أحمد الجوهري
مهندس مدني *مهندس تصميم انشائي* ماركسي-تشومسكي|اشتراكي تحرري
(Ahmed El Gohary)
الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 02:47
المحور:
الادب والفن
فيلم البجعة السوداء للمخرج دارين أرونوفسكي ليس مجرد إثارة نفسية. بالنسبة لمن يعيشون تحت وطأة الكمالية الوسواسية، هو مرثية سينمائية، لوحة قاتمة ترسم لحظة انهيار روح سحقتها مثالية مستحيلة التحقيق.
نينا سايرز، التي تجسدها ناتالي بورتمان بأداء مفعم بالهشاشة والدقة المؤلمة، راقصة باليه محاصرة داخل قفص معقم من الطموح والمثالية. حياتها يحكمها النظام، السيطرة، والتضحية. كل حركة، كل نظرة، كل وجبة – محسوبة بدقة. هي لا تؤدي بحيرة البجع فقط، بل تحاول أن تكون البجعة ذاتها. ولكن ثمن الكمال، خاصة لمن يحمل سمات اضطراب الشخصية الوسواسية (OCPD)، هو حرب داخلية لا ترحم.
الذي يجعل الفيلم شخصياً ومؤثراً إلى هذه الدرجة، هو كيف يلتقط الشعور الحقيقي للانقسام بين المثال والواقع. عقل نينا ساحة معركة تمزقها التناقضات. تسعى للكمال وتُعذَّب بكل خطأ. تريد النقاء، لكنها تتوق للفوضى. هذا الانقسام ليس رمزياً فقط، بل يتجسد أمامنا – ملموساً، مرعباً. الفيلم لا يصوّر الجنون فقط، بل يجعلنا نتذوق نسيجه الداخلي.
نحن، المصابون بـ OCPD، لا نريد فقط أن تكون الأمور صحيحة – نحن نحتاج لذلك. لكن السعي إلى السيطرة المطلقة يُفقدنا السيطرة على أنفسنا. هلاوس نينا، نسختها المظلمة، الواقع المتغير – كلّها انعكاسات حقيقية لما يحدث عندما يُفترسك المثال الذي صنعته لتجد ذاتك من خلاله. رأيت فيها أجزاءً مني: الضغط، الإحباط، والكمالية التي تحوّل الحلم إلى سجن.
في شخصية نينا أيضاً سمات من اضطراب الشخصية الحدية – تقلبات عاطفية، ضياع في الهوية، إيذاء للنفس. علاقتها بأمها، وخوفها من النقص، وانفصالها عن الواقع، تشير إلى جروح أعمق. لكنها لا تسقط بسبب أوهامها، بل بسبب ولائها للكمال. وهذا ما يجعلها مأساوية.
أداء ناتالي بورتمان أسطوري. لم تُمثل الجنون فحسب، بل تجسّدت فيه. تحوُّلها من "البجعة البيضاء" إلى "السوداء" ليس مجرد تمثيل مسرحي، بل تحوُّل وجودي. وجهها يصبح مرآة للألم، والرغبة، والانهيار. أداؤها الأخير، الذي بلغ فيه الكمال، كان لحظة انتصار... ووداع في آنٍ واحد.
البجعة السوداء فيلم المرايا – الحقيقية والرمزية. يعكس حياتنا المزدوجة، الأقنعة التي نرتديها، وثمن الأوهام التي نصنعها. ليس مجرد فيلم، بل تجربة مشاهدة انهيار إنسان في الزمن الحقيقي، برقّة دوران الباليه، وقسوة التمزّق الداخلي.
لمن يعيشون مع OCPD، هو فيلم مؤلم... لكنه ضروري. لأن في سقوط نينا، نلمح نحن أيضاً أجزاءً من معركتنا – الجمال، الجنون، والحنين لأن نكون كافين.
#أحمد_الجوهري (هاشتاغ)
Ahmed_El_Gohary#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟