أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - الرشدية اللاتينية: بذور النهضة الأوروبية وخسارة العالم الإسلامي















المزيد.....

الرشدية اللاتينية: بذور النهضة الأوروبية وخسارة العالم الإسلامي


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8201 - 2024 / 12 / 24 - 14:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حين نتأمل مسار التاريخ الإنساني، نجد أن المفكرين هم المحرك الأول لتقدمه أو تخلفه. وبين هؤلاء المفكرين يبرز اسم الفيلسوف العربي ابن رشد، الذي شكلت كتاباته أحد الجسور الفكرية الكبرى بين الحضارة الإسلامية وأوروبا، وأضاءت الطريق نحو النهضة الأوروبية.
لقد كان للإمبراطور فريدريك الثاني (1194-1250 م) دور محوري في هذا التحول. فلقد كان فريدريك شخصية استثنائية، عُرف بكونه مثقفًا ومحبًا للعلم، وحرص على رعاية الفلاسفة والمفكرين من مختلف الأديان والثقافات. لقد أمر بترجمة أعمال ابن رشد إلى اللاتينية خلال القرن الثالث عشر، مما أدى إلى انتشار أفكاره في أوروبا. هذه الترجمات، التي أصبحت المرجع الفكري لمدرسة تُعرف بـ"الرشدية اللاتينية"، لم تكن مجرد نقل للنصوص، بل كانت زرعًا لبذور التفكير العقلاني في أوروبا.
في إطار حديثنا عن دور الحكام في النهوض الفكري، لا يمكننا أن نغفل المقارنة بين فريدريك الثاني في أوروبا والمأمون في العالم الإسلامي. فلقد لعب كل منهما دورًا محوريًا في تعزيز العلم والفكر في عصره.
كان المأمون (786-833م) خليفة عباسيًا ذو اهتمامات علمية وفكرية، وقد أسس بيت الحكمة في بغداد، وهو مركز علمي عظيم سعى من خلاله لترجمة النصوص الفلسفية والعلمية اليونانية إلى اللغة العربية، حيث كان له دور كبير في تشجيع المعتزلة والفلاسفة على تبني العقلانية. كما دعم ترجمة أعمال الفلاسفة اليونانيين، بما في ذلك أرسطو وأفلاطون، وأثار جدلاً واسعًا حول مسألة العلاقة بين العقل والدين.
لكن هذا الاهتمام الفلسفي والعلمي لم يكن خاليًا من التحديات. فقد دعم المأمون المعتزلة وأعطاهم صلاحيات كبيرة في توجيه الفكر الإسلامي. ورغم هذا، فإن هذه الحركة كانت قد تعرضت لانتقادات من تيارات دينية أخرى، عارضت الفكر العقلاني للمعتزلة ورفض التأثر بالفلسفات الغربية. ومع تراجع النفوذ المعتزلي وظهور الفكر السلفي المدعوم، لاحقا، من فقه ابن تيمية، بدأ العالم الإسلامي في الإبتعاد عن الفكر العقلاني، وأصبح الفكر الفلسفي، مثل فكر ابن رشد، عرضة للمحاربة.
لقد كان فقه ابن تيمية الذي تميز بالتشدد والتكفير حجر الزاوية في تحول الفكر الإسلامي نحو الانغلاق. فابن تيمية، الذي عاش في القرن الثالث عشر، شدد على ضرورة العودة إلى النصوص التقليدية ورفض الفلسفات التي تهدد "الصفاء الديني" في رأيه. فلقد اتخذ من الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة أساسًا لرفض أي شكل من أشكال الفلسفة العقلية، بما في ذلك فلسفة ابن رشد التي كانت تدعو إلى التوفيق بين العقل والنقل.
وقد شكل فقه ابن تيمية حجر عثرة أمام انتشار الفكر العقلاني في العالم الإسلامي. فبعدما حرقت كتب ابن رشد وانتصرت الرجعية الدينية متمثلة في الفقه التقليدي وأغلق باب العقلنة والتفكير النقدي تماما في تفسير الدين والعالم، ازداد الأمر صعوبة بهيمنة فقه ابن تيمية على الفكر السني التقليدي. ومنذ ذلك الحين حوصر فكر ابن رشد من قبل التيارات السلفية المتشددة، التي رأت في فلسفته تهديدًا لمعتقداتها الدينية.
منذ ذلك الوقت، أصبح فقه ابن تيمية صاحب التأثير الأكبر والأقوى على المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، خاصة في المذاهب السنية، وبذلك تم تعزيز الفكر التكفيري الذي يعادي أي نوع من الاجتهاد العقلي أو التأويل غير الحرفي للنصوص. فالتكفير أصبح أداة سياسية ودينية ضد أي فكر يخالف التقليد الجامد.
رغم تأثير فلسفة ابن رشد في أوروبا، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية في بداية الأمر كانت من أشد معارضي الرشدية اللاتينية. اتُهم من يتبنون فلسفة ابن رشد بأنهم "عملاء للمسلمين"، وسُلطت عليهم سهام الاتهام بالهرطقة والخيانة للإيمان المسيحي. هذه التهم لم تكن إلا وسيلة للحفاظ على السلطة الفكرية والدينية للكنيسة ومنع أي تهديد قد يزعزع استقرارها.
إن اللافت أن هذا المشهد لم ينته بعد، فلم يقتصر بتفاصيله بل وحرفيته على أوروبا في العصور الوسطى. بل إنه مازال يمتد حتى اللحظة الآنية، ومازال المشهد ذاته يتكرر في العالم العربي، ولكن مع تبادل الأدوار. فالمفكرون العرب الذين يدعون إلى الانفتاح العقلاني ويتحدون الجمود الفكري اليوم يُتهمون بأنهم "عملاء للغرب"، ويواجهون اتهامات بالخيانة والابتعاد عن الهوية الثقافية والدينية، وكأنها تهم معلبة يستخرجها أعداء العقل في كل زمان ومكان.
هذا التطابق بين أصحاب الفكر الرجعي في العصور المختلفة يكشف أن المؤسسات الدينية الجامدة، سواء في الغرب الكاثوليكي القديم أو العالم الإسلامي الحديث، تعتمد النهج نفسه في مواجهة العقلانية. فتهم العمالة والخيانة دائمًا جاهزة لتكميم الأفواه وقمع الفكر الحر، مما يؤدي إلى ركود المجتمعات وتأخرها.

إن نموذج الإمبراطور فريدريك الثاني يمثل مثالًا نادرًا على الحاكم الذي فهم العلاقة الوثيقة بين العلم ونهضة الأمم. ففي وقت كان فيه معظم ممالك أوروبا غارقة في صراعات دينية وسياسية مريرة، اختار فريدريك أن يبني حكمه على أسس ثقافية وعلمية راسخة. إنه لم يكن مجرد حاميًا للفكر، بل كان قائدًا متوهجًا بشغف المعرفة، يدعم العلماء والمفكرين، ويشجع على الترجمة والانفتاح على مختلف الثقافات.

إن تجربة فريدريك تقدم درسًا عميقًا ومؤثرًا للحكام العرب في عصرنا الحاضر. في ظل ما يواجهه العالم العربي من تحديات تتراوح بين التخلف العلمي والجمود الفكري والانقسامات الاجتماعية، يصبح من الضروري أن يتولى الحكام دورًا محوريًا في النهوض بالفكر والعلم. فعليهم أن يكونوا راعين حقيقيين للمفكرين، بدلاً من محاربتهم أو التشكيك في نواياهم، ليكونوا بذلك طليعة لنهضة جديدة تقوم على أسس معرفية وثقافية راسخة.

إن العالم العربي اليوم يقف أمام مفترق طرق: هل يستلهم حكامه تجربة فريدريك الثاني في قيادة نهضة فكرية وعلمية، أم سيظلون أسرى الجمود الفكري؟ وكما أشار الدكتور مراد وهبة، فإن تبني منهج ابن رشد القائم على العقلانية والنقد هو السبيل الوحيد للخروج من حالة التخلف والجمود.
ختامًا، يبقى السؤال مطروحًا: هل سنتعلم من تاريخ أوروبا الذي استفاد من ابن رشد رغم التحديات، أم سنظل ندور في دوائر الاتهامات والتخوين؟ الإجابة تكمن في شجاعة الحكام وقدرتهم على كسر قيود الرجعية وتبني مشروع تنويري شامل.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التنوير العربي: رحلة متواصلة نحو العقلانية والعلم
- العقل السحري بين الشرق والغرب: تأملات في عقول الجماهير والمد ...
- ألمانيا في محنة: بين جراح الإرهاب وصوت الضمير
- إعمال العقل في النصوص الدينية: بين نور الفكر وظلام الجمود
- مصر والجائزة الكبرى في مخطط الشرق الأوسط الجديد
- اللغة العربية: بين عظمة الإرث وتحديات العصر
- قراءة في خريطة الصراعات العالمية والإقليمية: مستقبل العرب وم ...
- العقل النقدي بين “حرية العقل” وتحقيق “دويتشه فيله”: معركة ال ...
- الذكاء الاصطناعي: شريك الإنسانية في غزو المستقبل واستكشاف عو ...
- الفوضى الخلاقة: معارك عربية بين الانهيار والصمود
- في الوفاء نكتب: قيمة إنسانية لا تموت
- التاريخ بين الحقيقة والتحريف: دعوة لدراسته بمنهج علمي موضوعي
- الحب.. بوابة العروج إلى السماء
- حرية العقل وبوصلة الفكر: التعليم في مواجهة الفوضى الكبرى
- قراءة في قرارات القيادة العامة السورية: رؤية شاملة لمستقبل ج ...
- سوريا بعد سقوط الأسد: تحديات ومطامع
- سوريا بعد سقوط النظام: تحديات المرحلة المقبلة بين مطامع الخا ...
- وهم هاتف تسلا الرخيص ومعاناة الفقراء
- اهتمامات الشعوب بين العالم العربي والغرب: قراءة في أولويات ث ...
- في أسر الأسطورة: العقل العربي والإسلامي بين الماضي وتحديات ا ...


المزيد.....




- هل تعتقد أن اغتيال المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي فكرة جيدة ...
- 1400 عام من الصمود.. ما الذي يجعل أمة الإسلام خالدة؟
- وزراء خارجية 20 دولة عربية وإسلامية يدينون الهجمات الإسرائيل ...
- هكذا يتدرج الاحتلال في السيطرة على المسجد الإبراهيمي بالخليل ...
- خطوات تثبيت تردد قناة طيور الجنة نايل سات وعرب سات 2025 .. ث ...
- نتنياهو: لا أستبعد اغتيال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ...
- الخليل.. إسرائيل تخنق البلدة القديمة وتغلق المسجد الإبراهيمي ...
- الاحتلال يهدم غرفة زراعية ويواصل إغلاق مداخل سلفيت ومستعمروه ...
- المفتي قبلان: عدم التضامن مع إيران يعني خسارة العرب والدول ا ...
- بعد سنوات من الصمت.. “الجمل” يعيد الروح الرياضية للمؤسسة الع ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - الرشدية اللاتينية: بذور النهضة الأوروبية وخسارة العالم الإسلامي