|
قراءة نقدية في المجموعة القصصية -ولع السّباحة في عين الأسد- للقصاص المغربي حسن ابراهيمي
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 04:52
المحور:
الادب والفن
"ولع السّباحة في عين الأسد": عندما تكتب الطّبقة المسحوقة أسطورتها.
منذ بدايات نشأتها، كانت القصّة القصيرة فنّا مُراوغا ومتمرّدا، يتغذّى على التوتّرات اليوميّة والانزياحات الحياتيّة، وتلتقط عدسته التّفاصيل الصّغيرة المنسيّة . في هذا الإطار، يجيء النصّ السّردي للكاتب المغربي حسن إبراهيمي كفعل لغوي حادّ، ينبش في الذّاكرة الجمعيّة، ويعرّي هشاشة الواقع، ويخوض بأسلوب بالغ الشاعرية رحلة نحو الإنسان، كما نحو العالم. في مجموعته القصصية "ولع السباحة في عين الأسد"، نحن إزاء تجربة سردية متدفّقة، تجريبيّة، وشعريّة، تتحدّى النمطيّة، وتجرؤ على تفكيك المسكوت عنه، وعلى إعادة كتابة المأساة من منظور الإنسان البسيط، المهمّش، الضحية. إنّ عنوان المجموعة ذاته يحوي مفارقة دلالية لافتة: "السباحة في عين الأسد" توحي بمغامرة خطيرة، باقتحام مركز الخطر، لكن أيضا بولع لا يمكن كبحه. هذا العنوان يفتح منذ البدء أفق القراءة على ثنائية الحياة والموت، على التوق للحريّة من جهة، ومهابة الفناء من جهة ثانية. إنّه العنوان الذي يلخّص جوهر السّرد عند إبراهيمي: رغبة عميقة في مقاومة القهر ولو وسط الجحيم، ولو في عين الوحش. تحمل قصص المجموعة الستّ عشرة ملامح فنّية واضحة، تنحو أحيانا نحو الواقعية الجريحة، وأحيانا أخرى نحو الغرائبية ذات الخلفية الفلسفية، لكنّها في الحالتين تسائل مصير الإنسان العربي في زمن الاغتراب، المنفى، ومحو الهويات. يتوسّل الكاتب لغة ذات نَفَس شعري متقد، تعتمد على الصّور المركّبة، والانزياحات البلاغية، لتوليد نصوص مكثفة وذات إيقاع داخلي يضاهي الشعر الحر. كما تظهر في هذه النصوص ملامح السيرة الذاتية، وأشباح الأمومة، والحنين، وطفولة مسحوقة، وقرى تُحاصرها الجرافات والغرباء، فتتحوّل الكتابة إلى فعل مقاومة واستعادة للكرامة. في هذه القراءة النقدية، سنحاول تفكيك البُنى الجمالية والفكرية التي تحكم هذه المجموعة، واستجلاء سيماتها الكبرى: الحنين، الأم، الوطن، المرأة، القرية، اللغة، الخوف، والأمل، كما سنتوقّف عند تقنيات السرد، وتوظيف الرمز، وأثر البيئة والهوية في بلورة عوالم الكاتب. ذلك أنّ حسن إبراهيمي لا يروي فقط، بل يشعل النار في اللغة، يحرّض الكلمات على الخروج من جلدها، وينحت من التجربة المأساوية أفقا جماليا يستحق الوقوف عنده.
1. "حماة الأرض": الأرض كفعل مقاومة لا كمجرد ملكيّة .
تفتتح هذه القصة المجموعة بوصفها مرآة كثيفة للهمّ الطبقي الفلسطيني-العربي، وتعيد تشكيل مشهد الأرض ليس بوصفها موردا اقتصاديا فقط، بل باعتبارها جوهر الانتماء الطبقي والجغرافي والروحي. العنوان نفسه استعاري مشبع: "حماة الأرض"، بما يحيل إلى صراع تاريخي حاد بين القابضين على الأرض وبين المستعمرين الجدد ـ أي بين الطبقة الشعبية الريفية وأدوات السلطة والاحتلال. "صفقت الشمس ترقص فوق الجبل تتعقب بقايا الظلام الدامس المنتشر في زوايا هذه القرية المثخنة بالجراح." هنا تُبنى الصورة السردية على عناصر التناقض: الشمس / الظلام، الجبل / الجراح، الرقص / النحيب. هذه الافتتاحية لا تُبنى على توصيف مباشر، بل على "استعارة ثورية"، حيث تتحول الطبيعة إلى فاعل سياسي. الشمس هنا لا تشرق، بل "ترقص"، كتعبير عن الاحتفال بالصمود، أو عن سخرية الطبيعة من المأساة. ويواصل السرد ربط الأرض بالأنثى، بالبيت، بالحياة اليومية: "كعادتها استفاقت من النوم باكرا، تفقدت أطفالها، هيّأت طعام الفطور، تفقدت زريبتها، ثم توجهت إلى الموقد، وضعت سكينا فوق الجمر، احمر السكين، وضعته فوق لسانها، طش، وتنبأت بمستقبل سيعصف بالشمس." هذه المرأة البسيطة تمارس طقسا غريبا من "العرافة الشعبية" عبر الجمر والسكين، وهو طقس مقاوم، صامت، لكنه ينبئ بالزوال القريب. إنها عرّافة الفقراء، التي لا تتنبأ بربح بورصة، بل بكارثة طبقية. في مشهد لاحق، تصبح الرحى معادلا موضوعيا للأرض: "أمسكت الرحى، رمقت أكفان الموتى، وشرعت تطحن..." الرحى تطحن الموتى. أي أن الماضي، الشهداء، الفقد، القهر... كلّه يُعاد عجنه ليصبح خبزا يوميا. يقول غرامشي: "كل مقاومة تبدأ من استعادة الناس لعلاقتهم بالمكان الذي يعيشون فيه." وهذا ما تفعله القصة ببلاغة جارحة. ثم يأتي مشهد الغزو الأجنبي للقرية: "أجنبي تفقد مصدر الجلبة، خرج من قاعدة عسكرية في المدينة المجاورة، وبسط نفوذه على أرض كانت لرعي غريق، اصطفت الحماقة بجبينه." هنا تنكشف الطبقية الاستعمارية: الأجنبي ليس فقط "غريبا" جغرافيا، بل طبقيا. والرد على هذا الغزو ليس شعارا، بل فعل جماعي شعبي: "فتح رسالة الماء، خاطب سكان القرية: نحن نقتات من زرع هذه الأرض... فكيف لهذا الأجنبي أن يسطو على أرضنا؟" ثم يأتي الرد الثوري: "فصاح شاب يافع: ينبغي الدفاع عن هذه الأرض كما تدافع الحيوانات عن صغارها في الغابة أمام الأسود المفترسة." الصراع الطبقي هنا يتموضع رمزيا في غابة: الفلاحون/الحيوانات في وجه "الأسد" الاستعماري. وهذا إسقاط سيميائي فذ لعنوان المجموعة. تروتسكي يقول: "الناس لا يُعرّفون بما يملكون، بل بما يدافعون عنه." وسكان هذه القصة يُعرّفون بالدفاع عن أرضهم.
2. "امرأة تنسج العزة": سرديّة المرأة كرافعة للطبقة وذاكرة للكرامة .
هذه القصة هي أيقونة المجموعة النسوية-الطبقية، وتضع المرأة في مركز التحوّل من الألم اليومي إلى فعل رمزي مقاوم. إنها لا تحضر كزوجة أو أم فقط، بل كجدار ثقافي يحمل الطبقة الشعبية من الانهيار. "إبهامات ترقص بأوتارها، الليل يعبث بدفوف جبب الفرقة..." الافتتاحية تشتغل على تشفير الحياة اليومية داخل بلاغة جسدية: "الدفوف"، "الأوتار"، "الجبب"، كلها أدوات صوت ولباس، لكنّها محمّلة بالثقل الرمزي للقرية – للمرأة تحديدا. ويظهر بعدها حوار أيقوني: الطفل يسأل: لمن ولماذا تغنون؟ أجاب رئيس الفرقة: نغني للوطن، نغني لنبعث الأمل في نفوس المقهورين." المرأة هنا جزء من "فرقة" تتجاوز الطرب إلى التعبئة الشعبية. الغناء ليس لهوا، بل وسيلة تعبئة رمزية. ثم نراها في أحد أعظم مشاهد القصة: "وضعت رجلها اليمنى فوق المدواس، فاستدار الزمان إلى الوراء..." المدواس أداة طحن، والمرأة لا تطحن فقط، بل تُعيد الزمان إلى الوراء. هنا المرأة ليست ذاكرة فقط، بل محرّك للزمن. إنها تعيد كتابة التاريخ، ضد السرد الرسمي. أنجيلا ديفيس تقول: "عندما تصمت النساء الفقيرات، فإن العالم يفقد ذاكرته." وهذه القصة توثيق رمزي لذاكرة النساء. ثم ننتقل إلى مأساة "الثريد"، حيث تتنقل من بيت لآخر لجمع الطعام، دون أن تحصل على شيء: "تتحسس الوعاء تجده مملوء، تعيد تحسسه فتجده فارغا، وهكذا دواليك..." مشهد ميتافيزيقي عن البؤس المعمم، و"التعب المجاني"، والمستقبل الذي لا يُولد.
3. "تجرّع لحظة الموت": الموت كطبقة، والأم كفلسطين/الطبقة العاملة .
من أكثر النصوص تفجيرا للوجدان، قصة تصف وفاة الأم لا بوصفها حادثا شخصيا، بل بوصفها سقوطا رمزيا للطبقة المنسية، تلك التي "تعالج بالنباتات"، و"تُجفف بدموع أبنائها"، وتموت على الحصير. "أصيبت بجنون، قالت جدتي. هوت على شيء حاد، دم غزير بدأ ينزف من عنقها." ثم يأتي التصريح: "أمراض تناوبت على نهش جسدها. لم تُتح لها فرصة للاستشفاء." هذا التجريد يكشف الطبقية الصحية، حيث الطب ليس حقا، بل امتيازا. الأم تموت لأن لا أحد يعالجها، لا دولة، لا مؤسسة، لا أحد. ثم نصل إلى ذروة المشهد: "كلما سكبت قطرات الماء في فمها، كلما فرغت رئتاها..." الابن لا يستطيع إنقاذها. الحب لا ينقذ من الفقر. وهذه مأساة العالم الثالث بأسره. فرانتز فانون يقول: "نحن نولد في استعمار، نعيش في استعمار، ونموت لأنه لا دواء للفقراء." والقصة تنتهي بالمشهد الذي يختزل العجز الجماعي: "لفت أمي في الكفن، وعدت أتلقى التعازي المصاحبة لحرقة لحظات الموت." ليس الكفن هنا ثوبا أبيضا، بل طبقة من القهر. الأم دفنت، لكن القهر لا يُدفن.
4. "علق بجوف القطار": القطار كرمز للاغتراب القسري والحياة على الهامش.
في هذه القصة يشتغل حسن ابراهيمي على تحويل القطار إلى رمز طبقي معقّد، يربط بين الهروب القسري، وفقدان المعنى، وتهشيم الحلم الجمعي. القطار هنا ليس مجرد وسيلة نقل، بل آلة اجتماعية ضخمة تسير نحو العدم، وتغتال الركاب رمزيًا. "علق حالك تسرب إلى شرايين القطار، جلف نبض رنينه، فتوقف القطار عن السير." هذا "العلق"، بوصفه طفيلًا، يتسلل إلى دم القطار، ويتوقف كل شيء. إننا هنا أمام استعارة مركّبة: العلق هو البيروقراطية، هو الاحتلال، هو السلطة، هو القهر... أي قوة خارقة تمتص روح المجتمع. فرانتز فانون يقول: "حين يصبح النظام هو الخلل، تصبح الحياة نفسها مرضًا." ثم تتحول المسافة من مكان إلى مسافة نفسية معقدة: "يتجول القطار من قرب أحوى، تلاميذ ببؤسهم يحطون الرحال بحثًا عن ضوء تلهمه الربابة." الأطفال، بصفتهم رموزا لمستقبل طبقي، لا يبحثون عن النجاح، بل عن "ضوء تلهمه الربابة"، أي موسيقى الشعب، لا ضوء المؤسسات. ويستمر السارد في تفكيك الوجع عبر مشاهد غرائبية: "سيارات تمطر توابل السكون، عربات الحقد تمتطي قرى بشرية وهي تصرخ." هذه القرى البشرية ليست مناطق سكنية، بل طبقات مسحوقة تنتقل من محطة لأخرى، لا تملك وجهة ولا مصيرًا. الصراخ هنا جماعي، لكنه بلا مستمع. أنطونيو نِغري كتب: "الرأسمالية الحديثة لا تقتل الناس دفعة واحدة، بل تنقلهم من موت رمزي إلى آخر." ويكتمل التشخيص الاجتماعي من خلال الطفل المولود وسط العاصفة: "فجأة صاح من تحت فخذيها: أمي، سوف ننتصر!" هذا الطفل هو نقطة الضوء الوحيدة. لكنه يهذي، كما يرد لاحقًا، في رسالة فنية موجعة: حتى أملنا معتوه في نظر السلطة، حتى صرخاتنا لا تُؤخذ على محمل الجد.
5. "عسس بذاكرتي": الكتابة كتمرد وجودي ضد آلة النسيان والقمع .
في هذه القصة نبلغ ذروة المجموعة فكريا: تتحول الكتابة نفسها إلى معركة، والكاتب إلى "عسّاس"، حارس للذاكرة الجمعية، الذي يرفض المحو: "دعوني أنقل لكم ما تداولته بعض الكائنات بشأن هذه القضية الغريبة." هنا يبدأ السرد من موقع خارج الزمان، وخارج النسق الصحفي أو الروائي. نحن في فضاء ما بعد الواقعية، حيث الكائنات تتحدث، والزمن دائري، والمكان خدوش. ثم يتعمق التحول في سرد دوافع الكتابة: "فكان الباعث على الكتابة شدائد: حيث أتناوب مع العناء للحفاظ على مساعدي للقيام بهذه المهمة." الكتابة ليست شغفا هنا، بل واجب طبقي، مهمة موكولة ضد الموت الرمزي، تماما كما عند غسان كنفاني حين قال: "الكتابة الحقيقية هي محاولة للبقاء على قيد الحياة." ويتابع السارد: "في الليل أستعد للزيارة، أزور أوجاعي، أناولها قسطًا من دمي..." هنا الكاتب يُنزف. لا يكتب، بل يُنزف، يحوّل وجعه إلى مادة كتابة عضوية. إنه لا يصف المعاناة، بل يؤديها. وهذا ما يجعله أقرب إلى المسرحي الثوري. سلافوي جيجك يقول: "كل سرد هو مقاومة، إن لم يكن كذلك فهو امتداد للسلطة." أمّا هنا فالسرد يعلن معركته بلا مواربة، ويختتم بجملة غاية في القسوة الرمزية: "عسس جديد، من الموت بعث، يتفقد ذاكرتي في كل لحظة، يزرعون الموت في النسيان." الموت يزرع في النسيان، لا في الجسد فقط. وهنا جوهر الفلسفة اليسارية في الأدب: أن ما يُمحى أخطر من ما يُقتل. أن النسيان تواطؤ، والصمت خيانة.
6. "ضر أصاب الفائقين": حين يُكافَأُ النضال بالخذلان .
تمثل هذه القصة نموذجًا مكثفًا لانكسار الحلم الجمعي وانهيار خطاب "الاستثناء"، أي أن الفائقين — أولئك الذين صمدوا في لحظةٍ ما، قاوموا، وواجهوا — لم تُتوَّج مقاومتهم بالعدالة، بل أُصيبوا بالخذلان. "رفض مصرا الثلج حاجز كان سفرنا أثناء مسيرتنا... لكنه بعد هنيهة تم الإعلان عن الإفراج عن كل الرهائن." المكان هنا غابة/جبل/ثلج/رهائن. أي فضاء رمزي يجمع عناصر الانكسار والاستلاب، حيث يُخطف الجسد وتُحتجز الإرادة، ولا يملك "الفائق" إلا أن ينتظر من يطلقه. ثم يأتي المقطع المفصلي: "الجوع الذي تلوك الحيوانات معضلة أفرزها النهار، يتصبب العدس عرقا، لقد كان نصيب بالحي قدر." العدس، رمز المأكول البسيط في الطبقات المسحوقة، يتصبب عرقا: صار هو الآخر يعرق من شدّة الجوع، وهذه استعارة ماركسية عن أن الجوع لم يعد خاصا بالإنسان بل بمواده الغذائية أيضا — فكل شيء يُستنزف. هربرت ماركوز قال: "حين يصبح البؤس مادة الحياة اليومية، يتحول الأمل إلى جرم يُحاسَب عليه." الفائقون الذين انتصروا في المعركة، انتهى بهم الحال فاقدين للبصر، يتضور أطفالهم جوعًا، وتسكن أجسادهم "رائحة الأسفلت" — أي انتماؤهم للشارع لا للبيت. فالقصة تُفكك فكرة النصر، وتعيد تشكيلها في سؤال فانوني مرير: هل يستحق الجسد الفقير أن ينجو بعد المعركة؟
7. "شمس في بطن الحوت": الاندحار في مدينة تأكل أبنائها .
عنوان القصة استعاري عميق. "شمس في بطن الحوت" تستدعي فورًا مرجعية يونس النبي، أي الذات التي تُبتلع داخل الزمن الظالم وتعيش في "المعدة المعتمة" للسلطة/المدينة/الرأسمال. والبطل "مطر" هنا، هو شاب مثقف، يحاول الدخول إلى نسيج المدينة، لكنه يواجه البيروقراطية، الإقصاء، والسخرية من ذكائه: "مطر تعجب من العشاء، ربت على كتف أمه: أماه، ما أحلى هذا العشاء! أجابت: راجع إلى هجرتي من زاوية بالغرفة إلى معمعان الغليان في غرفة أخرى." الأم نفسها تحوّلت من امرأة تسكن زاوية إلى طاهية تُغلي ذاتها من أجل أبنائها. الغرفة = مكان طبقي ضيّق. والغليان = اشتعال المطبخ الشعبي، وهو رمز للمرأة التي تحوّل الهمّ اليومي إلى صبر. ثم يُطرد "مطر" من أحلامه: "أدارت الشمس وجهها للنهار، وأقبل على نمط آخر للعيش." الشمس هنا رمز العدالة أو الوعد. وحين تدير الشمس وجهها، فقد مات الأمل. مطر لم يتورط في الجريمة، بل في طلب الشغل، لكنه يُقابل باللامبالاة: "توجه إلى المدير، استفسر عن عمل يمكنه من المكوث في المدينة، رد المدير بالنفي." المدينة تُغلق الأبواب في وجه "أبنائها الفائقين". فتتحول القصّة إلى نقد صريح للنيوليبرالية التي لا تحتفي إلا بالمربح، ولا تمنح الحظ إلا لمن يعيد إنتاج الآلة. جاك دريدا كتب: "ما لا يُدمج في السوق، يُطرَد خارج الأسوار." وبطل هذه القصة يُطرَد رمزيا رغم كفاءته. يلاحق "مقر صناعة التراتيل" – أي المؤسسات الدينية أو الرسمية التي تحفظ الوثائق – فلا يمنحونه سوى الصمت.
8. "الأرامل لا ينتحرن": الأمل النسائي كقوة صامتة للمقاومة الطبقية .
هذه القصة عمل بصري-رمزي مذهل، حيث تُعيد النساء الأرامل تشكيل المعنى الجماعي للحياة. القصة لا تكتب عن الموتى، بل عن من بقوا بعدهم — النسوة اللواتي "لا ينتحرن"، رغم أن العالم المحيط بهن لم يترك لهن سوى الركام: "زغاريد تزحف إلى وجدان كل أرملة يحتضنها الأمل المبطن في تخوم الاتقاد." الزغرودة ليست هنا طقسا فولكلوريا، بل صرخة طبقية مقاومة. الأرامل يَغنين، يَغزلن، ويصغين لأغانٍ تشتعل في دواخلهن، في نصف دائرة، كأنهن يعقدن "حلقة مقاومة". ويطرح الطفل سؤاله الجوهري: "قال الطفل الوديع لرئيس الفرقة: لمن ولماذا تغنون؟" وهذا السؤال وجودي بامتياز، فهو يعيد التفكير في وظيفة الفن، في معنى البقاء، وفي مغزى الغناء وسط الرماد. لكن الجواب أتى واضحًا: "نغني للوطن، نغني لنبعث الأمل في نفوس المقهورين." هكذا، يصبح الغناء فعلا سياسيا. المرأة تتحول إلى "سلاح جماعي ناعم"، لا يقاتل بالسلاح، بل بالثبات، بالجمال الشعبي، وبالموال. إيتيل عدنان تقول: "حين تغني امرأة مسحوقة، فهي تفجّر التاريخ من الجهة غير المتوقعة." والقصة مثال على كيف تبني النساء ثقافتهن المقاومة بعيدا عن مركز الخطاب، في الظل، عبر الأهازيج، الزغاريد، والفرح المُرّ.
9. "هسيس حلم تكوّم في وحل الارتداد": أحلام الطبقة المطمورة في وحل الانكسار .
هذه القصة تنهض على معمار بلاغي غرائبي مشبع بالرموز، لكنها تحافظ على نَفَس طبقي واضح، حيث تُصوّر الحلم الشعبي حين يُحبَس في جسد ميت، ويفقد بوصلة المصير: "عار حلم نبت في غير واد، تفتقد مكامنه أي إسعاف لجرحه." إنه الحلم الذي ينبت في غير أرضه، تماما كما تنبت الانتفاضات في أوطان لا تحتضنها، وتُجهضها القوى الرجعية. ثم تتجلى دلالة الانكسار السياسي في عبارة: "أقدام السجن تدمع كحزن الكلمات." السجن هنا لا يُعتقل فيه البشر فقط، بل تُسجن فيه الكلمات. والدمع لا يصدر عن العين فقط، بل عن "الأقدام"، أي حركة الجسد الشعبي التي توقفت. ثم تأتي الذروة البلاغية: "وجوهها ترتعش، ترتل الحبر في أفواه ذات غدر، بحجم سلة تقيد الأوجاع." إنها الجماعة الشعبية التي ترتل الكلمات ولا تملك قرارها، "تغني للغدر"، وتُحبس في سلة رمزية، أي في حاوية السلطة التي تحدد لها سقف الحلم. والتر بنيامين يقول: "حين لا تستطيع الجماهير أن تغيّر واقعها، تغني له بصوت محزون." وهذا ما تفعله شخصيات القصة هنا: تردد صدى الغدر، لا من فراغ، بل من ارتطام يومي بجدران الارتداد.
10. "كنس طُرر الزمن العصيب": الكتابة بوصفها تفكيكا للذاكرة وجلدا للذات الجماعية .
تعمل هذه القصة كنصّ تأملي سوداوي، يستدعي مناخ ما بعد الهزيمة الجماعية. "طرر الزمن" تشير إلى الهوامش، والكنس هو فعل تطهير، لكنّه تطهير للماضي المهزوم، لا للمستقبل. "كل استعارة لن تفلح في البحث عن مكامن الغموض." هنا يعلن السارد فشل البلاغة، فشل الشعر، فشل التجميل. لأن الواقع المعيش أصبح أشدّ هولًا من أن يُجمَّل. ثم يتابع: "هذه الأرض تغرد لنصب تذكاري، لا تنصت لكل جمجمة محمولة على الرياء." الأرض التي يُفترض أن تحتضن الحياة، باتت تحتضن الموتى. نصب تذكاري هنا = الدولة، أو المؤسسات الرمزية التي تُقدّم الموت في صورة "بطولة"، لكنها تظل معادية للحياة. الراوي يشعر بخيانة الكلمات: "في جوف الفراغ، أخون الكلمات، أثناء قذفها أصاب الصدأ." إنه "كاتب"، لكنه يكتب صدأً. فالكلمة — في زمن الانكسار الطبقي — لم تعد أداة للتغيير، بل عبئا. الكتابة نفسها تخونه. بيير بورديو يقول: "حين تنقطع الرموز عن جذورها الطبقية، تصير زخارف." وهنا، كل استعارة تصير "عاجزة"، لأن الدم يجفّ والذاكرة تصدأ.
11. "سعر حماقة الموت": العبث الوجودي للطبقة المهمّشة في معبد السلطة.
هذه القصة ذات نَفَس كافكاوي عبثي، تنطلق من مشهد سريالي: الراوي في "المعبد"، أي رمز السلطة/الدين/التراتبية، لكنه عاجز، منتظر، منسي: "أظل في المعبد واقفا، لا أستيقظ أبدا، جميع أشيائي لا تستيقظ." كل شيء هنا نائم، الزمن نائم، الذات نائمة. لأن لا شيء يمكن فعله. الوعي عاجز أمام الباب المغلق. ثم يتحدث عن نفسه بعبارات سوريالية: "أصل إلى البعض بالمستحيل... أختلط بآخر الليل... أظل دون وجه." "الوجه" في الثقافة الثورية = الهوية، الانتماء. والراوي "بلا وجه"، لأنه بلا طبقة، بلا موقع، بلا تاريخ معترف به. هو أحد أشباح الدولة النيوليبرالية. ثم تأتي صيغة الاغتراب الحادة: "يموت في مفترق الطرقات، لكنه لا يمكن أن يبقى دون شهية." إنه جسد مهمَّش، لا يعترف به أحد، لكنه يأكل. هذا تناقض الوجود الحديث: الفقير "يستهلك" لكنه لا يعيش. سلافوي جيجك وصف ذلك حين قال: "الفرد في الرأسمالية لا يُقتل، بل يُدجَّن... يعيش كزائد عن الحاجة." وهذا ما يفعله الراوي هنا: يقف، يضيع، ينتظر... بلا جدوى.
12. "قطوف ألم": حين تصير الأم هي الوطن، والطفل هو التاريخ المرتجى .
هذه القصة تجمع بين السريالية والوجدانية. تبدأ بمشهد من "السندان"، حيث يُعلَّم العصفور كيف يتحاشى الخطر — أي كيف يتعلم الطفل تفادي القهر: "على السندان كان يعلم العصافير كيف تحطات من دمعة." العصفور = الطفل. السندان = القسوة الاجتماعية. والمعلّم هنا هو التجربة القاسية. ثم نصل إلى مشهد الأم: "بالغرفة عتمة ترفرف، خطبة بالمنفى صمم عمامتها... كانت تستعد لزراعة الحبات." الأم هي القلب النابض للفعل الزراعي – الطبقي، هي من "تزرع"، "تخطب"، "تنسّق"، رغم المنفى، العتمة، والتهميش. وهذا هو جوهر الفكر اليساري في الأدب: تصوير المرأة الشعبية كفاعل وجودي/طبقي وليس ككائن ثانوي. ثم تتوّج القصة برمز الصندوق: "وجدوا صندوقا عجيبا يحمل قماش عزة، كانت النساء قد نسجن منه ظلًا للفراخ." القماش هنا هو التاريخ، النسيج الشعبي، المرأة/الأم التي تخلق "الظل" لفراخ لقلاق — أي أطفال الوطن المنسيين. وهذه استعارة عظيمة للحلم الثوري المؤجل. إدوارد سعيد كان يقول: "المنفى الحقيقي هو حين تتحول الأم إلى نسيج للحماية دون أن تكون قادرة على البقاء." وهذه القصة تتجلى بوصفها وداعا من الجيل القديم (الأم) إلى الجيل المكسور (الطفل).
13. مناخات القصص السردية: ترييف العالم، وأدلجة الحلم الشعبي .
تغوص نصوص حسن ابراهيمي في مناخات وجودية خانقة، تتكوّن من بيوت قروية مهجورة، غبار قطارات لا تصل، أجساد تتقيأ الحزن، نساء يطرزن الصبر فوق المغزل، وأطفال ينبتون من نوى الجوع. لا شيء مريح، لا شيء صافٍ. حتى الشمس تُعلّق، حتى الحقول تشهق، حتى الرحى تئن. "أمسكت الرحى، رمقت أكفان الموتى، وشرعت تطحن قطب الهادي..." (قصة "حماة الأرض") هنا لا تدور الرحى حول القمح، بل حول الموت. المكان نفسه يصرخ، يتفجر من الداخل. القرية، بصفتها مكانا طبقيا، ليست مجرد خلفية، بل هي شخصية درامية بحد ذاتها. في قصة "كنس طرر الزمن العصيب", كل شيء يُمسَح، كأن السارد يجرّ مكنسة التاريخ، يبحث عن أثر لكرامة مفقودة: "هذه الأرض تغرد لنصب تذكاري، لا تنصت لكل جمجمة محمولة على الرياء." الزمن لا يتحرك إلى الأمام، بل يركض إلى الوراء محمّلًا بالخيبة. وبهذا المعنى فإن مناخ المجموعة كله مأسوي على النمط الأرسطي – لا لأنه ينتهي بالموت، بل لأنه ينكشف دائمًا على اللاجدوى. كما يقول سارتر: "الجحيم ليس الآخر، الجحيم هو الانتظار." وهذا ما تمارسه كل شخصيات المجموعة: انتظار العدالة، انتظار القطار، انتظار الأم، انتظار المطر، انتظار الوطن. ولا أحد يجيء.
14. تطويع اللغة لتفاعلات النص الدرامية: كتابة تحت الجلد .
لغة حسن ابراهيمي ليست وسيلة بل فاعل درامي مستقل، تتوسّع وتنكفئ، تهمس وتصرخ، ترتجف وتصفع، بحسب الحاجة الدرامية. إنها لغة عضوية منخرطة في الحركة، لا تسرد الحدث بل تعيشه. في لحظة الموت في قصة "تجرّع لحظة الموت", تصير اللغة نشيجًا داخليًا: "سقيتها بماء الحياة، فإذا بالماء يفرغ، والرئة تلفظ." هنا يتحول الفعل اليومي – سقي الماء – إلى تشريح للحب في زمن الموت. لا توجد استعارات فائضة، بل كل مجاز يخدم اللحظة الدرامية. كل كلمة تختزن حمولة انفعالية. في قصة "علق بجوف القطار", تتسلل اللغة إلى ما يشبه نوبة ذهان جماعي: "علق كرأس أفعى، دب في العجلات، عربات الحقد تمتطي قرى بشرية وهي تصرخ..." الأفعى، العربات، الصراخ، كلّها تتناسل من بعضها في انفجار رمزي يُجسّد انهيار الإيقاع الوجودي. وهنا يتقاطع الكاتب مع تجربة خوسيه ساراماغو، حيث تسيطر اللغة على السرد لا العكس. بول ريكور يقول: "اللغة التي لا ترتجف، لا تُقنع." ولغة حسن ابراهيمي ترتجف من أول صفحة إلى آخر سطر، لأنها تسكن في ذات الراوي وتخرج من فمه كدم نازف.
15. جماليات التصوير الكتابي: السرد بوصفه فنا تشكيليا طبقيا .
ينتمي حسن ابراهيمي إلى سلالة الرسامين السرديين. فهو لا يكتب "حكايات" بل يرسم لوحات، يترك القارئ يتأملها كما يتأمل لوحة غائمة الألوان، يحدّق في الشقوق، في العتمات، في الظلال. في قصة "امرأة تنسج العزة", نقرأ: "وضعت رجلها اليمنى فوق المدواس، فاستدار الزمان إلى الوراء..." المدواس هنا أداة طحن يومية. لكنها في لحظة شعرية فائقة تتحوّل إلى محرّك زمني رمزي، تقلب الزمن. ليست صورة رومانسية بل صورة نضالية: المرأة التي تجرّ العالم من رماد الذكريات. وفي قصة "شمس في بطن الحوت", تتخذ الصور شكلًا سرياليًا: "أدارت الشمس وجهها للنهار..." "أكلوا معه عشاء أخيرًا طريًّا مبخّرًا بالبخار..." كل لقطة محمّلة بالدخان، بالفقد، بالانسحاب. الشمس هنا ليست جرمًا كونيًا، بل سلطة إلهية هجرت المهمّشين. وكل وجبة هي "العشاء الأخير"، لأن كل لحظة هي تهديد بالمحو. رولان بارت كتب: "الصورة الشعرية هي ما يجعل العالم مرئيا لا بما فيه، بل بما نريده أن يكون فيه." وابراهيمي يجعل العالم مرئيا عبر فوضى الرماد، بؤس التهميش، ودهشة الإنهاك.
16. خلفية الكاتب الإبداعية ومرجعيته الثقافية: ابن الفقد ومؤرّخ الهامش.
لا يُمكن فهم هذه المجموعة دون استحضار المنبت الثقافي والوجداني لحسن ابراهيمي، ابن القرية المغربية، خريج وجع الطبقات التي لا صوت لها، النافذ إلى وجدان العرب المهمشين من البوابة الفلسطينية. "هذه نصوص ليست للتسلية... بل هي نبض من لا يمتلك حق الحكي، وصوت من لا يُعطى منبرًا." (مازن جميل المناف في تقديم المجموعة) ابراهيمي يكتب داخل تقليد واضح المعالم: من حيث الوعي الطبقي: هو امتداد مباشر لغسان كنفاني في تصويره للوجع كمسألة بنيوية. من حيث الجماليات: يتقاطع مع درويش في التوسل بالشعر داخل القصة. من حيث المرأة: يُعيد رسم شخصية الأم والزوجة كما فعل محمد شكري – لا ككائن عاطفي بل كعمود فقري طبقي. من حيث التجريب الرمزي: يماثل يوسف إدريس، في إخراج النص من القالب التقليدي إلى دهشة الصورة. لكن الأهم، أن حسن ابراهيمي يكتب من الأرض لا من الطاولة. كتابته مأخوذة من غبار الطرقات، من رماد المدافن، من سعال الجدة، من ارتعاش الأصابع، من تلك الليلة التي لا تعود. كما قال إدوارد سعيد: "الأدب الكبير لا يشرح العالم، بل يصيبه في مقتل." وهذه المجموعة تُصيب العالم في مقتل.
17. العين الساردة: حين تتحوّل النظرة إلى راو خفيّ داخل القصّة .
من أبرز خصوصيات الكتابة السردية لدى حسن ابراهيمي أن العين ليست أداة مراقبة فقط، بل تتحوّل إلى ساردة صامتة، تكتب عبر التحديق، وتعيد تشكيل العالم من خلال وصف جزئياته المنسية. فالعين في هذه المجموعة ليست محايدة؛ إنها مفعمة بالانفعال، مرآة الجرح، وعين الجماعة المقهورة. "زغب الطيور ينكمش فوق الشباك، والغبار يترنّح على وجه الشمس، ورائحة الزيت تتقافز كألم بين الأصابع..." (قصة "كنس طرر الزمن العصيب") هذه الجملة تكشف كيف تتسلل العين إلى تفاصيل "زغب الطيور"، "تقافز الرائحة"، "ترنّح الضوء"، فتُعيد ترتيب الواقع لا كمشهد شامل، بل كفسيفساء حسّية دقيقة، تشبه العدسة السينمائية التي تتابع أدق ارتجافات الوجه. إن العين في سرد حسن ابراهيمي ليست عينا عليا، عادية، متوترة، ترى الوجع في الماء، والغياب في فم الأم، والانكسار في غبرة الحذاء. وهذا يُعيدنا إلى تصور بارت للسرد البصري: "حين تنظر العين من موضع الهامش، فإنها تصوّر لا العالم، بل الشرخ فيه."
18. المرأة في المجموعة: فاعلة تاريخية لا رمزية عاطفية .
المرأة عند حسن ابراهيمي ليست ضحية ولا خلفية إنسانية، بل حاملة للزمن، ومؤسِّسة للمعنى، ومحرّكة للتاريخ. إنها لا تُقدَّم كمجرد أم أو أرملة، بل كـ"مدبرة حلم"، و"حارسة المعنى"، و"مخرطة في حراك شعبي غير معلن". في "امرأة تنسج العزة", نقرأ: "تغزل خيوط الذاكرة على المغزل، تعلّم النسيج كيف يستعيد الرائحة..." إنها ليست راوية، بل صانعة لذاكرة الجماعة. كما أنها تقاوم الخواء بالعمل الصامت، بالغناء، بالمغزل، وبتربية الأبناء. وهكذا تُنتزع من مقام الأسى المجرد، لتُعاد إلى موقعها الطبقي والسياسي والوجودي. سيمون دي بوفوار قالت: "المرأة لا تُولَد ضحية، بل تُصاغ كذلك حين يُقصى صوتها." وفي هذه المجموعة، لا تُقصى المرأة، بل تُمنح مركز السرد والرمز. في قصة "الأرامل لا ينتحرن", نجد النسوة يصطففن في نصف دائرة، يغنين ضد الفقد، يطرزن الوطن في جسد مغنّى. هنّ لا يندبن، بل يُقاومن.
19. ملاحظات في المجموعة للتدارك، و بعض المقترحات الإبداعية .
رغم القوة الجمالية والفكرية المذهلة للمجموعة، يمكن رصد بعض الثغرات التي قد تُخصب المسار السردي مستقبلا: أ. كثافة المجاز إلى حد الإغراق : لغة ابراهيمي ـ في بعض المقاطع ـ تُغرق القارئ في طوفان من الصور المجازية المتداخلة، مما يؤدي أحيانًا إلى حجب الدلالة بدل إضاءتها. "أطبقت الكائنات الحبل على الحرف... تعرّت السحب، واستحم الألم بزيت الغيم..." رغم الجمال، إلا أن كثافة الصور هنا تُربك القارئ، خاصة إن كان خارج سياق الشعر الرمزي. النصيحة: تحقيق توازن أدق بين المجاز والتوصيل السردي، دون إلغاء خصوبة اللغة. ب. الغياب النسبي للحوار: تفتقر المجموعة في بعض القصص إلى الحوار الحيّ بين الشخصيات، مما يُبقي الأحداث في حيز السرد الذاتي الداخلي، ويقلّل من ديناميكية التفاعل الدرامي. النصيحة: إدماج حوارات طبقية داخل النصوص، تفضح الفوارق بين الشخصيات، وتُكثف الأبعاد الاجتماعية والسياسية للنص. ج. تكرار الرموز وفقدان الدهشة : بعض الرموز تتكرر بصيغ قريبة (مثل القطار، الأم، الحصير، الزغرودة...) مما يُحدث نوعا من الاجترار الرمزي الذي قد يُضعف وقعها. النصيحة: تنويع العلامات الرمزية، وتوسيع الحقول الدلالية لتشمل رموزا معاصرة (الآلة، السوق، الهاتف، المدن المقطوعة...). د. تغييب البُعد الجغرافي الدقيق : مع أن النصوص مشبعة بالهوية الريفية، إلا أن غياب الأسماء الجغرافية والتاريخية المحددة يجعل بعض القصص معلقة في فراغ رمزي. النصيحة: إدماج إشارات جغرافية دقيقة (أسماء قرى، جبال، تواريخ نضالية) يمنح النصوص جذورها الواقعية دون المساس بطابعها الرمزي.
أخيرا بعد قراءة متأنّية لمجموعة "ولع السباحة في عين الأسد"، يمكن القول بثقة إنّنا أمام عمل أدبي متفرّد، لا يكتفي برواية الحكايات، بل يؤسس لحساسية جديدة في الكتابة القصصية المعاصرة، حيث تتلاقح الواقعية مع الشعرية، والسرد مع الرؤية الفلسفية، ليولد نص يحمل الإنسان العربي وهمومه نحو أفق فنيّ وإنساني غير تقليدي. إنّ الكاتب حسن إبراهيمي ينجح في التقاط التفاصيل الصغيرة التي تشي بالكوارث الكبرى: أن تسير امرأة فوق الرماد وهي تحمل وعاءها الفارغ؛ أن ينام الطفل في حضن قرية تحتضر؛ أن يتقاطع الحنين مع الموت في صوت القطار أو ضجيج العسس. تلك التفاصيل تشكّل ذاكرة المقاومة، وتُبقي القارئ مشدودا إلى نصوص لا تنتهي بانتهاء القراءة، بل تظل تُراود الذاكرة، وتطرح سؤالا وجوديا: من نحن في زمن يُجفف ماء الحلم ويزرع الوهم مكانه؟ لقد كانت اللغة عند إبراهيمي بطلة أساسية، لا وسيطا للتوصيل فحسب. فهو يمارس الكتابة كمن يحفر في جسد الكلمات، كما لو كان الجرح هو حقل المعنى. وهذا ما يجعل النصوص تحتمل مستويات متعددة من القراءة: سطحية للمتعة، وتأملية للوعي، وتأويلية للبحث عن المعنى المستتر. كل ذلك يجعل هذه المجموعة تنتمي إلى الأدب الملتزم بالمعنى، لا الأدلجة، وإلى الجمال المقاوم، لا الزينة اللغوية. إنّ "ولع السباحة في عين الأسد" ليست مجرّد مجموعة قصصية، بل هي وثيقة أدبية تنقل لنا صوت المهمّشين، وجراح المنسيين، وبوح الذين يُقاومون الفقد بالكتابة. هي صرخة من عمق البركان، ورسالة حبّ للأرض، للأم، للحياة، رغم أنياب الوحش الكاسر. ولهذا، فإن القراءة النقدية لهذا العمل ليست مجرّد تحليل أدبي، بل هي أيضا مشاركة وجدانية في هذا الولع المحفوف بالخطر، في هذا العشق للسباحة حيث تنفتح عين الأسد. رياض الشرايطي / تونس
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإمبريالية الأمريكية بنَفَس ترامب: وقاحة القوة ونهاية الأقن
...
-
ورقة من محترف قديم في قطاع السّياحة
-
القصيدة ما بعد الّنثر
-
افكار حول البناء القاعدي والتسيير
-
قراءة في مجموعة -نون أيار- للشاعرة نسرين بدّور.
-
القصيد ما بعد النّثر
-
بيان
-
بكاءُ السُندسِ في المنفى....
-
عيد الشّغل: من نضال طبقي إلى مناسبة رسمية بروتوكولية.
-
الحداثة وما بعد الحداثة بين ديكتاتورية البرجوازية وخيانة الت
...
-
مراجعة مجلّة الشّغل التّونسية: بين تعزيز الاستغلال الرّأسمال
...
-
نساء بلادي أكثر من نساء و نصف
-
النّضال من أجل الدّيمقراطية والحرّيات العامّة والخاصّة
-
الدولة البوليسية المعاصرة
-
إرهابيّ أنا
-
حاسي الفريد / ما يشبه القصّة
-
المركزية الديمقراطية
-
عالم يُنتج وآخر يستهلك: الثورات الصناعية الاربعة
-
الصهيونية العربية: خيانة الداخل وخنجر في خاصرة الأمة
-
ملمّ بي
المزيد.....
-
الأميرة للا حسناء تفتتح الدورة الـ 28 لمهرجان فاس للموسيقى ا
...
-
اعتراف من جيهان وصدمة لعاليا في السينما وحقيقة موت بوران.. ا
...
-
فيديو لطفل يخطف الأنظار في مقابلة مع وزير الثقافة السوري
-
على غرار أفلام هوليوود.. هروب 10 أشخاص من سجن أميركي
-
بوليوود يعود إلى روسيا بمشروعين سينمائيين
-
شقيقة سعاد حسني: حليم تزوج -السندريلا- رسميا بوجود الشهود وم
...
-
الفنان جورج وسوف.. حقيقة خبر الوفاة الذي صدم جمهوره!
-
السياسة قبل الرواية والشعر في الدورة الـ66 لمعرض بيروت للكتا
...
-
أسرة العندليب تنشر خطابا بخط يد -حبيبته- الشهيرة للرد على شا
...
-
مسئولون عسكريون إسرائيليون: حسمنا المعركة في غزة ويجب ترجمة
...
المزيد.....
-
اقنعة
/ خيرالله قاسم المالكي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
المزيد.....
|