أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - إعمال العقل في النصوص الدينية: بين نور الفكر وظلام الجمود















المزيد.....

إعمال العقل في النصوص الدينية: بين نور الفكر وظلام الجمود


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 13:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في زاوية منسية من التاريخ، يقف ابن رشد، شامخاً كطود لا تهزه عواصف الزمن. كان هذا الفيلسوف الأندلسي رمزا لعصر عظيم، عصر حمل فيه العقل لواءه وارتقى فيه الفكر إلى ذرى لا تطالها أيدي الجمود. لقد اجترح ابن رشد مساراً شاقاً، لا يخشى فيه مواجهة التيار السائد، ولا يرتد أمام حراس التقليد الذين يرون في التجديد تهديداً لأركان عالمهم الراكد.

لقد آمن ابن رشد بأن الدين والعقل صنوان لا يفترقان، وأن النصوص الدينية إنما جاءت لتُفهم وفق قواعد العقل والمنطق. كان يرى أن الحقيقة واحدة، وأنها لا يمكن أن تتناقض بين ما جاء به الوحي وما اكتشفه العقل. ولكنه كان مدركاً تماماً أن هذا القول ليس يسيراً، وأن معركته ليست مع الأفكار وحسب، بل مع مصالح القوى التي تتخذ من الجمود سلاحاً لإحكام قبضتها على العقول.

حين وقف ابن رشد أمام موجة الهجوم عليه، لم يكن يواجهها بسلاح الحقد، بل بسلاح العلم. لقد ألّف شروحه وكتبه، وطرح أفكاره التي استقت من منابع الحكمة اليونانية وامتزجت بروح الشريعة الإسلامية. ولكنه في النهاية خسر المعركة. لم تكن الخسارة خسارته وحده، بل خسارة أمة بأكملها. لقد تم نفيه، وتم إحراق كتبه، وكأن الأمة أعلنت قطيعتها مع العقل. وفي تلك اللحظة الفاصلة، لم يُطفأ نور ابن رشد فحسب، بل أُسدلت ستائر الظلام على مستقبل كان يمكن أن يكون أكثر إشراقاً.

لو أن ابن رشد قد انتصر، لكان وجه العالم الإسلامي مختلفاً تماماً. كان يمكن لعصر التنوير أن يبدأ في الأندلس بدلاً من أوروبا، ولكان العقل المسلم قد أخذ بزمام العلم منذ قرون، موحداً بين الحكمة الإلهية والبحث العلمي. لكن ما حدث كان عكس ذلك. لقد انتصر التيار السلفي، الذي رأى في كل جديد بدعة، وفي كل فكر حر خروجاً عن الدين.
وعلى الجانب الآخر من التاريخ، كان هناك تيار آخر يعيد بعث فكرة التنوير، ولو بعد قرون من القمع. المعتزلة، الذين برزوا في العصر العباسي، كانوا سابقين لابن رشد في رفع راية العقل، وكانوا قد أسسوا رؤية تجعل من العقل حكماً في تفسير النصوص الدينية، متخذين من مبدأ “التأويل” وسيلة لفهم النصوص وفقاً للمنطق والعقلانية.

حظي المعتزلة في البداية بحماية الدولة، لا سيما في عهد الخليفة المأمون، الذي كان يعتبرهم حلفاءً في مشروعه الفكري والسياسي. فلقد رأى المأمون في المعتزلة تياراً يجسد روح التجديد والانفتاح، ومنحهم مكانة بارزة في بلاطه، حتى أنه استخدمهم لترويج فكرة “خلق القرآن”، تلك القضية التي جعلها محورية في سياسته، مما دفع الدولة إلى تبني هذا الموقف رسمياً.

لكن هذه الحماية من الدولة لم تستمر طويلاً. فبعد وفاة المأمون، تغيرت السياسة، واعتلى العرش خلفاء أقل ميلاً للعقلانية وأكثر انحيازاً للمؤسسة الدينية التقليدية. ففي عهد الخليفة المتوكل على الله، انقلب الحال تماماً، وبدأت مرحلة انتقام قاسية من المعتزلة، إذ أُقصوا من مواقع السلطة والنفوذ، وتم اضطهادهم بصورة ممنهجة.

لقد أصبح الفكر المعتزلي بعد ذلك هدفاً سهلاً للتكفير والتشويه، بل ومُنعت كتبهم وأحرقت مؤلفاتهم. لقد انتقلت المؤسسة الدينية التقليدية من موقف الدفاع إلى الهجوم، واستخدمت سلطتها الروحية لتحكم قبضتها على المجتمع وتخنق أي محاولات لإحياء الفكر العقلاني. وانتهت قصة المعتزلة كتيار سياسي وفكري مسيطر، لكن أفكارهم لم تمت، بل ظلت حية في قلوب وكتابات أولئك الذين حلموا بعالم تسوده حرية الفكر والاجتهاد.

هذه القصة المؤلمة للمعتزلة تحمل في طياتها درساً بالغ الأهمية: حين تحمي السلطة السياسية المفكرين من بطش القوى الدينية الجامدة، يُتاح للعقل أن يزدهر، وللمجتمع أن يتقدم. لكن حين تنقلب الدولة ضد هؤلاء المفكرين، فإنها لا تهدمهم وحدهم، بل تهدم معها فرصاً ثمينة للنهضة.

إن مطالبة الحاكم بحماية المفكرين ليست ترفاً فكرياً، بل هي شرط أساسي لأي مشروع حضاري. فحينما تتصالح الدولة مع العقل وتوفر له الحماية من ضغوط المؤسسات التقليدية، يصبح بالإمكان بناء منظومة فكرية تجمع بين الإيمان والحداثة، بين النص والعقل. ولكن إذا انجرفت الدولة مع تيارات الجمود، فإنها تصبح شريكاً في قمع الإبداع وتثبيت التخلف.

لقد كان المعتزلة مثالاً حياً لما يمكن أن يتحقق عندما يجد العقل مساحة من الحرية، ومأساة لما يحدث عندما يُترك فريسة لأعداء التنوير. وحين ننظر إلى تاريخهم، ندرك أهمية الحاكم العادل الذي لا يخشى ضغوط القوى التقليدية، بل يحمي الفكر ويؤمن بأن التقدم يبدأ من حرية العقول.
وما إن حاول المفكرون في العصر الحديث استلهام روحهم، حتى واجهوا نفس المصير.

لقد أعاد محمد عبده وجمال الدين الأفغاني إشعال فتيل العقل في فهم الدين، حيث رأيا أن الجمود هو علة الأمة، وأن لا نهضة لها إلا بفتح باب الاجتهاد وتجديد الفكر. لم يكن ذلك سهلاً، فقد واجها رفضاً من قوى التقليد، ورغم ذلك ترك محمد عبده أثره في كتابه “رسالة التوحيد”، بينما جمعت أفكار جمال الدين الأفغاني في كتابه “العروة الوثقى”. أما الأزهري علي عبد الرازق، الذي حاول أن يحرر السياسة من قبضة الدين، فكان كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الشرارة التي أشعلت ضده موجة من العزل والتجريد من مكانته. أما طه حسين، الذي فتح ملفات التراث بشجاعة نادرة، أثار عاصفة من الغضب بكتابه “في الشعر الجاهلي”. ونأتي إلى نصر حامد أبو زيد، الذي حاول قراءة النصوص قراءة حداثية، قدم أطروحته الجريئة في كتاب “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”، لكنه وُضع في قفص الاتهام بالتكفير. وأخيرا إسلام البحيري، الذي واجه التراث بعين نقدية، ركز على تقديم رؤيته في برامجه التلفزيونية مثل “مع إسلام”، وأصدر كتاب “الإمام” الذي ناقش فيه التراث الإسلامي بجرأة، لكنه لم ينجُ من المحاكمة والهجوم الإعلامي الشرس.

كل هؤلاء كانوا امتداداً لروح ابن رشد، وإن اختلفت الأزمنة وتعددت الأسماء. لكن القاسم المشترك بينهم جميعاً كان نفس العدو: تيار الجمود الذي يخشى العقل أكثر من أي شيء آخر، لأنه يعلم أن انتصار العقل يعني هدم أصنامه التي أقامها عبر العصور.

ما أكثر ما أضاع المسلمون من فرص! لو أن التاريخ منح ابن رشد فرصته ليكون هو القائد الفكري للأمة، لربما كانت هذه الأمة الآن في مصاف الأمم الرائدة في العلم والحضارة. لكن النكسة التي بدأت مع محاكمته ونفيه استمرت كجرح نازف، لا يزال أثره ممتداً حتى يومنا هذا.

ورغم كل ذلك، لا يزال الأمل قائماً. إن الروح التي حملها ابن رشد والمعتزلة ومن جاء بعدهم لن تنطفئ. فالعقل لا يموت، والفكر لا يُقهر. وسيظل نور العقل باقياً، حتى وإن حاولت أيادٍ كثيرة أن تخبو شعلته. إن الأمة بحاجة إلى أن تعيد اكتشاف نفسها، وأن تعود إلى الجذور التي جمعت بين الإيمان والتفكير، بين النصوص وسعة الفهم، بين الماضي والحاضر، لتبني مستقبلاً يتسع للجميع، ويحتضن نور العقل دون خوف أو تردد.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصر والجائزة الكبرى في مخطط الشرق الأوسط الجديد
- اللغة العربية: بين عظمة الإرث وتحديات العصر
- قراءة في خريطة الصراعات العالمية والإقليمية: مستقبل العرب وم ...
- العقل النقدي بين “حرية العقل” وتحقيق “دويتشه فيله”: معركة ال ...
- الذكاء الاصطناعي: شريك الإنسانية في غزو المستقبل واستكشاف عو ...
- الفوضى الخلاقة: معارك عربية بين الانهيار والصمود
- في الوفاء نكتب: قيمة إنسانية لا تموت
- التاريخ بين الحقيقة والتحريف: دعوة لدراسته بمنهج علمي موضوعي
- الحب.. بوابة العروج إلى السماء
- حرية العقل وبوصلة الفكر: التعليم في مواجهة الفوضى الكبرى
- قراءة في قرارات القيادة العامة السورية: رؤية شاملة لمستقبل ج ...
- سوريا بعد سقوط الأسد: تحديات ومطامع
- سوريا بعد سقوط النظام: تحديات المرحلة المقبلة بين مطامع الخا ...
- وهم هاتف تسلا الرخيص ومعاناة الفقراء
- اهتمامات الشعوب بين العالم العربي والغرب: قراءة في أولويات ث ...
- في أسر الأسطورة: العقل العربي والإسلامي بين الماضي وتحديات ا ...
- في العالم المتقدم: الحسد خرافة تم تفكيك أسطورتها
- العقول التي صنعت المجد: العلماء والفلاسفة والأدباء قادة الحض ...
- إنترنت الأشياء: عصر جديد من الترابط الذكي في حياتنا اليومية
- ابن خلدون: أعجوبة مازال تأثيرها حاضرا


المزيد.....




- الشيخ طريف: على أبناء الطائفة الدرزية في سوريا أخذ المكانة ا ...
- حماس تطالب بالنفير العام لحماية المسجد الأقصى من مخططات المس ...
- دلعي عيالك يا ست الكل.. اضبطي الان تردد قناة طيور الجنة على ...
- أمير الجماعة الإسلامية في كشمير: كل أشكال مقاومة الاحتلال ال ...
- قانون تنظيم الفتوى الجديد يكرس احتكار المؤسسات الرسمية للشأن ...
- أستراليا.. ألبانيزي يستبعد وزيرا مسلما وآخر يهوديا من حكومته ...
- كيف كانت علاقة بن لادن بالجماعات الجهادية خلال تواجده في الس ...
- بابا الفاتيكان الجديد ليو الرابع عشر: ما أكبر التحديات التي ...
- تردد قناة طيور الجنة الحديث على النايل سات والعرب لضحك الأطف ...
- مستوطن إسرائيلي يحاول إدخال قربان إلى المسجد الأقصى


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - إعمال العقل في النصوص الدينية: بين نور الفكر وظلام الجمود