باسم عبدالله
كاتب، صحفي ومترجم
(Basim Abdulla)
الحوار المتمدن-العدد: 8298 - 2025 / 3 / 31 - 04:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اللوغوس بحسب الكنيسة الارثوذكسية، بمعناها التجريدي في الفلسفة اليونانية ” Logos ” العقل الإلهي ظاهراً في الوجود بالتجسد ” الكلمة ” وقد استخدم القديس اثناسيوس والقديس كيرلس كلمة اللوغوس بمعنى العقل وقد استعملت المعاجم اليونانية والانكليزية معنى ” λογος ” اليونانية سبب، باعث، علة، او عقل في قاموس اكسفورد الانكليزي العربي، هي الكلمة الملفوظة الصادرة من العقل، الادراك، الفهم، الرأي، القوة الفكرية، وقد استخدمها فلاسفة اليونان بمعان قريبة في التعبير عن القوة الكلية، العقل الكلي، القدرة الباطنية للإله، الروح القدس، وغيرها مما تدل على اانها الشكل اللاهوتي غير المرئي القادر على انجاز اعمال الإله الفعالة فهي الإرادة داخل كيان الله او الإله. العقل الذي يدير العالم وينظم الوجود، القوة الخالدة، انها بتعبير ادق، الحقيقة الأزلية. هكذا عبّر عنها هيراقليطس ”العقل الكلى” قوة غير مرئية علة نتاج الحركة فى الأشياء مبدأ جوهر في اللاهوت، مستقل بذاته، في الله الكلي سبب نشوء الكون. فكرة اللوغوس لم تكن من مخترعات يوحنا في العقيدة المسيحية، هي فكرة فلسفية انبثقت في تاريخ الفكر اللاهوتي اليوناني وكانت سائدة عدة قرون قبل ان يتبناها يوحنا في انجيله. كيف دخلت فكرة اللوغوس في الحياة اللاهوتية لليهود وكيف عبّر عنها تاريخهم اللاهوتي في العهد القديم وكيف تمكن فيلون الاسكندري 20 ق م – 50 ميلادي. لقد قام بتنظيم الفكرة وزجها في تاريخ المسيحية. لقد مرّ اللوغوس بمراحل عديدة نضجت فيها فكرة اللوغوس حتى صارت مبدأ عقائدي في اللاهوت المسيحي ” الكلمة الباطنة ” اي المستوطنة في العقل، القوة الفكرية القادرة على دفع العقل للوعي وتحويل مفاهيمة الى السلوكيات، اي ان اللوغوس بات المحرك التخيلي واللاهوتي الفاعل داخل الإنسان والمتحكم بتصوراته وتكوين قناعاته. المتحكم في كل الوجود. اللوغوس على القياس المنطقي اليوناني صفة تختص بقوى التحكم بالكون وهي الذات الإلهية في العقيدة المسيحية. اننا امام انتقال عقائدي بين الفكر اليوناني في صفة كونها كلي القدرة الى كيان تجسدي في العقيدة المسيحية. اقتبست المسيحية حالة اللوغوس اليوناني الى مرحلة المتجسد من خلال المفهوم الافلاطوني ان اللوغوس ” عقل خلاق ” والمعرفة الإلهية حتى تطور هذا المفهوم في العقيدة المسيحية بما يعادل العقل الإلهي بل ويكون سبباً لمبدأ الخلق في الكون.
إن المسيحية نقلت التراث اليوناني من حالة اللوغوس الضيقة الى رحاب القوة البارعة غير المرئية التي تدير نظام الكون. لقد صح عنه التعبير القوة الفعالة والقدرة المطلقة كما وصفها جورج هيجل القيلسوف الألماني. ان تحول اللوغوس من الفكرة المطلقة في تفسير المعنى الكوني للوجود الى مرحلة الحلول والظهور في الجسد كما هو الحال في العقيدة المسيحية وفي انتشار المعتقد الغيبي كذلك الذي سبق ظهور المسيح في انصاف الآلهة، صار اللوغوس كينونة متجسدة لحماً ودماً وجوداً بشرياً في ذات يسوع المسيح، لقد انسجم عصر انبياء بني اسرائيل في اسفارهم المنحولة التي صاغوا من خلال كتاباتهم الشخصية التي تمسح ذنوب اليهود وتمردهم على الإله يهوة وخروجهم عن الإيمان التقليدي للشرائع اليهودية، ان يغفر لهم الله بتوحيد الفكرة المسيانية اليهودية في الجسد لعودة الإيمان السليم بهدف نيل الغفران الإلهي فصار المسيح الحلقة الرابطة بين الفكر اللاهوتي اليوناني في اللوغوس مع التاريخ الديني اليهودي الذي بلغ ذروته في خيال النبؤات التي صاغها العقل الديني اليهودي عبر التاريخ. لقد جمع العقل المسيحي مع التراث البوناني فكر الشخصية الإلهية التي تحولت من فكر سماوي خيالي الى فكر ارضي سماوي لربط فكرة اللوغوس حتى تكون فكراً دينياً عالمياً مازال الى يومنا متمثلا بكنائس العالم المسيحي وبقيام رسله واتباعهم الذين جعلوا من الفكر اليوناني حياة دينية راسخة لمئات الملايين في ارجاء الارض، انها حقاً عبقرية استطاعت ان تصون الايمان الراسخ الشديد الرسوخ بأنها حقيقة صنعت من خلال التمسك بقيم الغيب الغير مرئي جعلت منه شخصيات تعلمت معنى طريق الإيمان من اجل العقيدة التي كانت يوما مجرد فكرة مرت في تاريخ الفلسفة اليونانية. بحسب فيلون الاسكندري ان فلسفة افلاطون موجودة اصلا في الكتاب المقدس وان اللوغوس هو مثال المثل، من هذا يتضح ان التأثير الأفلاطوني على العقيدة اللاهوتية لليهود كان اصلا ًيعود لأفلاطون، تلك الشخصية التي صاغت لليهود تاريخ تراثهم اللاهوتي. بحسب فيلون الاسكندري ان ” الله لا يحده عقل .. اما المادة فلها حدود ولها نهاية ولذا وجب ان يكون هناك وسيط بين المحدود واللامتناهي وهذا الوسيط بين الله والعالم هو ” الكلمة اول مولود لله، انها الإقنوم الثاني في الذات الإلهية، لقد كان لفيلون اثر عميق في اللاهوت المسيحي والفكر المسيحي ” (1) اللوغوس بحسب وصفه الحكمة الإلهية والروح الإلهي، ملاك الله، ابن الله، الاله الثانى، قانون العالم.
لقد استق التفكر اللاهوتي عند فيلون الاسكندري من فلسفة افلاطون اذ انها ترى ان الكون يحتوي عالمين، العالم المحسوس عالم التعددية، عالم الصيرورة والفساد، عالم يقع بين الوجود واللاوجود، انها نتيجة لعملية الفيض كصانع إلهي، اي ان الموجودات صدرت او فاضت عن الله كما ينبثق الضوء عن الشمس. ان استنباط عبقربة فكرة عالم المثل عند افلاطون انتجت المعتقد اللاهوتي لعالم الغيب من خلال المادة والجوهر فهذا الجوهر يحل في اي مكان رغم بقائه في محل خاص به، اي ان الفيض الإلهي عند افلاطون انبثاق روحاني في مكان ووجوده الشخصي في مكان آخر وبهذا يكون افلاطون قد نقل الفكر الديني ان جعل للروحانيات فكراً مثالياً تحل فيه الذات الإلهية في اي مكان تشتاء وتكون في اي جسد، وبما ان للبشر اجسادأً عاقلة واعية مدركة لوجودها في الكون فتكون عقولها واسطة الربط بينها وبين الخالق. ان فلسفة افلاطون اسست المدرسة المثالية لعالم اللاهوت قبل قيام المسيحية وعبّدت لها الطريق للقيام كفلسفة مثالية متميزة تحول فيها الفيض الإلهي في شخص يسوع المسيح. لقد اثّر فكر افلاطون في ” العمق على مجمل الفكر الغربي سواء في مجال اللاهوت المسلم، اليهودي، او المسيحي او في مجال الفلسفة العلمانية التي يشكّل هذا الفكر نموذجها الاول ” (2) تفرد الفكر اللاهوتي اليوناني بالمصطلح الفلسفي Logos” ” λόγος ” تعني ” الكلمة ” والتي استخدمها يوحنا في سفره، حتى شمل المعنى تفسيراً معقداً الى العقل الإلهي او الشكل الإستدلالي للعقل الكوني فهو معنى شمولي عقلي، تحليلي شخصي طوره افلاطون ممهداً الطريق لقيم دينية حتى صار مفهوماً وشكلاً منطقياً للإيمان وعلى اساسه يعيش الإنسان. رغم غموض اللوغوس حتى عند افلاطون نفسه ويوحنا، وغيره من فلاسفة واتباع الإيمان المسيحي الا انه بقي راسخاً في اللاهوت المسيحي حتى تطور الى شكل كنائسي مقدس في ثالوث العالم المسيحي.
اتخذ هيرقليطس فكرة اللوغوس باعتباره قانون العالم الخالد، مبدأ الحياة والارادة الإلهية، التي يخضع لها الوجود كلياً القوة الخارقة التي تدير شؤون العالم، هو بذلك سبق افلاطون في زج المعتقدات الغيبية في التفسيرات العقلية للكون، هو قانون العالم ويكون السبب في الوجود، ذلك ان هذا القانون موجود داخل النفس البشرية، لو ركزنا في نص انجيل يوحنا لوجدنا التشابه الشديد في الاستدلال والمعنى الذي قصده هيرقليطس نراه في سفر يوحنا بكل وضوح ” في البدء كان الكلمة ” اللوغوس ” ... الكلمة صار بشراً وحل بيننا ” (3) حلول الاراده الإلهية التي تدير شؤون الكون موجودة في الذات البشرية، قد وجدت طريقها عند يوحنا في ذات يسوع المسيح، انها قانون العالم الخالد والقوة الأزلية انها حلت بين البشر. اننا امام تراث عقلي عقائدي انتقل من فلسفة التحليلات العقلية الى فلسفة الواقع البشري ورثت ذات المفهوم الإستدلالي في اللوغوس ان يكون بشراً، فهو الحقيقة والجوهر الواحد للعالم المحسوس. اول من نادى بفكرة اللوغوس مبدأ العقيدة الروحانية موجود في كل مكان مشترك بين جميع الخلق وما في نفوسنا إلا قبس منه وقد اشار يوحنا الى ذات الطبيعة اللاهوتية في شخص المسيح ” انا والأب واحد ” (4) واحد في الجوهر وفي الطبيعة اللاهوتية، رغم الوحدة اللاهوتية بين الأب والابن في سفر يوحنا قد تناقضت كما في نص ” أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌاحْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ ” (5) لقد قدم الدين المصري القديم واللاهوت الاغريقي معاً صياغة الإله اذ جعل ” إن خلق العالم خطط له عقل الإله وكانت وسيلة التنفيذ كلمة نطق بها وهذا استباق مذهل لعقيدة الإغريق التي ظهرت بعد ذلك بفترة طويلة حول اللوغوس Logos او الكلمة المقدسة، وفضلا عن ذلك فإن «لاهوت الخلق ” في هرموبوليس hermopolic (6) المدينة التي كانت في العصور الوثنية القديمة ارتبطت بها ثمانية آلهة في مصر القديمة. إن فكرة اللوغوس Logos كانت واسعة الإنتشار قبل قيام المسيحية، وقد اثر فيلون الاسكندري في سفر يوحنا مؤمناً بفكرة اللوغوس ” الكلمة ” كذلك كيف تمكنت تعاليم هيراقليطس بقوة تأثيرها على انجيل يوحنا، فكما ان يوحنا اشار الى ازلية يسوع المسيح ”الكلمة” : ” كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ، فيه كانت الحياة ” وهي اضافة لم تختلف عن فكرة هيرقليطس في اللوغوس : ” هو حقيقة ايضاً مطلقة فوق التغيير المحسوس ” أن اللوغوس عند هيراقليطس مبدأ مادي منبثة فى العالم متحد به، وعنده هو موجود روحى مفارق للعالم مسيطر عليه تجسد البشرية من نير الخطية ، كما كان عند يوحنا الإنجيلي شخصاً تاريخياً تجسدت فيه الكلمة. ان هيراقليطس يذهب أيضا إلى القول بأن الكلمة منبثة في الآراء المتغيرة ولكنها أيضا مفارقة ، كما ان هيراقليطس كان يذهب أيضا إلى أن الكلمة تجسدت فيه هو، فالمذهب المسيحي في الكلمة، إنما هو كل تفسير واضح مؤكد لمذهب هيراقليطس” (7) عند مقارنة الفكر الفلسفي اليوناني بعقيدة تجسد المسيح وفي جعله الاقنوم الثاني في الذات الإلهية يكون القديس امبروسيوس قد جعل يسوع المسيح هي الذات الإلهية التي اسس بنائها الفكري افلاطون، فيلون، هيرقليطس، وغيرهم من دعاة الفكر التجريدي في ايجاد سبب عقلي يكون علة وجود العالم.
لقد اكد القديس اغسطينوس ان معرفة الإبن معرفة الأب نفسه، فهو ابنه وكلمته، اما عدم معرفته ” وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ ” فلقد فسّرها القديس اغسطينوس ليس من صالحنا ان يخبرنا بما ليس في صالحنا ان نعرفه. قرأ القديس اوغسطينوس من آباء الكنيسة اللاتينية كان ابوه وثنيا، كتابات افلاطون وعلى الأرجح افلوطين نفسه ” ووجد لديهم حول الماهية الإلهية وطبيعة الشر تصورات فتحت له سبلاً جديدة، فقد فهم ان الله نور، جوهر روحي كل شي تابع له وهو غير تابع لأحد ” (8) فهذا دليل نقلي وتاريخي برهن ان التراث الفلسفي اليوناني قد وجّه الكثير من القادة الدينيين في ايجاد لاهوت منظم منطقي كان اصلاً من معتقدات يونانية اكتسبت جذورها العقائدية من التقاليد الوثنية ثم تطوّر الى الفكر الفلسفي الذي انتج اللوغوس في تاريخ المعتقدات الغيبية حتى صاغه قادة الأديان في التشكيل اللاهوتي للعقيدة المسيحية فيما بعد.
مثل نتاج فيلون الاسكندري واحداً من الانعكاسات ” الأبلغ دلالة لتوفيقية النصف الأول من القرن الأول الميلادي ، تلك التوفيقية التي تلاقى فيها الفكر اليوناني والفكر العبري ... ورائداً للأفلاطونية المحدثة، وبانياً لمذهب يمكن معه البلوغ إلى الله الواحد عن طريق قوى وسيطة، وعلى الأخص منها )اللوغوس) يميز فيلون أفلاطونيته، وكذلك مجهوده لبيان حضور الفلسفة في نصوص اليهود المقدسة ولتأويل هذه النصوص تأويلاً نظرياً. تاريخ اليهود هو ما يتخذه أساساً وما يفسره. لكن ما يميزه هو ان قصص هذا التاريخ ووقائعه العينية تفقد بالنسبة إليه دلالتها المباشرة كواقع فعلي، وأنه يدخل عليها، بدءاً من الألفاظ ذاتها، دلالة صوفية ومجازية، فيلقي على هذا النحو افلاطون في موسى” (9) لقد اسهم نتاج فيلون الاسكندري في نقل اللاهوت اليوناني حول الطبيعة الإلهية التي انتجها العقل الأفلاطوني، الى التراث اليهودي في شكله الغيبي في النصوص المقدسة وشكلت العقيدة المركزية للتوراة والاسفار المنحولة. لقد تم تأسيس الطبيعة اللاهوتية ليسوع المسيح في مؤتمر نيقية، على يد القديس اثناسيوس وبعد ان انتصر صراعه العقائدي عند اندلاع خصومته مع الآريوسيين، وكانت اشهر مؤلفاته ” عن اصول العقيدة ” الرد على اليونانيين وخطاب في التجسد ” ففي معرض دفاعه عن اللوغوس المتجسد اشار ان التجسد موجود في اصبع القدم هكذا ” اللوغوس يسود الكون كله والجسد جزء من الكل .. العقل موجود في الإنسان ويعبر عنه بجزء واحد هو اللسان .. هكذا اللوغوس كائن في كل الاشياء واستخدم الجسد البشري كأداة ويكرر فكرة الجسد كأداة اكثر من مرة ” (10) بهذا يكون اثناسيوس قد عارض اللوغوس اليوناني ووجد منطقاً اقتبسه من الأصل اليوناني كي يقيم الدليل على الوهية يسوع المسيح، رغم ان المنطق الجدلي نفسه لم يبرهن على صحته الواقعية لا مؤتمر نيقية ولا اثناسيوس نفسه عدا كونه منطق خال من الاستدلال وبهدف ايجاد معتقد لاهوتي ليس اكثر. بحسب كتاب The Religious Content of Ethnic Identities المحتوى الديني للهويات العرقية، تحفز صراعات الهوية الدينية والصراعات الاجتماعية الاخرى لقوميات مختلفة، كما هو الحال في استنباط فكرة اللوغوس عند افلاطون يوناني الأصل لم تكن عبر التجسد، بينما اثناسيوس يهودي الاصل مسيحي الولاء، اقتبس فكرة افلاطون اضاف عليها عقيدة التجسد، ان الدوافع القومية العرقية، فقد تكتسب للأبعاد الدينية تعصباً، منطقاً خاصاً بها وان اقتبسها من الاصل وعلى هذا فإن هناك العديد من السياقات لها علاقة متبادلة بين الدين والعرق، يلعب الدين دوراً داعماً للمحور العرقي. هي عقيدة عقلية في الفكر اليوناني، لكنها حالة تجسد في الفكر اللاهوتي المسيحي، لكن تبقى اصولها اللاهوتية لا علاقة لها بمعتقدات التجسد. كيف فهم اليهود ” اللوغوس ” في العهد القديم؟ بحسب الترجمة العبرية لكلمة הדבר استخدمت بمعنى نطق الله وكلامه مع انبيائه، وقد تكلم مع موسى في حوارات عديدة كما في سفر الخروج، لقد فهم اليهود كلام الله المعنى اللفظي المباشر، فهو الكلام الذي صنع الشريعة بشكل جعل الله شخصية واحدة، اقنوم إلهي واحد غير منقسم، غير مرئي، كيان مقدس، استخدم كلام الله للإرشاد، للأوامر والنواهي.
لقد فهم اليهود كلام الله كما فهمه موسى في سفر العدد 11 ” فقال الرب لموسى هل تقصر يد الرب. الان ترى ايوافيك كلامي ام لا فخرج موسى وكلّم الشعب بكلام الرب ” هكذا فهم اليهود تجسّد ” الكلمة ” اللوغوس كان بعيداً عن كل التوقعات اللاهوتية، عقيدة في كل اسفار العهد القديم، فلم تكن حياتهم اللاهوتية عن تجسّد اللوغوس بشكل صريح ومعلن، حتى في الترجمة السبعينية او في الاسفار العبرانية، لم يكن تاريخ الآباء الاوائل الذين دافعوا عن عقيدة المسيح شكلا تجسدياً ناسوتياً للإله الذي نادى به المسيح. كانت اسفارهم ملأى بمخزون تجريدي معنوي لتقريب العلاقة بين الرب والناس كما وردت في الكثير من اسفار العهد القديم كسفر الامثال ” الرب قناني ”انشأني” أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم” فهذه التعابير الحسية ذو الصبغة الوجدانية في الاسلوب الشعري مهدت الطريق للجماعات الكهنوتية اليهودية ممكن اجادوا اللغة اليونانية مزجوا بين الافكار الفلسفية والتاريخ العبري للمعتقدات اللاهوتية، ان تحولت الى نتاج فلسفي جديد ابعد المسيحية عن خطها التقليدي في التأمل الإيماني للذات الإلهية جعلت يوحنا خارج التراث اللاهوتي بخياله الديني في سفره.
لقد اثر فيلون الاسكندري في التاريخ اللاهوتي اليهودي الخالي من التصورات الفلسفية لبناء عقيدة لاهوتية اندمجت مع المنطق التصوري للخالق في الفكر الفلسفي اليوناني فقام بصياغة العقيدة اليهودية بما يتناسب مع طريقة التفكير الفلسفي اليوناني ليكون هناك اتحاد عقلي عقائدي فلسفي مشترك في التراث اللاهوتي اليوناني اليهودي. لقد شهد عصر الآباء الاوائل تطوراً عقلياً في صياغة المعتقدات كما كان شأن الغنوسية التي اضافت غموظاً جديداً للعقائد الفلسفية حتى اختلط التاريخ الوثني للمعتقدات خاصة عندما انتمى الرسول بولس وهو حديث العهد بالوثنية للمسيحية فقام بوضع تعاليم ومبادئ دينية لم تكن في شريعة يسوع المسيح كالدم والفداء، الكفارة، وعقيدة الصلب، حتى ظهر التجسد نتاجاً فكرياً فلسفياً اختلط مع الإيمان الصافي في استحداث الطبيعة الناسوتية واللاهوتية كي يتخذ من جسد المسيح الكلمة التي اصبحت جسداً وحلت بتاريخ العقيدة المسيحية، وقد مثل الاقنوم الثاني في الذات الإلهية. ترسخت تلك المعتقدات ونضجت في القرن الثاني الميلادي، حتى بات مصطلح اللوغوس ضمن الثقافية الاغريقية الرومانية اليهودية، وفي الاسفار المنحولة لتكون اداة تبشير بالوعد المسياني القادم في المعتقدات اليهودية، فصار الكون كله حقيقة لاهوتية مطلقة امام مخلوق بشري واحد بشخص يسوع المسيح. صار مساوٍ لله في الجوهر، ذلك ان المفهوم الغيبي في الفلسفة اليونانية تناقض مفهوم الله وطبيعة مصالحه على الارض كشخص يتصف بصفات تخص ذاته للمعتقد اليهودي، لقد نجح فيلون الاسكندري في تثبيت المعتقد اليهودي من خلال الفلسفة الاغريقية في فكرة اللوغوس الذي تحول الى كيان إلهي الوجود بطبيعة بشرية صار الوسيط بين الله والناس وصار الله نفسه في إله ثلاثي الأقانيم.
لقد حل التفسير الرمزي في بعض فقرات الكتاب المقدس بما يتلائم مع عقيدة اللاهوت في اللوغوس، اذ تم ترجمة سفر التكوين27 : 1 ” فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ” رغم ان صورة الله ترمز الى دلالات عديدة، لكنهاعند فيلون الاسكندري اللوغوس الذي يحتوى الكيان الإلهي بين الناس، وقد ظهر تأثير فيلون والفكر الفلسفي الافلاطوني في انجيل يوحنا، حتى صار المرجع اللاهوتي الأهم في كنائس العالم المسيحي. ان مبدأ اللوغوس المتماثل مع عقيدة حلول اللاهوت في الطبيعة الناسوتية ليسوع المسيح تعارضت بشدة في محتواها الشخصي ليسوع المسيح وتناسبت بشدة مع جهل القديس يوحنا في عالم المعتقدات اللاهوتية اليهودية، ففي موضوع تجربة ابليس ليسوع تضائل لاهوت المسيح بل انعدم امام محاولات اغرائه، رأينا كيف تأثر هذا الجسد الناسوتي في الروح اللاهوتية، فلقد تساوى يسوع مع جميع البشر، ذلك ان الله وحده يمتلك السلطان على الشيطان ولا يخضع لتجربة : ” أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح في البرية أربَعينَ يومًا يُجَرَّبُ مِنْ إبليسَ. ولَمْ يأكُلْ شَيئًا في تِلكَ الأيّامِ. ولَمّا تمَّتْ جاعَ أخيرًا ” (11) يتضح من النص ان يسوع المسيح لم يكن ممتلئاً من الروح القدس، قبل عودته من الأردن، فكيف امتلأ من الاقنوم الثالث وهو الأقنوم الثاني المعادل في الذات الإلهية؟ ذلك بحسب عقيدة الثالوث والتجسد هو الاقنوم الاول، كذلك قد امتلأ بالروح القدس، وهل علم ابليس انه يجرب الله المتجسد والكلي القدرة؟ ان عقيدة ” الكلمة ” التي اضفاها يوحنا برهنت ان ناسوت يسوع قد فارق لاهوته اثناء التجربة، تعارض هذا الناسوت بما لا يحتمله الحرمان من الأكل اربعين يوماً، كذلك ابليس تصرف بهذا اللاهوت المتجسد ” فصارت ” الكلمة ” خاضعة لأوامر ابليس. ان تجربة يسوع المسيح ” لوغوس العقيدة اللاهوتية ” تعارضت مع الأيمان المطلق للإله الكلي القدرة ” لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا” (12) فمن الذي اعطى للشيطان هيمنة التحكم بالإله المتجسد؟ لابد ان يكون يسوع المسيح نفسه، فهل هذا يناسب الأيمان السليم؟ ان العهد القديم بكل اسفاره لم يضع الله في موقف الخاضع كي يبرهن لذاته فنون الطاعه لمخلوق يعارضه وهو يعلم انه الخالق. فلو ادرك يسوع المسيح انه الله الكلمة، وانه الكلي القدره بلاهوته الناسوتي لما تم اقتياده من قبل الشيطان.
المراجع ومصادر البحث :
1 - تاريخ الفكر الديني الجاهلي ، د محمد ابراهيم الفيومي ، طبعة رابعة، دار الفكر العربي القاهرة 1994 ، مطبعة اميرة، عابدين. ص 150. فيلو الاسكندري ونشأة الفلسفة الدينية.
2- Entwistle, David N., Integrative Approaches to Psychology and Christianity, p148 نسخة محفوظة ، ، يناير 2020 Wayback Machine, Digital archive by the Internet Archive.
3- سفر يوحنا، اصحاح 1 : 14
4 – سفر يوحنا اصحاح 10 : 30
5 – سفر يوحنا اصحاح 17 : 22
6 – المعتقدات الدينية لدى الشعوب، مشرف التحرير جفري بارندر، ترجمة إمام عبدالفتاح، عالم المعرفة 1993 ، ص 37 .
7 – هيراقليطس فيلسوف التغيير، واثره في الفكر الفلسفي، دكتور علي سامي النشار، طبعة اولى 1969، ص 273 -275. دار المعارف. مصر.
8 – معجم الفلاسفة، طبعة ثالثة، جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت 2006 ، ص 117 .
9 - معجم الفلاسفة، طبعة ثالثة، جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت 2006 ، ص 490 .
10 – تجسد الكلمة، اثناسيوس الرسولي، المركز الارثوذكسي للدراسات، الفصل 42 .
11 – سفر لوقا، اصحاح 4 : 1 -2 .
12 - رسالة يعقوب 1: 13
#باسم_عبدالله (هاشتاغ)
Basim_Abdulla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟