محمد احمد الغريب عبدربه
الحوار المتمدن-العدد: 8199 - 2024 / 12 / 22 - 02:12
المحور:
الادب والفن
فيلم قطعة من الجمال، قصيدة هادئة من صرخات الشعر، الاستعارة والبلاغة فيه ليست معقدة، عائلة مليئة بالامراض النفسية، الاربعة اشقاء يصارعون انفسهم وامهم، والعالم والوجود، وعلي الاقل منهم واحد عاقل فقط، والباقي يفقدون العقل والرشد بمختلف درجاته، ففي فيلمه قبضات في الجيب عام 1965، يمكن القول ان المخرج الايطالي ماركو بيلوتشيو استطاع صنع بداياته الاولي في صناعة السينما، بل في جماليات السينما .
النفسانية السينمائية
من المعروف دائما أن السينما الايطالية هي مهد الجماليات في تاريخ السينما والافلام، ولا يمكن لأحد ان يتعلم صناعة صور جيدة ومليئة بالجمال دون استدراج نفسه نحو هذه السينما الايطالية المعهودة بالجمال والصور الشاعرية الجميلة، ففي الفيلم جمال الشخصيات، ورصد هواجسها، فالجمال الجسدي، والجمالي النفسي، يصور بيلوتشيو تفاصيل للنفسيات في صورة شعرية، ولكنها هادئة، لا يمكننا القول ان هناك ذريعة نفسية فرويدية، او هواجس شديد السيكولوجية في الصورة، انما الهدوء يسيطر كثيرا في صورة بيلوتشيو، وفيلمه القبضات في الجيب.
يصف الفيلم العوالم الداخلية النفسية للشخصيات وليس العالم الخارجي السيكولوجي، ويركز علي عوالم اليساندرو الداخلية والخفية وهو بطل الفيلم واكثر الشخصيات تحريكا للاحداث، فهو مصاب بالصراع النفسي، ويبزر تحركات بالصورة لجسده لا ارادية مثل مشهد التقلب علي السرير، وحركات يديه، وايضا يبرز الفيلم بعض من مشاهد العزلة لاخته جوليا التي تعاني من اضطرابات نفسية، وهي ارسلت رسالة لخطيبة الاخ الاكبر العاقل الوحيد.
هدوء وسلاسة الصورة
وتأتي الصورة الفنية واللغة السينمائية للفيلم وايضا جماليات وفلسفة الصورة منسجمة مع الاحداث، ولا يكون هناك تعالي او تكلف في الصورة، وهناك تطبيق ممتاز لهذه القواعد في الفيلم، مما يؤدي الي هدوء في المشهدية، ورغم قسوة الشخصيات الاربعة والام الكفيفة، فهناك اخ يعاني ايضا ولكنه عاقل، حيث يعول اربعة الام المصابة بالعمي وثلاثة من الاشقاء مرضي نفسيين وفقدان عقولهم، يتأتي السرد جماليا هادئة، وليش به توحش او غضب، بينهم وهنا السرد جماليا للغاية حول الكأبة والبؤس لدي هذه الاسرة، فالحديث بينهم يأتي بسلاسة وايضا الحكاية التي تعني الحكاية ليس صراعية بشدة، كما ان التعبير عن حالة الصرع لدي ليون ليست قاسية او فقدان العقل لدي جولي والصرع ساندرو ليس قاسية في مشاهد قوية للتأمل .
الواقعية الجديدة
واتسمت القصة بالواقعية والصورة، ايضا فليس هناك تمثيل ظاهر، وليست هناك احداث في السرد تنتظر التشويق، وهو فيلم يأتي في الواقعية الجديدة الايطالية، والتي تميزت بالصورة المباشرة والتعامل مع ممثلين غير محترفين، وايضا التركيز علي النظام الاجتماعي والفقراء، ويتفق الفيلم مع كل هذه القواعد الفنية للواقعية الجديدة إلا اختلاف الموضوع الذي يركز علي ابعاد نفسية وليس اقتصادية او اجتماعية، وهو يتعرض للظروف الاجتماعية ولكن من الناحية السيكولوجية بشكل مباشر، فهو يتحدث عن اسرة وافرداها ومعاناتهم ولكن من الناحية النفسية.
السينما الصافية
ويلاحظ ايضا ان الجماليات هنا في الفيلم من نوعية السينما الصافية، فليس هناك جماليات خارجة من واقعية الاحداث، او حالة ابهار، كما ان رصد الاحداث والناحية التسجيلية للفيلم ليست زائدة عن الحد، فماركو استطاع ان لا يدعي شيئا في الفيلم، او يفرض خطاب جماليا اكثر من اللازم، فهي جماليات متوسطة بين الصافية والجماليات المكثفة او الملوحظة، وهو ابتكار للصورة يحسب لماركو، ويجب الانتباه اليه.
الكاميرا تتحدث
استطاع ماركو بيلوتشيو ان يخلق ما يسمي بالكاميرا النفسية، فالصور لا تعبر عن التعقيد النفسي فالجماليات او الصور لا تحمل خطابا مكلفا لشهوة المشاهدة، فالصور دائما زاهدة او صافية دون حتي صفاء السينما الذي يعبر عم جماليات ولكن قدرة الكاميرا علي رصد المعني النفسي بنواحي تسجيلية وروائية كان جيدا جدا، او قد يكون ماركو من ابدع الكاميرا النفسية في الفيلم، فمن مناحي كثيرة في الفيلم ماركو عبر عن مكنونات الشخصيات باريحية نفسية شديدة.
تحتوي الصورة علي كلوزات للشخصيات حتي تضعها في معني ضيق او حيرة من امرها، او في مجال اوسع لجعلها تتحدث عن نفسها بحركتها، ففي الكلوزات الضيقة للصور تعبيرات الوجه والهمس والنظرة تعبر، في الواسع حركة الجسد والانفعال الكلي للجسد يعبر عن ما يدور من احداث او معني في الفيلم .
الشعرية والحزن
استطاع ماركو في الفيلم ان يسير وفقا للتوازي في السيكولوجي بمعني ان الشخصيات النفسية تسير بالتوازي في خطوط متتالية، فالشخصيات منفصلة في السرد وفي الصورة، واستطاع ان يصل بهذه الحالة الشاعرية الي المشاهد، ويذكر الباحث السينمائي رايفين فرجاني مقولات تاركوفسكي حول السينما الشعرية والتي توافق مع أندريه بازان مطلق شعلة الموجة الفرنسية، وأندريه بريتون المنظر الكبير للسينما السريالية أن الشاعرية السينمائية هي تجربة شعورية فنية بواسطة السينما، يراد بها إيصال نشوة غير مألوفة للمشاهد، من خلال الاستغراق في الذات، والانفصال عن الواقع، عبر خلق صور مشوهة وأنماط بصرية غير مألوفة أو غير مشاهدة في الواقع. ونلاحظ ذلك جيدة في فيلم "قبضات في الجيب" حيث نري قصيدة شعر حزينة عن الاخوات الاربعة لا تتوقف عن النحيب والحزن، والتأمل الوجودي لنفسيات شخصيات من الذكر الي الانثي الي الام الي كل شئ، حتي اوغستو الاخ العاقل والسعيد نتأمله بشاعرية.
وهذا التوازي في السرد وفي الصورة اجاده ماركو في توزيع وسرد الشخصيات الاخوات الاربعة والام ثم التوازي مع الحياة العادية والوجود في الفيلم، فاستطاع بروح تسيجيلية ماركو ان يبرز ابعاد وتفاصيل الحياة بجوار سرده للأسرة السيكولوجية..
الفراغ والعزلة
الفراغ بين الشخصيات او في الصورة استطاع بيلوتشيو ان يتقنه جيداً فجعل الفراغ او المساحات الواسعة معادلا بصريا لتعبير عن المعني، او التعبير عن الأسي والعزلة للشخصيات وعن السكيولوجيا ايضا. ولكن لم يكثف ماركو مساحات الفراغ تشكيليا علي الصورة، فكانت هناك مشاهد اخري بدون فراغ، وكانت الشخصيات مكثفة فوق بعضها البعض، ولكن توظيف الفراغ كان احيانا وفي بعض المشهديه لديه فقط.
ملامح الشعر والقصيدة
شاعرية الكاميرا
وفيما ذكره الباحث السينمائي في مقالته احمد عزت، لوجهة نظر المخرج والمنظر الايطالي بازوليني حول دور الكاميرا في خلق لغة السينما الشعرية، حيث يرى أن من شروط الشعرية في السينما «أن تجعل الكاميرا تشعر»، عكس السينما الكلاسيكية التي كانت تجتهد لإخفاء مشاعر الكاميرا للإبقاء على حالة الإيهام التي يستغرق فيها المشاهد. بينما تميل السينما الحديثة لكسر الإيهام باستخدام الكاميرا المحمولة باليد أو تقنيات مثل الاهتزاز، والتقريب والتبعيد وتغيير العدسات. هذا الإحساس بالحضور الدائم للكاميرا هو أحد عناصر لغة الشعر في السينما، تجعل المشاهد أكثر فعالية ومشاركًا في خلق العمل الفني وليس مجرد مشاهد سلبي.
وفي فيلمنا لماركو بيلوتشيو، نري الكثير من الشعر للكاميرا، وحضورها الفاضح، وهي كاميرا شعرية من الاتجاه الطبيعي للشعر، وليس كاميرا شاعرية لاتجاه شعري معين، فكل الشخصيات في الفيلم تتحرك وفقا احاسيسها الخاصة، وتعبر عن مكنونها، ولذا هي شاعرية علاماتية ايضا وفقا لسينما الباطن عند كريستيان ميتز، وشاعرية فرويدية لدي لاوعي النفس، ولكن لم تكثف العلامات لدي ميتز وايضا لم يتوغل فرويد في مشهدية بيلوتشيو.
اللاواقعية والتركيب
ويؤكد تاركوفسكي المخرج الروسي في حديثه عن الشعرية في السينما إلى أن هذا التعبير أصبح مألوفاً وشائعاً، وهو يعني السينما التي تبتعد بجسارة، في صورها، عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة في رصدها للحياة على نحو خالص وصاف ودقيق. ويضيف حسبما ذكره الباحث السينمائي امين صالح، قائلا "يتم تصعيد الشعور وتعميقه، ويصير المتفرج فعالاً أكثر. إنه يصبح مشاركاً في عملية اكتشاف الحياة، بلا عون أو دعم من قِبل الاستنتاجات الجاهزة من الحبكة أو من تلميحات المؤلف المتعذّر مقاومتها. تحت تصرّفه فقط ما يساعد على اختراق المعنى الأعمق للظواهر المركّبة المعروضة أمامه”.
ويضح تاركوفسي سمتين في السينما الشاعرية، وهو البعد عن الواقعية، رغم انها تمثل الواقع، ولكنها تمثله في حقيقته في جانبه اللامعقول واللاواقعي، فصفة تمثل الواقع كما هو في الصورة والفيلم لا يعطيان اي مدلول حقيقي للمعني والحياة، ولذا البعد عن التمثل المباشر يساعد الثورة علي اثارة المزيد من الشعرية لدي المشاهد، والسمة الثانية وهي الصفة التركيبية، وهي تتعلق ببط الزمن والحركة في الصورة وفقا لوجودها الحقيقي في الحياة الواقع، وهي الحركة والزمن الحقيقيين، فيتم التركيب في اللقطات والسرد وليس لقطات وسرد جاهزين، ولكن يتم تركيبيهم وفقا لوجودهم الحقيقي.
وقد اعتمد ماركو بيلوتشيو في فيلمه، علي التركيب في السيكولوجي، حيث جعل المشاهد يعيش الزمن النفسي الحقيقي للشخصيات والفيلم، حيث يصبح المشاهد وفقا لتاركوفسكي اكثر فعالية، فيتأثر كثيرا بالسرد النفسي واحوال الشخصيات، وانفعالاتهم المتعددة، ويعيش معهم في عوالم النفسية، وهي السمة الثالثة التي يركز عليها تاركوفسكي، وهي التعميق وزيادة فعالية المشاهد وهو ما نجده في الفيلم.
ويتحول المخرج الي جماليات بالطبيعة، وبالتشكيل والتكوينات، خاصة منذ وفاة الأم التي لا تري عن طريق الابن ساندرو، الذي قذف بها من اعلي الجبل الي النهر، وذلك حتي ينهي معاناتها، ويعطي فرصة للاخ الاكبر العاقل لكي يبدأ حياته، او يبدأ مسار جديد في تاريه العائلة، وهذا تحول للجماليات ملحوظ من جانب المخرج ماركو، وهي جماليات حزينة جدا، وهنا الصورة تنطق وتصبح محور التحول، من الجماليات الهادئة بلا حدث، الي جماليات صاخبة بالشاعرية والحزن.
المعني الشاعري
وحول المعني في اللغة الطبيعة العادية، وبين اللغة في السينما، والجدل المثار حول لغة الناطقة ولغة السينما، وذلك حول توليد المعني في كلا منهما، يري عبد الكريم قادري، "هناك تشابه في المنظومة اللغوية، الشعر يتكون من عدة كلمات لتوليد المعنى، وكذلك الفيلم يتكون من مشاهد كثيرة لتوليد المعنى، من هنا يلتقيان في توليد المعنى أو حتى الصورة الشعرية انطلاقا من جودة كل صورة، سواء في السينما أو الشعر".
فالمعني يتولد في الصورة والفيلم مثل ما يتولد في اللغة العادية، واستطاع المخرج ماركو ان يولد معاني الحزن والماسأة والعوز، وهي مسائل وجودية انسانية حول البحث عن النجاة، او فن المعايشة داخل اسرة مكونة من خمس افراد يعانون كلهم بما فيهم الأخ العاقل الاكبر.
#محمد_احمد_الغريب_عبدربه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟