ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 18:12
المحور:
الادب والفن
يقف الكاتب "أزهر جرجيس" في روايته "وادي الفراشات" الصادرة عن دار الرافدين بين الحفر السردي العميق لشخصياته وبين الإيقاع البطيء والمدهش للحياة كما تُعاش، لا كما تُحكى. هذه ليست رواية بالمعنى التقليدي، بل سيرة وجدانية مكتوبة بلغة الندم، موشّاة بنزف الذاكرة، ومثقلة بأسئلة المصير، تدور حول الغياب، والعائلة، والحب، والانكسار، وسجلات المدن المنسية في العراق ما بعد الخراب. إذ يفتتح الراوي الرواية بعبارة مشبعة بالوجد والغموض: "إهداء إلى الأرواح الغريبة أينما حلّت، فأين نسينا الحياة؟"، ليضع القارئ في أجواء تنتمي إلى الحسّ الدرويشي، حيث المفارقة بين الضوء والدموع، وبين السؤال والاحتراق، وهي مفارقة وجودية تُؤسّس منذ السطر الأول طبيعة الصوت السارد، صوت خافت، مفجوع، ساخر، وشديد الوعي بمأساوية العالم.
وادي الفراشات ليس مجرد عنوان، بل مفتاح تأويلي للنص. الفراشات ترمز للأنوثة، الجمال، الرقة، الهشاشة، والتحوّل، والوادي يرمز إلى المسافة الداخلية التي يقطعها البطل في محاولته لفهم ذاته وماضيه. فالرواية تبدأ من لحظة فقد، ولكنه يتلمس طريقه نحو شيء يشبه الشفاء أو الانبعاث. كما تتحوّل اليرقة إلى فراشة، البطل في صراع مع الماضي (الطفولة، الحنين، الفقد)، ويحاول أن "يتحوّل"، أن ينسى، لكن الذاكرة تأبى ذلك. العنوان يوحي بأن الرواية رحلة "تحوّل" داخلي، أو محاولة للفكاك من الشرنقة.
وقد يُستخدم وادي الفراشات كرمز لحلم، أو لحالة حب حالمة، أو لمكان يهرب إليه البطل من قسوة الواقع. فهل يرمز إلى عالم مثالي أو "يوتوبيا"، أو حتى إلى الموت بوصفه انتقالًا لطيفًا من الحياة إلى عالم آخر؟ أم هو رمز للعزلة والانحدار الداخلي؟ فالوادي يرمز في الأدب عادة إلى مكان خفي، بعيد عن الأنظار، قد يكون ملاذًا أو منفى. البطل يعيش في عزلة داخلية، حتى وإن كان محاطًا بالناس، فهو هارب من الحب، من الذاكرة، من الطفولة. فهل يبحث عن الفردوس المفقود؟ أم هروب من دولة أخيه صُبيح؟ أو من كتيبة الإناث؟
البداية ليست مجرّد افتتاحية روائية، بل هي نواة سردية تستدعي قراءة تفكيكية متعددة الطبقات، فهو يقدّم لنا راوياً ناضجًا، مسجونًا، يعيد سرد ماضيه في مشهدية مركّبة تمزج بين الحاضر الكئيب والذاكرة الحية، بين تجربة الطفولة القاسية، وخسارات الشباب، مرورًا بالموت، والدراسة، والخذلان، والنساء، والمكتبة، والرغبات المدفونة. فهل بنية الزمن والذاكرة هي ما يميز هذه الرواية؟
أهم ما يميّز هذه الرواية هو تشظي الزمن وتعدد مستوياته. الراوي يكتب من قلب لحظة راهنة (الزنزانة، السجن، استلام الهدايا من خاله جبران)، لكنه لا يلبث أن ينغمس في نفق طويل من الاسترجاعات، تبدأ من لحظة استلام "صندوق الهدايا" وتصل بنا إلى طفولته، مرورًا بموت الأب، الفشل في الدراسة، الانتقال إلى بيت خاله، والالتحاق بكلية الفنون، وحتى التورط العاطفي مع فتاة تدعى تمارا. الرواية تتعامل مع الأب كظل أكثر منه ككيان؛ فهو غائب، مقعد، ومُنطفئ. تتساءل الرواية: كيف يُبنى الإنسان من غياب أبيه؟ وهل يمكن للحب أن يُرمّم النقص الفادح في جدار الطفولة؟
تبدأ القصة بمشهد مؤلم وفقدان الأب الذي يمثل الجسر بين الحياة والموت. يُصوَّر الأب كشخص عاجز عن التفاعل مع أبنائه، فقد أصبح شخصاً غريباً في منزله بعد تعرضه لحادث تسبَّب في تدهور حالته الصحية والنفسية. هذا الفقد لا يتوقف عند غياب الجسد، بل يتسرب إلى العقول والمشاعر، ويترك فراغاً وجودياً في حياة الأبناء. هذا المشهد يعكس أحد أعمق المخاوف الإنسانية، وهو الخوف من أن يصبح المرء غريباً في وطنه أو منزله، وأن يفقد تواصله مع نفسه ومع الآخرين. فمن خلال تسليط الضوء على صورة الأب الغائب وذكرى موته، يعرض الكاتب مواقف تعكس كيف يختلف مفهوم الموت بين الأجيال. بينما يراه الأبناء تجربة مؤلمة وعاطفية يصعب تقبلها، ينظر إليها جبران – الخال الحكيم – على أنها جزء من الحياة التي يجب قبولها بعقلانية. عندما يتحدث عن "الاحتفاظ بالذكريات" في الدفتر، يربط الكاتب فكرة الموت بالتعامل معه كجزء من الحياة اليومية، فالموت ليس مجرد حدث طارئ أو قسري، بل هو رحلة يجب على الإنسان التعايش معها.أما الحب – في علاقته بتمارا – فهو أقرب إلى "استعارة مؤجلة"، حلمٌ لا ينضج، لكنه يظل يُنير حياة البطل ويمنعه من السقوط النهائي.
والمكان هنا – بغداد، الحي، المكتبة، الزنزانة – ليس مجرد خلفية بل كائن حي يشيخ، ينهار، يُغوي ويخذل. إنها رواية عن العراق المنسي، عن مدن تحترق ببطء، وعن شباب أُعدّوا للحروب لا للأحلام. وادي الفراشات عمل يليق بما بعد "نهاية العالم"، حيث لم يبقَ من الإنسان سوى ذاكرته، وحُبه، وكتبه، ونقطة دم في دفتر مفقود. هي رواية لا تقدم أجوبة، بل أسئلة أكثر إلحاحًا: ماذا نفعل حين لا تكون لنا غرفة؟ حين لا نملك حتى حق الحلم؟ ماذا نفعل حين نكتشف أن "المدن تُقتل كما يُقتل الناس"؟
هذا الامتداد الزمني المتداخل لا يخضع لأي ترتيب خطي، بل هو أشبه ببنية الحلم أو التداعي الحر للذكريات، وهو ما يمنح النص بعدًا سيكولوجيًا عميقًا، يجعل القارئ متورطًا في محاولة لملمة شتات السرد، كأنه يعيش في ذاكرة الراوي لا خارجها. فماذا عن الحضور والغياب في هذه الرواية؟
الرواية تنتمي إلى الأدب الاعترافي، حيث نتابع سيرة "عزيز"، الراوي والبطل، عبر مونولوج داخلي طويل يتدفق بعذوبة موجعة. لا فصول واضحة، ولا حبكة تقليدية بمطلع وعقدة وخاتمة؛ بل تيار وعي صاخب يمتد من الطفولة اليتيمة، إلى خيبات البكالوريا، فحب تمارا، فالخذلان الأبوي، ثم قسوة التجنيد، انتهاءً بالزنزانة. هذه الفوضى الظاهرة في البناء ليست ضعفًا، بل خيارًا جماليًا يعكس فوضى حياة البطل الداخلية، ويجعل القارئ يلهث خلف تفاصيله كما يلهث خلف الحياة.
أما شخصيات الرواية فهي تنبض بواقعية موجعة. الأب الصامت، الذي "مر القطار على ذاكرته"، خال جبران، المكتبة الحية التي تفيض بالسخرية والنُبل، الأخ صبيح بسلطته الذكورية العنيفة، ثم تمارا، حلم الفقراء الذي لا يُمس. كل شخصية حاضرة بألمها، بأحلامها، بحدودها الاجتماعية والطبقية، وكأننا أمام شخوص حقيقية نعرفها، أو عرفناها في لحظة من لحظات عمرنا. فمن خلال الشخصيات التي تتوزع على نسيج وادي الفراشات، نلمس قدرة الكاتب على توليد حياة نابضة من التفاصيل. خال جبران شخصية متقنة البناء، يتجسد كضمير حي في حياة الراوي، ومكتبه ليس مجرد مكان، بل عالم مصغر يمثل الخلاص المعرفي والجمالي، على النقيض من البيت العائلي الذي يرمز إلى القمع والتقليد والموت. أما الأب، فهو شخصية شبه أسطورية، غائبة حاضرة، تبدأ من السقوط على السكة الحديدية وتنتهي في العزلة الكاملة والخَرَس. هذا الأب الغريب يختصر شتات السلطة الأبوية في المجتمعات الشرقية، حين تتحول الأبوة إلى طيف لا يُمس ولا يُفهم، وتبقى أثرها الوجودي غامضًا ومؤذيًا. شخصية الأخ "صبيح" تمثل السلطة الذكورية الاجتماعية، بينما تجسد الأم ركيزة الحب والتضحية، وإن كانت ضعيفة الحضور مقارنة بغيرها. وهناك أيضًا الصديق مهند، شخصية ساخرة تعكس قلق الشباب وتردّدهم، وأخيرًا "تمارا" التي تمثّل رمزًا للحلم الملتبس والجمال المؤجل.
ماذا عن لغة السرد ذات المزيج من الفصحى القريبة من الشفوية، والحوار الداخلي المفعم بالتهكم والمرارة؟ هناك لمسات شعرية تظهر على السطح دون أن تطغى، بل تخدم النسيج النفسي للنص. من الأمثلة على ذلك: "أغمضتُ وشممتها فمرّت من خلف الجفون ليلة الحادي والعشرين من شهر كانون الأول 1999…" فاللغة هنا ليست فقط أداة تعبير، بل وسيلة استحضار. الحواس تلعب دورًا مركزيًا في تفعيل الذاكرة، ما يجعل النص الروائي حسيًّا، جسديًا، يشتبك مع القارئ عبر رائحة الكافور، طعم الفجل، لسعات البق، وخشونة البطانيات.
لغة الرواية شعرية تشبه خفة الفراشات، والأسلوب السردي مليء بالتشبيهات والاستعارات الرقيقة، يشبه رفرفة الفراشات. فجرجيس استخدم لغة حالمة، مشحونة بالعاطفة، وهو ما يعكس العنوان. فاللغة هنا ليست مجرد وسيلة نقل، بل بطل روائي آخر، شاعرية بلا تصنّع؛ فالجمل تنبض بشاعرية نزار قباني، وفلسفة دوستويفسكي، وتقشف محمود درويش. يكاد النص كله أن يكون اقتباسًا، دون أن يفقد صدقه. هناك حزن ناضج في كل جملة، واستخدام بارع للاستعارة، ووصف مُفخّخ بالرمز دون أن يُغرق القارئ في التكلّف.
في الوقت نفسه، لا تخلو اللغة من النقد الاجتماعي، فالجمل الساخرة من النظام التعليمي ("حرب البكالوريا") أو السلطة الأبوية، أو حتى من البنية الثقافية ("القارئ لا يسرق")، توضح أن الكاتب يحمل وعيًا نقديًا يُسائل ليس فقط شخصياته، بل الثقافة برمتها. إذ يستخدم الأدب كأداة للتعبير عن معاناته الشخصية ومحاولاته للهروب من الواقع. في كتاب خاله جبران، الذي يقدمه له كتذكرة للخروج من حالة اليأس التي يمر بها، يجد الراوي في الأدب سبيلاً لتحرير عقله. هذا التحول إلى الأدب هو محاولة للهروب من الواقع القاسي إلى عالم من الخيال حيث يمكن للإنسان أن يعيش حياة مختلفة ويختبر مشاعر غير تلك التي تفرضها الحياة الحقيقية. لكن الأدب يصبح أيضاً ساحة جديدة للاختبارات الشخصية، حيث تتداخل الهويات بين الكاتب والشخصية الأدبية كما في حالة "رواية الحب" التي يتورط فيها الراوي.
هل المكان هو هوية ضائعة؟ فالمكان في النص ليس مجرد خلفية، بل هو لاعب رئيسي. من السجن إلى المقبرة، من سطح المنزل إلى مكتبة جبران، من شارع السعدون إلى كلية الفنون، كلها أمكنة تحمل أبعادًا رمزية: القمع، الموت، الحلم، النجاة، أو الخذلان. المكان مرتبط بالهوية، وبتحولاتها. الراوي يبحث عن مكانه منذ الطفولة، ولا يجده إلا بين الكتب، لكنه يُقصى عنه أيضًا، سواء بالرسوب أو بالقدر. المدينة هنا مدينة منفية، متورطة بالدم والخراب، لكنها أيضًا مدينة الكتب، والعشق، والصداقة. والراوي في هذا النص الروائي الثري لا ينجح، بل يخفق. لا ينقذ أمه من "بركة العوز"، لا يصبح طبيبًا، لا يحظى حتى بغرفة مستقلة، ولا يملك سوى حكاياته. ولعل هذا هو جوهر العمل: أن تكون البطولة في السرد، لا في الإنجاز. أن يكون الخلاص في الحكي، لا في الواقع.
هذه الرؤية السوداوية نسبيًا، المحمّلة بالفقد، تتقاطع مع تقاليد الرواية الوجودية، حيث الفرد يعاني من "عبث العالم"، لكنه لا يتوقف عن تأمل معناه. فأزهر جرجيس يقدم مادة سردية ثرية، مكتوبة بعين روائية ناضجة، تملك حسًا فنيًا مرهفًا، ووعيًا اجتماعيًا حادًا، ومخيلة أدبية تتقاطع مع تراث كبير من السرد العربي والوجودي. إنها رواية عن الخسارة، لكنها أيضًا عن الأمل المكسور، ودفتر عن الأرواح الغريبة التي لا تزال تحوم، وتنتظر أن تُكتب.
الرواية تعكس رحلة الإنسان في مواجهة فشله، فقدان الأحباء، وطموحاته التي تتقاطع مع صعوبات الواقع. لكنه يعكس أيضًا كيف أن كل تجربة، سواء كانت مملوءة بالألم أو السعادة، تساهم في تشكيل الذات الإنسانية. من خلال الكلمات، تتبدد الحدود بين الحلم والواقع، ويكتشف الراوي، في النهاية، أنه لم يخسر نفسه، بل اكتسب من خلال كل محنة شيئاً مهمًا: الوعي بأن الحياة هي مغامرة مستمرة، مليئة بالتحديات والفرص التي يمكن استغلالها إن تمت المواجهة بشجاعة وإرادة.
هذه الرواية ليست فقط عن بطل فشل في أن يكون طبيبًا، بل عن جيل كامل لم يُمنح حتى الحق في المحاولة. وادي الفراشات عمل نادر، صادق، ومؤلم، يُثبت أن الأدب الجيد لا يُقاس بعدد الصفحات أو الجوائز، بل بما يتركه في القلب بعد الانتهاء منه. واسمحوا لي بالتقييم النقدي 9/10 وفي النهاية أريد القول: موصى بها بشدة لكل من فقد شيئًا في حياته ولم يجده بعد.
طرابلس-لبنان- الأحد 4 أيار 2025 الساعة الثالثة بعد الظهر
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟