محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8351 - 2025 / 5 / 23 - 16:08
المحور:
قضايا ثقافية
مقدمة
يمثّل الشاعر اللبناني هنري زغيب ظاهرة أدبية ذات طابع ميتافيزيقي وشاعري في آنٍ معًا. فقصائده، وإن بدت في ظاهرها وجدانية ورومانسية، إلا أنها تحمل في عمقها رؤى فلسفية تأملية تتناول الإنسان، الزمن، الموت، الحب، الوجود، والعلاقة مع الآخر.
إن هذا البحث يحاول تسليط الضوء على الأبعاد الفلسفية في شعر زغيب، من خلال استقراء بعض النماذج الشعرية التي تنمّ عن انشغالٍ بالأسئلة الكبرى، وتأملات تتجاوز المباشرة نحو الدلالات الرمزية والمجردة.
أولاً: هنري زغيب – الشاعر والوعي الفلسفي
ولد هنري زغيب عام 1948 في جونيه – لبنان، وتتلمذ في بيئة ثقافية متعددة اللغات. جمع في تجربته بين الأدب، الفلسفة، الترجمة، والمقالة الفكرية. يظهر في كتاباته نزوع نحو التأمل الميتافيزيقي، خاصة في قصائده النثرية التي تُعبّر عن معاناة الكائن أمام عبثية الوجود، وتوقه إلى المطلق والخلاص، وهذا ما يُقرّبه من تيارات الشعر الفلسفي التي نشأت في أوروبا ما بعد الحداثة.
ثانياً: مفهوم الزمن والعبور في شعر هنري زغيب
الزمن ليس مجرّد لحظة متدفقة عند زغيب، بل هو كائن معنوي يلبس وجوهًا متعددة. ففي إحدى قصائده يقول:
"كلما ضاق الوقتُ بي،
كنتَ أنتَ ساعتي الوحيدة..."
إن الزمن هنا ليس مجرد قياس آلي، بل إحساس وجودي مرتبط بالمحبوب. يُعيد زغيب تعريف الزمن من منظورٍ أفلاطوني: فالمطلق لا يُقاس بالساعة، بل بالحضور الداخلي.
وفي موضع آخر، يكتب:
"أركض في ساعةٍ لا تَعدّ،
أهرب مني، إليّ،
ولا أصل..."
هنا، يعبّر عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يعيش صراعًا وجوديًا مع لحظته، في تجلٍ واضح لنزعة هيدغّرية: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي "يُلقى" في الزمن وهو واعٍ لفنائه.
ثالثاً: الحب كمطلق أفلاطوني
الحب عند هنري زغيب ليس علاقة دنيوية محضة، بل تجربة كونية تتجاوز الجسد إلى المعنى، وفي ذلك يقول:
"أنتِ لستِ امرأة،
بل المعنى الذي به تكتمل النساء."
في هذا النص تبرز ثنائية المادة والمعنى، والجسد والروح. هو لا يرى المرأة كجسد بل كمطلق، أي كمثال أفلاطوني للأنوثة. بهذا المعنى، يصبح الحب انعتاقًا من الواقعي نحو المتعالي.
وفي قصيدة أخرى:
"كلّ النساء نساء... إلا أنتِ.
كلّ القصائد شعر... إلا فيكِ."
يُحيل هذا البناء اللغوي إلى فلسفة "الاستثناء الوجودي"، حيث المحبوبة تُختزل فيها مفاهيم الوجود والمعرفة والجمال.
رابعاً: الموت والعدم والخلود
من أبرز الملامح الفلسفية في شعر زغيب انشغاله بالموت بوصفه معبرًا نحو الخلود، أو لقاءً مع الذات العميقة:
"حين أموت، لا تبكِ،
ابتسم... لأني وصلتُ."
هذا التناول غير التقليدي للموت يقلب المفهوم السائد: الموت ليس خسارة، بل بلوغ.
وهو بذلك يُقارب مفهوم "الموت كتحرر" عند الرواقيين، أو كـ"عتبة للتحوّل" عند نيتشه، حيث الفناء شرطٌ للبعث والولادة الجديدة.
خامساً: اللغة كشكل من أشكال الفلسفة
يولي زغيب أهمية للغة لا باعتبارها أداة شعرية فقط، بل ككائن فلسفي يُعيد تشكيل الواقع. ففي كثير من نصوصه، تكون اللغة شريكًا في المعنى، وأحيانًا تنقلب على نفسها في نوع من "تفكيكٍ شعري":
"أكتبُ لأعرف من أنا،
أخاف إذا صمتُّ، أن أموت."
اللغة هنا ضرورة وجودية، تُجسّد موقفًا شبيهاً بفلسفة مارتن هايدغر: "اللغة بيت الوجود". وهي أيضاً فعل وجودي كما في فلسفة بول ريكور، حيث اللغة ليست وصفاً للوجود بل فعل تأسيسي له.
سادساً: الغياب والحضور – جدلية الكينونة
ثيمة الغياب والحضور تتكرّر في معظم دواوين زغيب، ولا سيما حين يتحدث عن الوطن أو الأم أو الحبيبة. يقول:
"أشتاقكِ... في حضوركِ،
فكيف حين تغيبين؟"
هذا النص يُلامس الإشكال الفلسفي في علاقة الكائن بالآخر: هل نعرف الآخر حين يغيب، أم حين يحضر؟ الغياب يُولّد الوعي بالحضور، والحضور لا يُدرك إلا من خلال المقارنة بغيابه.
هذا يدفع بالشعر إلى آفاق ظاهراتية تُشبه تأملات ميرلوبونتي وسارتر في الوعي بالآخر.
سابعاً: الأمل والبحث عن الخلاص
رغم أن هنري زغيب يستبطن الكثير من القلق الوجودي، فإن نصوصه لا تخلو من الأمل. بل إن هذا الأمل يتحوّل أحيانًا إلى "عقيدة شعرية" تنشد الخلاص، لا عبر الحلول الدينية، بل من خلال الجمال والحب:
"كلما كتبتُكِ، تأكّدتُ أن الحياة ممكنة."
هنا تصبح الكتابة نفسها فعل خلاص، واللغة معادلًا فلسفيًا لفعل الخلق.
هذا النوع من الرؤية يضع زغيب في مصاف الشعراء الذين يعتبرون الكلمة وسيلة للانعتاق، مثل أدونيس أو محمود درويش.
ثامناً: نماذج مختارة من شعر هنري زغيب وتحليلها الفلسفي
نموذج 1 – قصيدة "إني كتبتكِ كي أشفى":
"إني كتبتكِ كي أشفى من وجعي،
فإذا بي في وجعي أكتبكِ أكثر..."
تحليل:
هذه القصيدة تحمل مفارقة وجودية: ما يُشفي هو ذاته ما يجرح. الحب والكتابة كلاهما خلاص وألم. إنه منطق الديالكتيك الهيغلي في أبهى تجلياته: الألم جزء من اكتمال الوعي.
نموذج 2 – قصيدة "صديقة البحر":
"أنتِ والموج واحد،
كلما دنوتُ، ابتعدتِ...
وكلما ابتعدتُ، اشتقتُكِ أكثر."
تحليل:
هنا تتجلى ثنائية الحضور/الغياب، وتلاشي الحضور في لحظة التحقق. إن المحبوبة شبيهة بالمطلق، لا يمكن الإمساك بها، ويُقارب زغيب هنا فكر إيمانويل ليفيناس في "الآخر الذي لا يُطال".
هنري زغيب وشعر الغزل
تميّز هنري زغيب بحسّ غزلي رقيق، يجمع بين الرومانسية الكلاسيكية واللمسة الفلسفية. لم تكن قصائد الحب عنده مجرّد وصف للعاطفة، بل تعبير عن دهشة الجمال والوجود الإنساني. في ديوانه "تقاسيم على إيقاع وجهك" مثلاً، يقول:
"تُطلين من شرفة الوقت
فتبدأ الساعة عشقي..."
وفي مقطع آخر من نفس الديوان:
"كأنكِ لم تولدي قبلي
ولا أنا عرفت الزمان قبل ابتسامتك."
وفي قصيدة "داناي... مطر الحب"، يُخاطب الحبيبة بلغة رمزية حالمة:
"أنامُ على ظلِّ صوتِكِ
لأصحو على وشوشة الغيمِ في إصبعك."
أما في إحدى تأملاته عن المرأة، فيكتب:
"هيَ لا تمرُّ، بل تُقيم،
لا تحكي، بل تُغنّي في صمتها،
لا تناديكَ، بل تسكنُكَ..."
وفي مقطع رقيق يمزج فيه الحب بالكون، يقول:
"أحببتكِ...
لأنني حين أحببتكِ
اتّسعَ قلبي حتى صار كوكباً
وكلّ العشّاق سكّانه."
هذه النماذج تعبّر عن نظرة هنري زغيب للحب لا كعاطفة آنية، بل كقيمة جمالية ووجودية، تنبع من الرؤية الكونية للشاعر.
خاتمة
يشكل شعر هنري زغيب مساحة فلسفية خصبة للتأمل في الإنسان، الزمن، الحب، الموت، اللغة، والكينونة. فهو لا يكتب من أجل المتعة الجمالية فحسب، بل ليقدّم موقفًا فلسفيًا شعريًا من العالم.
وتنطلق تجربته من قلب الشعر، لتبلغ حدود الفلسفة، متجاوزًا التوصيف إلى التأسيس، وإلى ما يمكن تسميته "بالشعر الفلسفي الوجداني"، وهو تيار نادر في الأدب العربي المعاصر.
المراجع
1. هنري زغيب – الموقع الرسمي: https://www.henrizoghaib.com
2. goodreads.com – صفحة هنري زغيب
3. لقاءات مع هنري زغيب على قناة "الميادين" و"المنار" و"الجزيرة الثقافية"
4. هايدغر، مارتن. "الكينونة والزمان".
5. سارتر، جان بول. "الوجود والعدم".
6. بول ريكور. "الزمن والحكاية".
7. أفلاطون. "المأدبة" و"الجمهورية".
8. قراءات في الشعر اللبناني المعاصر – مجلة الآداب البيروتية.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟