|
إلياس الرحباني... النغمة الثالثة في عائلة الإبداع
محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 17:00
المحور:
الادب والفن
مقدمة شاعرية في سماء الموسيقى اللبنانية، يلمع نجم إلياس الرحباني كجرسٍ ثالثٍ يُكمل تناغم الأخوين عاصي ومنصور، لكنه لا يذوب فيهما. هو النغمة المختلفة، المزاج المرح، اللحن الخفيف الذي يخبئ عمقًا، والابتكار الذي لا يعرف القيود. لم يكن مجرد امتداد لعائلة فنية عظيمة، بل كان صوتًا منفردًا ضمن تناغم الرحابنة، أشبه بآلة موسيقية خرجت من ذات الأوركسترا، لكنها تعزف نغمها الخاص. فيروز غنّت لعاصي ومنصور، لكنها رقصت مع ألحان إلياس، وابتسمت لصبيانيته الموسيقية التي خبأت نضجًا ساحرًا. إلياس الرحباني لم يكن فقط ملحنًا، بل حالة فنية تفيض بالحيوية، ضاحكة ومجتهدة في آن، أضافت إلى الموسيقى العربية لونًا لم يكن موجودًا من قبل.
النشأة والتكوين وُلد إلياس الرحباني في أنطلياس، لبنان عام 1938، في عائلة اختارت الموسيقى لغةً للحياة. كانت البداية مليئة بالإلهام، فإلى جانب والديه، كان الأخوان عاصي ومنصور يشكلان نموذجيّن موسيقيين عظيمين في العالم العربي، مما جعل إلياس ينشأ في بيئة تفيض بالإبداع. بدأ رحلته الموسيقية منذ سن مبكرة، حيث تأثر بشكل مباشر بمحيط العائلة الرحبانية التي رسمت له أولى ملامح هويته الفنية. تعلم إلياس أصول العزف على البيانو بشكلٍ احترافي، وانطلقت شغفه بالموسيقى نحو آفاقٍ أوسع. دراسته الموسيقية في لبنان والغرب أكسبته مهارات متقدمة في التلحين والتركيب الموسيقي. لكن رغم هذا التكوين الأكاديمي، لم يكن إلياس يسير على درب أخويه بشكل تقليدي، بل كانت له بصمته الخاصة التي ستنضج مع مرور الوقت لتشكل أحد أبرز ملامح التميز الفني في لبنان والعالم العربي. ومع مرور الأيام، وبفضل تأثير عائلته وحلمه الخاص، بدأ إلياس يصنع عالمه الموسيقي المتفرد.
الاختلاف في البصمة والأسلوب إلياس الرحباني، بالرغم من نشأته في بيتٍ موسيقيٍ غنيٍ، لم يكن مجرد تابعٍ لتقاليد العائلة الرحبانية؛ بل اختار أن يظل مخلصًا لموسيقاه الشخصية التي تحمل تميزًا واضحًا. كان أسلوبه بعيدًا عن معايير الأخوين عاصي ومنصور في استخدامه للألحان والمقامات التقليدية. فقد قاد إلياس تجربته الفنية نحو آفاق جديدة، فاختار الإيقاعات الحديثة وأساليب البوب العربي التي أصبحت في وقتها رافدًا جديدًا للموسيقى الشرقية، بعيدا عن الطابع الكلاسيكي الذي اشتهر به الرحابنة. تميزت أعماله الموسيقية بجوٍ مختلف، مليء بالإيقاع العاطفي والتجريبي، ما أتاح له الوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور. كما كان هو أول من بدأ بتجربة المزج بين الموسيقى العربية والغربية، مما جعله أحد رواد الموسيقى المعاصرة. ولم يقتصر تأثيره على الموسيقى فقط، بل أيضًا على الدراما التلفزيونية والمسرحية، حيث جلب أسلوبه الخاص في التأليف ليلائم متطلبات العمل الدرامي. إضافة إلى ذلك، كان إلياس دائم البحث عن أفكار جديدة، مبتكرًا في استخدام الآلات الموسيقية في غير سياقها التقليدي، مما جعل أعماله تُظهر تنوعًا وثراءً موسيقيًا عميقًا. بهذه الطريقة، شكلت بصمته الفنية المميزة علامة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية.
أعماله الموسيقية والغنائية أعمال إلياس الرحباني الموسيقية لا يمكن حصرها في قالب واحد، فقد امتازت بتنوعها وغزارتها، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الموسيقية في لبنان والعالم العربي. بدأ إلياس في صناعة أغاني خالدة تعد أيقونات في عالم الموسيقى العربية، حيث قدم لنا مجموعة من الأغاني التي تظل ترددها الأجيال على مر الزمن، مثل "حنا السكران" و"لعيونك" و"بدي دوب". هذه الأغاني لم تكن مجرد ألحانٍ جميلة فحسب، بل كانت محملةً بمشاعرٍ مرهفةٍ وأسلوب فني فريد يجعلها تلامس القلوب. وعلى صعيد التعاونات الفنية، كانت إلياس الرحباني حلقة وصلٍ بين العديد من الفنانين الكبار في الوطن العربي. فقد تعاون مع عمالقة مثل فيروز، صباح، ماجدة الرومي، ملحم بركات، سميرة توفيق، وغيرهم، وجعل من كل تعاون قطعة فنية فريدة تُضاف إلى أرشيفه المميز. كانت أغانيه دائمًا ما تحمل طابعًا خاصًا يعكس شخصيته الموسيقية المبدعة، سواء كان ذلك في ألحانه أو في رؤيته الفنية للعمل الموسيقي ككل. لم تقتصر أعماله على الأغاني فحسب، فقد أبدع إلياس في تأليف موسيقى الأفلام والمسلسلات، فصنع لحنًا لا يُنسى للأعمال التلفزيونية التي أصبح صوتها هو المرافق الأساسي للأحداث الدرامية، من أبرزها موسيقى "المعلم شاوول"، "العاصفة تهب مرتين"، و"رجل من الماضي". كانت موسيقاه في هذه الأعمال تلعب دورًا كبيرًا في نقل المشاعر وإضفاء عمقٍ عاطفي على الحكايات. علاوة على ذلك، لم يكن إلياس الرحباني مقيدًا بالحدود الجغرافية أو اللغوية، بل اتجه أيضًا نحو تأليف أعمالٍ موسيقية باللغتين الفرنسية والإنكليزية. فكانت أعماله الغربية إضافة جديدة إلى موسيقاه التي لم تقتصر على العوالم العربية فقط، بل تخطتها إلى الفضاء العالمي، ليُثبت بذلك أن عبقريته لا تعرف الحدود.
إلياس الرحباني والدراما التلفزيونية والسينمائية امتدت عبقرية إلياس الرحباني لتشمل عالم الصورة إلى جانب الصوت، فكان من أوائل من فهموا العلاقة العميقة بين الموسيقى والدراما، بين اللحن والمشهد. في زمنٍ كانت فيه الدراما اللبنانية تخطو خطواتها الأولى نحو الاحتراف، جاء إلياس ليمنحها بعدًا سمعيًا يرسّخ في الذاكرة، فجعل من الموسيقى شخصية درامية موازية للممثلين. من أبرز إسهاماته كانت الموسيقى التصويرية لمسلسلات مثل "المعلم شاوول"، "العاصفة تهب مرتين"، و"رجل من الماضي"، حيث تحولت مقطوعاته إلى رموز درامية حية، تُشير إلى أجواء القصة وتضخ فيها روحًا إنسانيةً مدهشة. لم تكن موسيقاه مرافقة للمشهد فحسب، بل كانت تسير معه، تتنفس معه، وتروي وجعه أو فرحه، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من السرد. كما لحّن العديد من الأفلام السينمائية اللبنانية والمشتركة، ومن خلال عمله على موسيقى الأفلام، أظهر مقدرته الفائقة على التقاط النبرة النفسية للشخصيات وتلوينها موسيقيًا. إن بصمته في الدراما اللبنانية لم تكن تجميلًا خارجيًا، بل مساهمة جوهرية في تكوين هوية المسلسل اللبناني، ورفع قيمته الإنتاجية والفنية. كان إلياس الرحباني يُدرك جيدًا أن الموسيقى لغة مستقلة لا تقل أهمية عن الحوار، ولذلك كتب للدراما موسيقى تتكلم، وتبكي، وتضحك... كما لو كانت هي البطل الحقيقي.
إبداعه في الإعلانات والتلحين الدعائي ربما لا يعرف كثيرون أن إلياس الرحباني كان وراء عدد كبير من الألحان الإعلانية التي أصبحت جزءًا من الذاكرة السمعية لجيلٍ كامل في لبنان والعالم العربي. ففي مجال الإعلانات، حيث تكون الثواني معدودة والكلمات مختزلة، أظهر إلياس عبقرية خاصة في خلق لحنٍ بسيط، جذّاب، ولا يُنسى. من خلال ألحانه للإعلانات، نجح في صنع جُمل موسيقية قصيرة تترسخ في الذهن فورًا، لدرجة أن بعضها ما زال يُتداول حتى اليوم رغم مرور عقود على بثّه الأول. لم يكن يتعامل مع الإعلانات كأعمال ثانوية أو تجارية بحتة، بل كفرصة لصياغة جمالية مكثفة، تُوصل الرسالة بلحنٍ راقص أو حنون أو طفولي، بحسب الحاجة. ساهم في تلحين العديد من الحملات الدعائية لشركات ومنتجات محلية وعربية، مقدّمًا ألحانًا لمنتجات غذائية، ومستحضرات تجميل، وحتى برامج تلفزيونية. كانت لديه قدرة خارقة على التقاط هوية المنتج وتحويلها إلى لحنٍ يناسبه، تمامًا كما كان يلتقط شخصية الممثل أو المطرب ويصوغ له ما يناسب صوته. بهذه القدرة على التكيّف، أثبت أن المبدع الحقيقي لا يتقيد بنوعٍ واحد من الفن، بل يستطيع أن يمنح الروح لكل شيء، حتى لحن إعلان مدته أقل من دقيقة.
روح النكتة والطرائف بعيدًا عن عبقريته الموسيقية، كان إلياس الرحباني يتمتع بحضور طاغٍ وشخصية محببة قادرة على إضحاك الناس بذكاء وسلاسة. اشتهر بروح نكتته السريعة وتعليقاته الساخرة التي كانت تضفي جوًا خاصًا على أي لقاء أو ظهور تلفزيوني له. لم يكن النُكتجي التقليدي، بل كان يستخدم خفة ظلّه لإبراز ملاحظاته الذكية حول الواقع والفن، بأسلوب لا يخلو من العمق. في برنامج ستوديو الفن، حيث جلس لسنوات كعضو لجنة تحكيم، أضحك الجمهور بمواقفه وتعليقاته المبتكرة. لم يكن قاسيًا على المواهب الشابة، بل داعمًا ومشجعًا، وكان يضيف نكهته الخاصة من خلال تعليقات مثل: "ما تغنيلي متل كأنك عم تغسل الصحون!" أو "غنيلي بصوتك مش بصوت المغني الأصلي!"، مما جعل حضوره محبوبًا من المتسابقين والجمهور معًا. ولم تخلُ مقابلاته الإعلامية من الطرائف، فكان يقلّد الفنانين بطريقة طريفة دون إساءة، بل كتقدير مرح لمواهبهم. ومن أشهر المواقف الطريفة، حين تحدث عن تلحينه لإعلان شهير قائلاً: "لحّنته وأنا جوعان، طلع اللحن من قلبي"، في إشارة ساخرة إلى ارتباط الإلهام بالحالة النفسية. بفضل هذه الروح المرحة، اقترب إلياس من الناس أكثر، وجعل الموسيقار يظهر بصورة الصديق القريب، لا النجم المتعالي.
وفاته وإرثه في صباحٍ حزين من كانون الثاني/يناير عام 2021، أسدل الستار على فصلٍ مُضيء في تاريخ الموسيقى العربية برحيل إلياس الرحباني، بعد معاناة مع مضاعفات فيروس كورونا. لم يكن خبر وفاته مجرد إعلانٍ عن فقدان فنان، بل بدا وكأنه صمت مفاجئ حلّ في وجدان الملايين الذين كبروا على ألحانه، وتأثروا بحضوره. كان غيابه خسارة موجعة لعشّاق الفن ولعائلة الرحابنة التي شكّلت ركنًا أساسيًا في الهوية الثقافية اللبنانية. لكن الأثر الذي تركه لم يمت، بل ظل حيًا في آلاف الألحان التي غنّاها الكبار والصغار، وفي موسيقاه التي رافقت لحظات الدراما، والإعلان، والفرح، والحزن في ذاكرة الناس. ترك أرشيفًا ضخمًا يزيد عن 2500 عمل موسيقي بين أغنيات ومقطوعات تصويرية، بعضها لم يُكتشف أو يُنشر بعد. كما ألّف موسيقى لأكثر من 25 فيلمًا ومسلسلًا، وأصدر مقطوعات باللغة الفرنسية والإنكليزية، مما يجعل إرثه عالميًا بامتياز. لقد عاش إلياس الرحباني باسـمًا، وصنع موسيقى باسمة، ورحل بصمت، لكنه لم يترك فراغًا... بل ترك موسيقى تملأ الأرواح.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السنباطي... الذي رفض الغناء كي لا يُقارن بأم كلثوم!
-
ظننتك ستهل علي هذا المساء
-
هذا المساء
-
كنت شقية
-
هكذا ترحل الفراشات
-
لنا لقاء
-
ثَمَّةَ بُعدٌ ثامنٌ للغُربة
-
زرياب الموسيقي... زرياب المخترع
-
فريدريك شوبان: شاعر البيانو وعبقري الألحان
-
طرائف فريدريك شوبان
-
موزارت... العبقري الذي عزف وهو يضحك
-
وليد غلمية: رائد النهضة السمفونية العربية
-
الأقليات في الشرق الأوسط بقلم جوزيف ب. شيختمان
-
فريدريك شوبان: شاعر البيانو وعبقري الألحان، محمد عبد الكريم
...
-
بيتهوفن: بين العبقرية والفوضى، محمد عبد الكريم يوسف
-
عبد الوهاب... والمزمار المكسور: طرائف الأسطورة الموسيقية
-
باخ: الأب الذي أنجب 20 عازفًا، محمد عبد الكريم يوسف
-
خصّص مساحة لنفسك، بيتر أتكنز، ترجمة محمد عبد الكريم يوسف
-
بيتهوفن... الذي صرخ في وجه الكون: -أنا لا أسمعكم!-، محمد عبد
...
-
طرائف منصور الرحباني، محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
-
كيف يغير الذكاء الاصطناعي بيئة العمل الصحفي؟
-
الوجه المخفي ل -نسور الجمهورية- في فيلم طارق صالح
-
-فنان العرب- يتعرض لوعكة صحية ويكشف عن حالته بعد اعتذاره عن
...
-
مهرجان كان: الممثل طاهر رحيم يفقد 20 كيلوغراما لأداء دور مدم
...
-
شاكيرا تتعرض لموقف محرج على المسرح وتعلق عليه (فيديو + صورة)
...
-
دور الرواية الفلسطينية كسلاح في مواجهة الإحتلال
-
الشتات الفلسطيني والمقاومة ضد التحيزات الإعلامية في أميركا ا
...
-
محمد سمير ندا: القلق هو الصلاة السادسة التي يصليها العرب جما
...
-
بالفيديو.. شاكيرا تسقط خلال أداء استعراضي على المسرح
-
إقبال غير مسبوق على حفلات الفنانة جنيفر لوبيز في كازاخستان
المزيد.....
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
المزيد.....
|