أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - -17-مازال المسيح مصلوبا















المزيد.....


-17-مازال المسيح مصلوبا


حبيب هنا

الحوار المتمدن-العدد: 1071 - 2005 / 1 / 7 - 08:53
المحور: الادب والفن
    


تطلب فلك من عبد الله الذهاب إلى أمريكا من أجل إحضار كما ل قبل ضياعه !
لم يكن فرحاً عندما صعد الطائرة ، ولم يكن حزيناً . أحس، فقط ، بانقباض لا يعرف مصدره .
ورأى السفر ، لأول مرة ، تعباً إضافياً لا جدوى منه . وكلما ابتعدت الطائرة عن مسقط الرأس لاحت في الأفق احتمالات النهاية المحتومة . وبعيداً عن الارتباط بالوطن ، كان هناك حافز قوي يدفعه نحو التمسك والثبات : رؤية طريقة حكم الفلسطينيين لبعضهم وشكل الدولة التي بوشر في بناء أعمدتها !
الآن يستذكر بوضوح كيف خرج من المنزل وغادر ذاته متوجهاً صوب المدى الغارق في الضوء البرتقالي الذي يضفي على السماء سحره الخاص القادر على التغلغل إلى أعماق المشاعر مهما كانت جامدة . تترجل ذاكرته دفعة واحدة . تحمله قدمان عاريتان للسير وسط دهليز مغبر تعلوه الأتربة التي حملتها رياح الليالي الماضية . يسأل نفسه : كيف ولماذا يحدث هذا الآن؟
لحظة بطعم الفراق ولوعة الأسى ، تفصل بين مرحلتين ، الأولى تنوء تحت وطأة الهزيمة والقتلى والأطراف الآدمية المبعثرة. طائرات الحرب تهاجم المدفع الرابض خلف مستشفى النصر . تتناثر قطع اللحم والأطراف في فضاءات الهزيمة والركون للغيبيات والوعد الآخر . والثانية ، ترتفع جداراً منيعاً بين الكائن والممكن . وعلى الجدار ترتسم لوحة لرجل جالس خلف مكتب أنيق ، يضع على عينيه نظارة سوداء ويدخن سيجارته باشتهاء مفرط ، تلتمع عيناه وتتحركان في مختلف الاتجاهات كأن هاجس الخوف يطارده . يقول للرجال الذين يلتفون حوله بكبرياء فظ : عندما وطأت أرض الوطن لثمت التراب وركعت فوق الأرض أصلي ! لقد أصبح للثورة والشهداء دولة ! هل تفهمون ماذا تعني دولة ؟!
أقسم بصلواتي وقبور أجدادي ودماء الشهداء الذين حملونا على أرواحهم وحطوا بنا على أرض الوطن ، لن أتسامح مع أي واحد يحاول تدنيس هذا التراب أو يحط من مقدار تضحياتنا !
من نافذة الطائرة المحلقة في السماء ، يرى عبد الله ضباباً كثيفاً يلف الكون .
عندما كان يسافر ، فيما مضى ، لم يرَ مثل هذا الضباب. الطائرة تخترق الغابات وتتكسر تحت أجنحتها وصوتها الهادر فرص العودة بكما ل إلى حيث ينبغي أن يستقر . تركبه موجة حزن جارح ويستوطن عقله بقايا حلم تبدد . ماذا سيكون مصير فلك إن عاد إليها دون كما ل ؟
* * * *

الصباح قارس . شعر به كأنه المرة الأولى التي يسافر فيها إلى بلاد البرد والصقيع . تساءل في سره : ربما كبر السن فعل فعله وإلاّ كيف كان لا يشعر به قبل الآن . وفي الشارع ، تأكد أن البرد هذا الصباح غير مألوف عندما شاهد الناس والبخار يتصاعد من أفواههم . كانوا يركضون في الشارع بفوضوية بغية الوصول إلى أماكن عملهم المحاط بالدفء والقهوة الطازجة الممزوجة بالحليب .
ركض مثلهم ، ولكن باتجاه محطة الباصات الدافئة ، وفجأة ، توقف عن الركض . احتل الكلب الطريد الذي قتله البرد قبل أكثر من خمسين عاماً خلايا دماغه . لفظ أنفاسه الأخيرة على مرأى من الرجال والأطفال . كان برداً قارساً تساقط معه الثلج بغزارة لم يقطع حدته إشعال الغابات القريبة من خيام اللاجئين .
يتذكر الآن بوضوح ، كيف كانت الخيام منصوبة في العراء تحت سقف السماء الراشح برداً وثلجاً ، على مقربة من الغابات الحرجية وأطراف بيارات البرتقال ، ملتصقين بالظلام الرطب والمعتم الذي خلفه الرحيل وليالي الجمر بعد معارك لم تكن متكافئة .

كان طفلاً آنذاك ، وذكريات الطفولة أصدق من الكتب !
* * * *

عند العناوين التي يعرفها عن كما ل يتوقف عبد الله . يفتش ويسأل ، في المستشفى ومكان السكن وعند الأصدقاء وفي الحانات التي اشتهرت بفعل تردد الغرباء العرب عليها . وكانوا مغبري الوجوه ، ويهذُون بكلمات فقدت أصولها جراء الخمور التي ذهبت بالعقل ومسحت الذاكرة وغطت الأغشية وحللت الخلايا وأنهكت قدرتها على العمل بوظائفها الكاملة . وفي الشوارع تسلق الصقيع وعاش المنفى وسقط مغشياً عليه وجاءه من يقول : ارحل قبل الضياع . يكفي ضياع واحد .
ورحل ، وفي الطائرة يقترب منه رجل أنيق تجاوز العقد السادس ويهمس إليه بعد أن يسمعه يتساءل بالعربية ، ماذا عساي أن أقول لفلك ؟ :
- إلى أين أنت ذاهب ؟
لأول مرة لا يتردد في الإجابة . كان سابقاً يقول إلى إسرائيل. منذ اللحظة التي طلب منه الطبيب البريطاني أن يردد هذه العبارة كشرط لمساعدته وهو لا يستخدم سواها . أما هذه المرة ، فقد استنفرت حواسه شراستها واستحضرت ذاكرته كل المآسي التي شاهدها أو سمع عنها بما فيها المساعدة كشرط للشطب .
- إلى فلسطين .
ابتسم الرجل كطفل عثر على أمه أخيراً .
- ماذا بك يا رجل ؟
- منذ كنت شاباً لم أسمع هذه الكلمة .
احتار عبد الله في أمره ، سأل :
- هل أنت من فلسطين ؟
أوشكت غيوم الدموع أن تمطر عذاباً ولوعة ، والجرح العاصف حمل في طياته التحدي والاستسلام معاً ، في لحظة غريبة منفية عن نمو سياقها الطبيعي ومستحثات التكوين :
- نعم من فلسطين . من قرية أهلها بسطاء يقتسمون الخبز والزعتر وبقايا أمل . تركتهم منذ أكثر من أربعين عاماً بحثاً عن المال والعمل حتى أتخلص من حالة الفقر الذي شمل العائلة، غير أن الواقع لا يحب الأسئلة والتحذلق عليه . يحب الشخص العملي الذي لا يفوت فرصة دون الاستفادة منها .
جمعت مالاً لا حصر له . كنت شاباً وزنودي قوية ولم ألتفت إلى نفسي سوى في وقت متأخر . وكلما اشتد بي الحنين إلى الوطن والأهل والأحبة ، وجدت عذراً يبرر البقاء غريباً ، وحين دخلت دهاليز العقد السادس وما يرافقه من زيارة الأطباء وإجراء الفحوصات الضرورية ، كانت طقوس الوحدة لرجل أعزب قد ضيقت عليّ الخناق ونصبت في وجهي السؤال الذي تحاشيت مواجهته : ما فائدة المال في مرحلة متقدمة من العمر دون وجود الزوجة والأولاد ؟
ولكن أن ينتفع بها الأجنبي ، فهذا أصعب عليّ من فقدانها. لذا قررت العودة إلى وطني كي ينتفع أهل قريتي البسطاء بما جمعته من مال على الرغم من اللائمة التي سيصبونها فوق رأسي ؛ ومع أنني مقتنع تماماً أن غربتي لم تأت من فراغ ، ولا أنوي تعليقها على مشجب ليل العرب الدامس الذي نفونا إليه منذ الطفولة عن عمقنا الإستراتيجي ، ونفوا بالتالي أنفسهم إلى أعماق البدايات الأولى للعولمة ، عندما استسلموا لمعاهدة سايكس – بيكو وقبلوا بالحلول المرحلية ووساطة أصحاب مشاريع القضاء علينا ونهب خيرات أمتنا ومصادرة أحلامنا بالوحدة والتحرر . إلاّ أنني لا أعفيهم من مسئولية الكثير من الأمور والقضايا التي تخلوا عن دورهم فيها .
على أية حال ، ما زالت الأسئلة المخيفة تداهمني منذ قررت العودة : هل أهل قريتي سيتعرفون عليّ ؟ وهل أقربائي القلائل ما زالوا أحياء ؟ ماذا سيكون رد فعلهم عندما أضع بين أيديهم الثروة الهائلة التي جمعتها ؟ كيف يبددون الأموال التي لم يرهقوا أنفسهم في جمعها ؟
قد يكون وقعها عليهم خيراً ، وربما شراً . هذا الأمر يرهقني كثيراً ويدفعني نحو التردد .
صمت لحظة ثم تابع :
- أي حماقة تدفعني لسرد هذه الحكاية ومتابعتها رغم الحث الداخلي على التوقف عند كل كلمة !
قاطعه عبد الله فخاط قميص الصدفة الممزق ببراعة الطبيب الذي يخرج الأمعاء حتى يستأصل الجزء التالف منها :
- لا ذنب لك فيما حدث ، وما تنوي القيام به هدفه الخير . أما أن تحمل نفسك وزر الماضي والمستقبل وتصادر منابع إدهاش الحاضر الذي يتجلى تحت فجره روائع بداية تحقيق الحلم وبناء الدولة العذراء المفعمة بأفق لا يحده طموح ، فأنت كمن يخشى العمل حتى لا يقع في الأخطاء .
برقت العينان بالدموع . غالب إجهاشاً مكتوماً كمن يكظم غيظه . أغلاله الداخلية تكسرت فجأة وصعقه ميراث الاحتمال . قال وعيناه مصوبتان على النافذة :
- دائماً تتجلى أفراحنا بما يشبه الدمار ونحطم كل ما تقع عليه أيدينا !
حضر الوطن ، على متن الطائرة ، موجة على الشاطئ تتخلى عن الزبد !











-18-

غبطة عودة عبد الله إلى الوطن لم تكن مكتملة . ولم تكن فلك بانتظاره في البيت .
وضع حقيبة السفر عند المدخل وذهب إلى الكنيسة . بعينين معكرتين رآها ، وكان المسيح ما زال مصلوباً . وجهها شاحب وتضاريس الجسد بحالة خشوع طقوسي . رأته . تغير المشهد واحتار قلبها بين الرب والابن .
وفي طريقهما إلى البيت كانا صامتين . على نحو غامض استشعرت الأمر وقدرت فداحته . وعند المدخل أخذها البكاء . وكانت الحقيبة ما زالت في موضعها . من بين الدموع سألت :
لماذا لم تحضره معك ؟
- لم أره ، وعند البحث لم أعثر عليه .
- لا أحتمل . قلب الأم يحتله الابن البكر ، وعلى القلب أن يرحل حيث يسكن الابن كي يستقر الجسد ويتناغم مع نبض القلب .
- لا تعلقي قلبك في فضاء مكسوف يصعب فيه تقدم النور مهما تبعثر من ذرات الشمس المشعة صوب بؤرة الكسف .
- ولكن قلبي رآه قبل أن تراه عيناي .
- كل الأمهات كذلك ولكن لا يعذبن أنفسهن كما تفعلين .
من مضائق الخوف على فقدان الابن إلى أبد الآبدين وحتى حدود الأمل ، هناك خطوات ضرورية تستعصي على الإنجاز السريع : تجديد جواز السفر والحصول على الموافقة بدخول الأراضي الأمريكية وموعد إقلاع الطائرة وحجز التذكرة .
وخارج هذا كله ، هناك محاولات عبد الله الدؤوبه لثنيها عن السفر .
ومن انشقاقات العقل أو شفافيته تلتمع أفكاره :
- عليك تركه لفترة في عراء الوحدة وجوع البرد ، حتى يشتعل شوقاً فيحرق خيوط الاغتراب الدامس ، إذ من قدح الصوان تنبثق الشرارات ، ومن الذل تتفجر ينابيع التمرد !
وتمردت فلك ، في تلك الليلة ، على سنوات الحب التي ألهبت بسياطها روح عبد الله فجعلته ثملاً لا يقوى على الفكاك من سطوتها . أنوثة متجددة دوماً كمياه نهر الأردن .
حدثها عن الشخص الذي صادفه في الطائرة . عن الاغتراب وجمع المال . عن الحاجة إلى وطن يحتضن الشيخوخة والأحلام.
بكت على كتفه فصارت الدموع أنهاراً . جسدان متضامان منعكسان على جدران الغرفة بفعل الضوء والتوهج والرائحة . رائحة فقدان الابن البكر في شوارع واشنطن ونيويورك ومختلف الولايات الأمريكية . ومن الملجأ المقام تحت البيت قبل أكثر من أربعين عاماً سمع صوت الرصاص يتجدد .
- هيا بنا إلى السرير لقد اقتربنا من الفجر .
- لعلي كنت أحلم فسمعت صوت الرصاص ، ولكن لم أر الأطراف الآدمية مبعثرة !
وضعت ثالوث أصابعها على الرأس ثم الجهة اليسرى فاليمنى والبطن وهي تردد بصوت مسموع وخشوع مفزع :
- الأب والابن والروح القدس ، إله واحد آمين .







-19-

أمام الأعين وعلى مرأى المراقبين . في ساحات الفرح وتحت ظلال الاختلاطات . عند تخوم الإمكانية وبالقرب من شرايين القلب والنصب التذكاري للعابرين . باتجاه مسارب الريح وفوق تهاويم الغضب . رغم عمق الجراح وبياض الكلمات خارج مضارب الأسئلة ورمل صحراء البادية وزمن قطاف عناقيد العنب. مع رحيل الأحبة وجلجلة ضحكات الأطفال وسفر الأيام إلى حدود النهايات وخصوبة الحياة . وعلى أجنحة أرواح الشهداء كانت الدولة قيد الإنشاء والنهوض من بين الركام .
وكان عبد الله يستمع لزهرة مأخوذاً كأني به يقع عليها لأول مرة . تتحدث عن عبد العاطي كما لو أن الزمن توقف عند اللحظة التي تجلى فيها معنى الاستشهاد .
شاب في مقتبل العمر يحمل على راحتيه دروب الألم والتشرد ومقاومة الاحتلال . رجل جاء من شوارع مسكونة بالضياع والعشق ومنابت النكبة . تجاوز إيقاع الرعب وسجل اسمه خالداً في دفاتر المرحلة ، وكان طموحاً أن يرى لحظة الانتصار ، غير أنه يصل نهايته المحتومة في ريعان الشباب مخلفاً زوجة لم يمض على الاقتران بها سوى شهور معدودة تنجب له طفلة هي آخر ما تبقى من سيرته الكفاحية .
لقد حاول أن يكون شيئاً نافعاً عندما خرج من بين هزائم العرب المتلاحقة بغية ترميم الأزمنة الماضية وصياغتها بروح مقاتلة توقظ التصميم والإرادة من سباتهما حتى إحداث التغيير . ولكن كانوا له بالمرصاد . ومع ذلك نجح في تشكيل نواة الخلايا التي أخذت على عاتقها مواصلة المهمة والظفر بالنصر .
والآن ، البعض يعتقد أننا خرجنا من ظلمة الاحتلال البغيض ، أو على الأقل ، على وشك الخروج منه ، بعد أن دخلنا نفق المفاوضات ، غير أن الشمعة التي يتحدث عنها الجميع لم تكن عند النهايات ، لم يكن هناك شمعة أصلاً . كان وهماً صحونا عليه ونحن غارقون في بحيرة دم وفراشات تتخبط بحثاً عن النور.
باشرنا حكم أنفسنا . تحولت الثورة إلى ما يشبه الدولة ، وبدأ صراع السلطة والنفوذ والمصالح . سقطت الضحايا واستشرى الفساد والإفادة من المال العام للصالح الخاص . وغاب الوطن عن المعادلة كلياً . الأشخاص الذين كانوا يدافعون عنه فيما مضى ، لا هم لهم سوى النهب المتزايد لمقدراته . والذين أقسموا بصلواتهم وقبور أجدادهم ودماء الشهداء لم يبروا بأيمانهم . الذين لثموا التراب عندما حطت أقدامهم أرض الوطن لم يكن تيمناً بمقدار ما هو اشتمام لرائحة عطونة الدم فيه وذر ا لرماد في العيون .
بحزن ومرارة تواصل زهرة حديثها فيما عبد الله ما زال مأخوذاً :
مناضلون متقاعدون كانوا يوماً بريق الثورة ووهجها يتحولون الآن إلى متسولين بانتظار الإعانة الشهرية .
لقد حولناهم بفعل الروتين والبيروقراطية إلى ثرثارين تفيض كلماتهم بالشتائم والصخب وبحزن مفعم بالانكسار وفقدان الأمل في إمكانية تحسين أحوالهم مهما كانت النوايا حسنة .
إن أكثر ما أخشاه ، اقتفاء أثر الجزائر حتى النهاية ، فعندما كانت منارة مشعة وكعبة الحجيج ضد المستعمر شيء ، وبعد أن أصبحت دولة البيروقراطيين والفساد وتجارة الدم شيء آخر ، أنا لا أدافع عن الذين أغرقوا قبور المليون شهيد بالدم والوحل ، ولكنني أتساءل : من الذي أدخلهم هذا النفق وأغلق عليهم الأبواب؟ هل هي فكرة الديمقراطية وصناديق الاقتراع ، أم سلطة الثورة التي انحرفت عن ثورة التحرر من المستعمر وبناء الدولة الحديثة ؟
صحيح أن الناس في المعركة يختلفون عمّا بعدها ، ولكن هذا لا يعطيهم الحق في تدمير إرث الشهداء والأرامل والأيتام .
لماذا فساد النفوس ما زال قائماً ؟ ألم تشفع لنا دماء الشهداء وطهارة المرحلة ؟ كيف لنا الخروج من أصداف الماضي وتفشي السلبية إلى بناء الإنسان الجديد ؟
وهكذا ، المناضلون يدفعون ضريبة الدم بينما اللصوص يقطفون ثمار النضر . أليس هذا محل تساؤل ؟ لماذا يضحي الإنسان ما دام لا يجني سوى الألم ؟ خذني مثلاً : زوجة شهيد مع طفلة لم تر أباها ، يرحل بعد شهور من الزواج دون أن يطل علينا من يسأل هل أنتم بحاجة إلى أي نوع من المساعدة ؟ ولأن الشهداء ، عند ربهم ، إلى جوار الأنبياء والصديقين ، لم أقترن برجل آخر فهدرت أجمل أيامي ؛ إذ لا يجوز الاقتران بما هو دون الشهيد مكانة . وماذا كانت النتيجة ؟ لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال . ومع ذلك ، أهل القرية لم يتخلوا عني وجميعهم كانوا أهلي .
باغتها عبد الله وهي في ذروة المرارة والانفعال :
الحياة ليست نقية تماماً . الأطفال وحدهم يتعاملون معها بسذاجة ، أما الكبار فيعرفون أن هناك صراعاً قائماً ومستمراً ويحشدون قواهم من أجل مواجهة الأخطار وتحقيق التقدم . ومن يتمتع بالنفوذ لا يتنازل عنه كرماً وطواعية ، بل ينتزع منه انتزاعاً ، خاصة إذا كان نفوذه يصب في مصلحة الأقلية بينما الأغلبية يدفعون الثمن .
* * * *
الغسق يغرس مجدافه في الفضاء الرمادي وزهرة تنظر إليه وفي عينيها زرقة مضت . السنون ما زالت تسطو على الألوان وتتلف بعضها تبعاً للتقادم . وعبد الله كان يحاول عبثاً إشغال المساحة بين المدى والعيون بالرسومات التجريدية بعد أن داهمه الماضي بالحنين والأشواق ولحظات استعادة المفقود .
تعبره موجة الحقيقة الصادمة فيبكي نفسه على فقدان ما ليس له . الأيام الرتيبة تفقده شهوة الإيقاع المنسجم وتناغم الحواس. يرتبك أمام ذكرى عبد العاطي التي تطارد زهرة فيقول:
- إن تمسكك بحب عبد العاطي يعذبني ويغلق في وجهي أبواب الصدق والمناجاة !
كان طوال الوقت يكبح مشاعره . ولكن أن تسقط هذه العبارة بعفوية وفي هذا الوقت بالذات ، إنما يؤكد قسوة المدى الذي وصلت إليه حالة الالتباس وتغلغلها عبر مسام الروح ومخارج النطق ومداخل القلب . وفوق هذا يجعل انسياب العبارة حيادياً كنسمة صيف صباحية .
تعود برأسها إلى الوراء فيمر ربع قرن على صباها كأنه للتو، تقول :
- ليس بوسعي أن أكون زهرة متفتحة مرتين : الأولى لعبد العاطي والثانية لعبد الله . أرجو أن ترحمني !
- وأنا من يرحمني ؟
- بهذه الطريقة تعذبني وتعذب نفسك .
يمعن النظر ملياَ في الصخرتين اللتين ما زالتا صامدتين في وجه عوامل التعرية الطبيعية رغم العمران الذي أوشك على الوصول إليهما ، ثم يقول :
لا يوجد أمامي خيار غير التمسك بك حتى وإن كان في ذلك عذاب لا يحتمل !







-20-

ينظر عبد الله تارة إلى الصخرتين وأخرى إلى زهرة . يقول بغتة ، بعد أن يعود إلى الوراء سنوات كثيرة مضت كمن يحدث نفسه :
فيما مضى (ويشير بيده إلى الوراء) كان احتفالنا الطقوسي المألوف يبدأ بعد أن يستحضر الليل عناصره المكونة : العتمة الدامسة ، ظلال تتكسر على الأرض والأتربة ، صمت الهدوء المدهش ، أصوات حشرات غير مرئية وزواحف تمارس لعبة القفز أحياناً ، نجوم في السماء تومض وبعض من نسائم الصيف الطائبة تدغدغ المشاعر ، وفوق هذا ، قليلاً من الفرح والمتعة .
يمعن النظر في الصخرتين ، ثم في تضاريس وجهها . تأخذه في عينيها وتغمره موجة الطفولة التي كانت فيتشبث بها ويواصل حديثه بعد جهد :
كنا آنذاك نقسم أنفسنا فريقين : الأول يقوم بجمع القواقع من بين الصخور التي تطل علينا في أعقاب انحسار البحر ، فيما يقوم الثاني بإشعال النار ومهام الطهو . وبعد تناول وجبة العشاء نبدأ اللعب غير عابئين بالعتمة ، بل بعضنا كان يستظل بها من أجل الاختباء عن أعين الآخرين .
يضع رأسه بين يديه ، فجأة ، ويخيم الصمت .
تسأل زهرة :
ماذا بك ؟
باكتئاب يقول :
كانت طفولة مملوءة بالمرح والحيوية وعدم التفكير بالغد !
- كل الأطفال يعيشون هذه اللحظات .
- أطفال اليوم محرومون منها . نادراً ما نرى الابتسامة على وجوههم . يحملون هموم الغد على أكتافهم كأني بهم لا يعيشون اليوم والأمس .
- دعك من هذه الأمور الآن وقل لي : متى ستأتي إلى هنا بصحبة فلك ؟
هوى السؤال على رأسه كالمطرقة . ماذا بوسعه أن يقول ؟ وهل الصمت يبقى صامداً كحصن أخير عندما تداهم المشاعر أمواج الصقيع ؟
- منذ زمن ، تجردت من نفسي فلم أعد أستحقها !
* * * *

أطبق الفخ الفولاذي على المساحة المتاحة للحركة فزاد أغلال الحياة وتعقيداتها ، وضيق الخناق على احتمالات الإصلاح وتلاشي السلبي وبناء الإنسان الجديد .
يا للغرابة ! كلما لاح في الأفق بصيص أمل تطفئه الارتباكات وعدم الثقة في الخطوة المقبلة .
تنظر زهرة إلى عبد الله وتلامس يدها الصخرتين ثم تتحدث بمرارة وشجون بعدما ينتصب السؤال في وجهها فتلقي به على أعتاب المرحلة كي يصبح قيد البحث :
- ماذا فعلنا للعائلات التي غالها الجوع بعد فقدان رب البيت ؟
كلنا شاهدنا معظمها وهي تحمل على أكتافها الأكفان وتتجه إلى المقابر ، ماذا فعلنا لها ؟ وما هي النتيجة ؟ دفعنا بعض النقود ثمناً للقماش حتى نحصد ثوب الآخرة . ثم ماذا ؟ وقفنا في المناسبات وهتفنا عاش الوطن بصمود أبنائه .
قد تستغرب حديثي ولكن عندما أقوله تجتاحني نوبة من الحرج ، بل عندما أتذكر بعضاً مما شاهدته ألملم أطراف نفسي وأطويها كأسمال بالية أنهكتها العازة والحرمان من أبسط حقوق الحياة والصمود في وجه البطش والطغيان .
والآن تقف كل هذه العائلات أمام السؤال الموشك على الانفجار : هل يعبئون الوطن في حقائبهم ويرحلون أم يعبئهم الوطن في حقائبه ويصر على التمسك بهم ؟
حتى هذه اللحظة ليس هناك ما يشير إلى إمكانية التفاعل الإيجابي الجاد بما يكفل بناء الدولة الحديثة والإنسان الجديد ! بعضهم يقول : الوطن الذي لا يوفر لي الكرامة والحماية ليس وطني . إنه مسجل بأسماء المزورين في كل الدوائر الرسمية ونحن لسنا منهم . وطننا الحقيقي لم يتحرر بعد !



















صـــدر للـمــؤلف



الحرب الخامسة والخلفيات السياسية 1983
الطريق إلى رأس النافورة مجموعة قصصية 1984
الحائط مجموعة قصصية 1993
صليب العاج مجموعة قصصية 1996
غربة الوطن 1998
هرم كنعان رواية 1999
سنوات ملتهبة رواية 2000
الانتفاضة .. العشيقة .. الزوجة رواية 2002
حفريات على جدار القلب رواية 2003



#حبيب_هنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مازال المسيح مصلوبا 15
- -13- مازال المسيح مصلوبا
- مازال المسيح مصلوبا 11
- مازال المسيح مصلوبا
- ما زال المسيح مصلوبا
- ما زال المسيح مصلوباً
- شهادة ابداعية


المزيد.....




- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - -17-مازال المسيح مصلوبا