قادهم إلى تخوم لا يختارونها والى معان لا يرغبون في الدخول إلى تفاصيلها ، والى ألفاظ نصية تحاشوا مواجهتها خوفاً من الوقوع في براثن الفجاجة التي تفضي إلى الخطابية والمباشرة وما إلى ذلك .. الخ ..الخ ..
فكان العودة إلى تسجيل رواية النكبة عند العديد من الكتاب لا يعدو كونه هروباً للأمام يجنب صاحبه اتهام السلطة السائدة بالاعتداء على حقوقه بالبيع والتفريط وتحطيم حلم العودة إلى المدينة المسلوبة وعدم التنازل عن المدينة الأم التي ينظر إليها السياسي من وجهة نظر موازين القوى ومحددات التحرك المتاح ، في حين لا ينظر إليها الكاتب سوى من زاوية الحلم مهما بدا مزعجاً وغير قابل للتحقيق وفقاً للشروط التي تحكم التحرك السياسي في ظل الأوضاع الراهنة .
وعليه ، كان التفاعل الحذر مع المكان النسبي عند العديدين من الكتاب قد تم توظيفه بحرفية الروائي الذي يتقن استخدام أدواته ، مما أطل علينا بعمل إبداعي غاية في الجمال وروعة في البناء والسرد ، لاسيما وأن رئة المكان غير قادرة على التنفس الاجتماعي الطبيعي بسبب اكتظاظ المكان الجديد ـ المخيم ـ وما يحيط به من فراغ ، الأمر الذي غير طبيعة العلاقة بين الإنسان الفلسطيني الذي شرد عنوة من مدينته أو قريته ، بالمكان الجديد الذي أصبح فعلاً طارئاً على حياته وعمله وعلاقاته الاجتماعية والمحيط الذي ولد فيه وبنى أحلامه على مصباحه الكازي .
وهكذا ، لم تمس أعمالنا الروائية بعادات وتقاليد مجتمعنا ، بل اقتربت أكثر فأكثر من التغلغل في نفوس البشر من خلال جولات سياحية في بنيانها ، تتلمس مشكلاتها ، حتى تتمكن من اقتناص لحظة المفارقة وإطلاق ملكة الإبداع في عمل روائي لا يحبس في العقل حتى يصيبه الجفاف ، ولا تسيج عليه الأسيجة ويقاوم انطلاقه الحر المعبر عن حاجة المجتمع خشية من المجتمع نفسه .
هذه الأعمال الروائية الجميلة لا تنفي وجود أعمال أخرى دفعتها شهوة تقديس المكان إلى تحطيمه . إنها شهوة زائلة مثل كل الأشياء التي نبني عليها الحاضر بعد اقتلاعه من الماضي تحت مختلف المسميات : المحافظة على جماليات المحيط . إعادة صياغة إرث الآباء دون التفريط فيه . ازدياد عدد السكان بنسبة تفوق قدرة المكان على استيعاب التمدد الأفقي . استثمار أهمية الموقع وقربه من المركز .
ولكن الأعمال التي تماحك الواقع بهدف التقليل من أهمية تأثيره على المنتج الإبداعي الروائي ،لا تستطيع الصمود طويلاً شأنها في ذلك شأن الأشجار مع فصول السنة عندما تبدأ تغيير أوراقها مع رياح الخريف ، فلا تبقى صامدة سوى الأشجار التي لا تتأثر أوراقها بتعاقب الفصول .
وعلى العكس تماماً هي الأعمال الجدية : الطالب الذي ينتقل من المرحلة الثانوية إلى الجامعية يفرض رؤيته على الواقع الجديد ويطرح طموحه العلمي بين أيدي زملائه على حجر المحك . طموح مشروع يؤسس للاهتمام بالدراسة ويرفض الانفلات . انه الإنسان الذي يحاول بناء ذاته بالاعتماد على الذات ، تتعثر خطواته ، يكبو وينهض دون أن يحيد عن الهدف .
عادل الطالب الجاد الذي يسعى إلى الامتياز كي يحصل على المنحة الجامعية التي تمكنه من مواصلة التقدم صوب الهدف ، إنسان عصامي يتيم الأب يبغض الابتزاز السياسي ويعمل على إقناع أحد أصدقائه بترشيح نفسه مستقلاً في انتخابات مجلس الطلبة ويوفر له الدعم من العديد من الزملاء الذين اقتنعوا بالقضايا التي أثارها عادل فتبنوها .
يبني صرح سعادته على ضفاف روح الحبيبة وتعيينه معيداً في الجامعة ؛ وعندما تندلع الانتفاضة يرى ضرورة المشاركة فيها مهما كان الثمن . يقول لحبيبته عند لحظات الوداع التي يستصعب صياغة المقدمة لها : " أودعك ، الآن، بعد أن أعبئ مستقبلي في لحظة قرار جريء ، وأترك حلمنا الجميل بين يديك وفي عينيك اللتين أتركهما لآخر مرة وهما مغمضتان على أرق لحظة عرفناها منذ تعرفنا على بعضنا ! إذ من غير الجائز أن أترك أصدقائي القدامى ، وحدهم ينقذون الأمس، وهم يشاهدون الأطفال يحاولون صناعة اليوم ،وحيث لا يمكن بناء المستقبل إذا تخلفنا عن الذهاب إلى خطوط التماس .. أودعك بقبلة من شفتيك النقيتين الطاهرتين ، وألوث شفتي بسؤال أودعه عندك أمانة : لماذا يعطل معظمنا ذاكرته عن عمد ؟ ! " . هذا هو عادل أحد الرموز الذين يستعصي كسرهم في رواية حبيب هنا "حفريات على جدار القلب " يترك ما تحقق من أحلامه على أرض الواقع ويذهب صوب خطوط التماس كي يساهم في بناء الدولة الحلم التي مازالت تشهد الصراع اليومي الدامي مع العدو .
أما اختيار الجامعات الفلسطينية في مدينة غزة مسرحاً للعلاقات الإنسانية إنما يأتي في سياق صياغة جديدة لدور الجامعات السياسي والمجتمعي بغية التأسيس لنهوض ديمقراطي يأخذ على عاتقه التنوير والتخلص من شوائب وآفات المجتمع التي أخذت بالنمو مؤخراً ؛ سيما إذا كانت الجامعات تتسع للعلم والحب ، للعمل الاجتماعي والسياسي، للانخراط والمشاركة في الانتفاضة ورسم أفقها المفتوح على المدى وتحقيق مستقبلها الأكيد .
وبالعودة إلى معظم أعمال حبيب هنا الروائية ، حتماً سنجد العنصر النسوي كفعل روائي ، وأحد مكونات البنية الروائية وتصاعدها درامياً ، حتى غدت شاهداً على قدرته التغلغل إلى أعماق مشاعر المرأة ، والبحث في مكوناتها الاجتماعية والنفسية ، في خط يكاد يكون متفرداً فيه في ظل عدم إعطاء الكتاب الآخرين اهتماماً كافياً لحضورها على المشهدين : الثقافي ، والإنساني . ولم يكتف بذلك ، بل دفع بأنوثتها وتفاصيل علاقتها إلى دائرة الضوء ، فنسج من مكونها الغامض ، أحياناً ، ثوباً شفافاً لا ترتديه سوى من استطاع جسدها الانثناء والدخول فيه دون مساعدة الآخرين ، كأنها من بقايا ما زالت حاضرة في الوجدان ويشفع لها تقمص الأدوار وبراعة الأداء في عمل درامي متميز ، احتلال هذا الموقع بجدارة.
من هنا، فإن ما جاء في كتاباته عن المرأة يعكس الاغتراب عنها ، وعدم القدرة على النفاذ إلى أعماقها المبلورة في ذاكرته منذ أزمان بعيدة ، تضمحل أحياناً ، وتكون واثقة من خطواتها في الغالب .

ومن هنا أيضا ، جاء الروائيون الفلسطينيون من المخيم والقرية والمدينة يجمعهم قاسم مشترك : العمل على صياغة الهوية الوطنية بتقنيات روائية متصدين من خلالها للاحتلال الذي جهد على طمسها ومن ثم إلحاقها اقتصادياً كي يطحن قدرة التصدي لهذه المؤامرة فرادى ، فأبدع " غريب عسقلاني" (جفاف الحلق )، الرواية السيرة التي يرصد فيها لحظات النكبة وصولاً إلى ما آلت إليه الأمور بعد قيام السلطة لفلسطينية على الجزء المتاح من الوطن . وأضاف ، " عبد الله تايه " (قمر في بيت دراس )، الرواية التي يتحدث فيها عن النكبة وما وصلت إليه أمور المهجرين عنوة عن بيت دراس القرية التي ما زال يحلم بالعودة إليها رغم أن تاريخ ميلاده ينفي رضاعته من آبارها الارتوازية . وكذا الحال بالنسبة إلى " خضر محجز " في روايتيه : ( قفص لكل الطيور) و(اقتلوني ومالكاً )، تأتيان في ذات السياق . علماً أنني لا أتحدث هنا عن أيهما أفضل ، وهل وفق هذا وأخفق ذاك .
وأنا عندما أعرض لهذه الأسماء لا أفضلها عن سواها بقدر ما أطرح أمثلة استجابت بشكل أو بآخر إلى تسجيل رواية النكبة في مبادرة منها للمحافظة على الذاكرة الفلسطينية من الاندثار والتلاشي ، ولكن في الوقت ذاته ، لابد من الإشارة إلى أن رواية النكبة لا تعد الفضاء الوحيد الذي حلق فيه الروائيون وراكموا من الأعمال الكم الأكبر من إبداعهم بعيداً عن المناخات التي أضيفت على رواية النكبة ، في حين تم المحافظة على القاسم المشترك بين مختلف الأعمال الروائية : مقاومة الاحتلال وتحريض الجماهير .
لكننا لو جئنا على رواية "محمد أيوب ": ( الكوابيس تأتي في حزيران )، لرأينا حجم القتل والتدمير الذي تعرض له الفلسطينيون في هزيمة حزيران 1967 بهدف قتل أي أمل في الحصول على الحرية والمحافظة على الهوية من الضياع ، غير أن ما حدث لاحقاً يثبت فشل هذه السياسة ، ويؤكد في ذات الوقت قدرة الشعب الفلسطيني على الانبعاث من الرماد كالعنقاء ، فكان ، نوع شبابه ذو المستوى العالي للتضحية ، وأفواج المناضلين الذين امتلأت بهم السجون ، والأطفال الذين أشعلوا الانتفاضة الأولى ، صفحة ناصعة في تاريخ الشعب، ووصمة عار على جبين الاحتلال ، مما يؤكد أن الأدب الفلسطيني بمختلف أجناسه اشترك في المعركة جنباً إلى جنب مع البندقية والقنبلة اليدوية والحجر .
ومع ذلك لو أردنا الحديث عن الواقع الفلسطيني – كما تشاهدون القليل منه على شاشة التلفاز- بعيداً عن لغة الأدب وشروطه الفنية التي تحتم عدم الزج في الواقع إلى أتون الأدب ، لوجدنا أن ما كتب أقل بكثير من حجم المعاناة التي يتعرض لها الفلسطينيون ولم يتم تسجيلها بشكل يسمح لها بالتداول ؛حرصاً على تقنية السرد وشروطه غير المنصفة في هذا السياق.
وعليه ، فإن علاقة الفلسطيني الروائي بفلسطين المغتصبة المسلوبة ، هي علاقة متداخلة ، يكتب عنها وعنه ، من أجلها و أجله ، فتغدوا الوعاء الوحيد القادر على استيعاب مزج التراكيب الاجتماعية المتعددة ، المنصهرة في لغة مشتركة عبر عنها الأديب الفلسطيني بقيمه الجمالية ، فجاءت الرواية انعكاساً للواقع لا تنتمي سوى للشعب الذي يشكل أبطالها الحقيقيين .
هكذا ، جاءت مضامين أعمال "علي عودة "الروائية ، و"محمد نصار"، و"عمر حمش "، و"عون الله أبو صفية "، و"محمود الزعيم "، وغيرهم الكثير من الأسماء، لا أقف عندها بقدر ما أود الإشارة لها فقط ، لأنها تشترك في الأعمال الروائية التي يتحدث عنها البحث ، فتتكامل فيما بينها وبين العديد من الأعمال الأخرى ، الأمر الذي يؤكد خصوبتها في توليد الدلالات الفنية المركبة التي تنسجم تماماً مع محاولات الاحتواء وفرض التبعية الاقتصادية على الشعب الفلسطيني من قبل الاحتلال بهدف الإبقاء على هزيمته النفسية بعد أن عجزت الهزيمة العسكرية عن النيل منه .
على الرغم من كل ما تقدم ، فإن أسئلة الثقافة الإنسانية والعالمية لا تنقطع عن تصدر المشهد الثقافي العام للفلسطينيين ، بل أبعد من ذلك ، احتلت عقولهم وباتت هاجسهم الدائم ، المرافق لوجود الاحتلال وحالات القتل اليومي .
وبعد ، هل نرى فلسطين تسكن أهلها المقيمين والذين في الشتات ، كما سكنوها في معظم أعمالهم الإبداعية ؟
إنه السؤال المربك الذي حير أصحاب الإجابة القاطعة على مدار الوقت ، ولكن لابد من التعرف عليها ؛ فحين نرى وجه طفل يطل علينا من بين الركام، ونقرأ كيف تم استهدافه ، وحين تمضي فلسطين فينا ، وتسكن أوردتنا وعقولنا ، وتحكي حالة عشقنا ، وحين تجلس الصبايا على مقاعد الدراسة الجامعية القريبة من النوافذ المطلة على المشهد اليومي الغني بالأحداث الدامية ، وحين يفقد الشاب حبيبته ،أو زوجته ،أو ابنه البكر الذي لم ينجب سواه ، لا بد من البحث عن الرواية التي لم تكتب بعد ، ولكنها ستكتب حتماً؛ فحروفها تطل علينا يومياً بأحداثها الدامية.



#حبيب_هنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - شهادة ابداعية