علم الدين بدرية
الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 01:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كُلَّمَا كَبِرْتُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَخَطَّ الشَّيْبُ مَفْرَقَيَّ مُعْلِنًا زِيَادَةَ سُؤَالٍ آخَرَ فِي لَوْحَةِ ذَاتِي، صُورَتِي النَّاطِقَة بِعَالَمِ الأَحْلامِ، مُسْتَنْطِقًا الضَّيَاعَ، مُسْتَنْفِرًا بَقَايَا أضْغَاثِي الْقَدِيْمَةِ!! كُلَّمَا نَضَجَتْ أَفْكَاري التَّأمُّلِيّة وَتَجَلَّتِ الْحِكْمَةُ فِي الذِّرَةِ الْقُدْسِيَّةِ بِمَوَاطِنِ الْحَقِيْقَةِ، حَقِيْقَتِي الْمُجَرّدة، وعْيي الْمُتَجَرِّد فِي مِعْرَاجِ الْوَاحِد، وَتَفَتَّحَتْ بِنَفْسِي أزْهَارُ الْمَعْرِفَةِ، مِشْكَاة النُّورِ فِي تَوَهُّجِ قَنْدِيْلِي الْخَافِتِ فِي ظَلامِ الْجَهْلِ.. إهْلِيْلَجُ أَفْكَارٍ تَشَعُّ فِي أَشْكَالِ الْلُوتُس الْمُقَدَّسَةِ، النَّامِيَةِ فَوْقَ سَطْحِ بُحَيْرَةِ الأَنَا الْحَقِيْقِيّ، ولَيْسَ هَذَا الْجَسَدَ الْبَالِي الْمُتَلاشِي فِي بِحَارِ الْعَتْمَاتِ ... فَوَطَنِي الْحَقَيْقِيّ أَنــَـــــــــــــا ...!! وأَنَا لَسْتُ بِأَنَـــــــــــــــا ... في خَلَجَاتِ نَفْسي تَسْتَطَعُ الْحَقِيْقَةُ مُضِيْئَةً بِنُورِ الْيَقِيْن، تُنِيْرُ لِتِلْكَ النّقْطَةِ التَّائِهَةِ عَبْرَ خَفَقَاتِ الْحَنَايَا وِسَرَادِيْبِ التّجَارُبِ والْمُعَانَاةِ والنّسْيَان، دَرْبَ الْعَوْدَةِ وَالرّجُوعِ إلى مُحِيْطِ الْمَعْرِفَةِ والْعِرْفَان ... فَبَيْنَ رِحْلَةِ الْعَوْدَةِ والإيَابِ تَكْمُنُ حَقِيْقَةُ الْحَيَاةِ، لَكِنَّ مَخَاضَ الْوِلادَةِ ونَزَعَاتِ الانْعِتَاقْ تُنْسِيْنَا الْهَدَفَ الْكَامِنَ فِي الأَعْمَاقْ!!
هِمْسُ الرُّوحِ لَيْسَ حُلْمًا ولا صَحْوًا ولا نَوْمًا ولا يَقْظَةً، وإنَّمَا هُوَ فَقَطْ مُجَرّدُ وَعْيٍ فِي حَقِيْقَةِ الْوِجُودْ، حَقِيْقَةِ الذَّاتْ ...
(أيُّهَا السُّكَارَى فِي حُلْمِ الْخَلِيْقَةِ، لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ خَلِيْقَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ حُلْمٌ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ إلاّ مَحْضَ الْوِجُودِ الَّذِي هُوَ الْوَعْيُ الْمُطْلَقُ الْمَغْمُورُ بِالسَّعَادَةِ الأَزَلِيَّةِ) *
(الْكَائِنُ الْفَرْدَيُّ الْذي تَدْعُوهُ "أنَا" قَدْ اتَّخَذَ شَكْلَهُ الْمُعَذَّبَ وإذْ ذَاكَ ظَهَرَ الْوَهْمُ الشَّامِلُ "Maya" الْوَهِمُ الَّذي هُوَ الْجَسَدُ والَّلحَمُ وَالْحَوَاسُ والأَثِيْرُ الدّاخِلُ فِي كُلَّ شَيء والنَّارُ والْهَوَاءُ والْمَاءُ والتُّرَابُ، الْوَهْمُ أيْضًا هُوَ النِّسْيَانُ والذَّاكِرَةُ والزَّمَنُ) * *
إنَّ جَمِيْعَ مَا نُشَاهِدُهُ فِي عَالَمِ الْحِسِّ، وَنَرَاهُ فِي عَالَمِ الْوَاقِعِ الْمَادِيّ لَيْسَ هُوَ دَائِمًا الْحَقِيْقَة، إِنَّمَا هُوَ خَيَالاَتُ فِي عَالَمِ الصُّورِ وَالأَشْيَاءِ وَانْعِكَاسِ لِلْحَقِيْقَةِ فِي صُورٍ هُولُوجَرَامِيَّةٍ ثُلاثِيَّة الأَبْعَادِ وَهَذَا مَا أُثْبِتَ عِلْمِيًّا حَوْلَ كَوْنٍ مُتَعَدِّدِ الأَبْعَادِ تَوَصَّلَ إِلِيِّهَا عَالِمُ الْفِيْزِيَاءِ النَّظَرِيَّةِ خوان مالداسينا*** فِي تَحْقِيْقٍ لِلْمَبْدَأ الْهُولُوغَرَافِيّ فِي نَظَريَّةِ الأَوْتَارِ، فَكُلُّ مَا نَرَاهُ هُوَ اِهْتِزَازُ ذَبْذَبَاتٍ تُنْتِجُ عَنْهَا الْمَادَّةُ لِتُشَكَّلَ عَالَمًا ثُلاَثَيَّ الأَبْعَادِ اِنْعِكَاسًا لِوُجُودٍ حَقِيْقِيٍّ فِي أَبْعَادٍ أُخْرَى.
إِنَّ قُدُرَاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ مُعَقَّدَةٌ جِدًّا لِمَنْ يُحاوِلُ أنْ يَفْهَمَهَا، لَكِنَّهَا بَسِيْطَةٌ جِدًّا لِمَنْ يُحاوِلُ أنْ يَسْعَدَ بِهَا. وَكَأَنَّ لُغْزَ هَذِهِ السَّعَادَةِ هُوَ أنَّهَا بِلا لُغْزٍ لِمَنْ يَشْعُرُ بِفَرْحَةِ الْحَيَاةِ شُعُورًا صَحِيْحًا مُسْتَمَدًّامِنْ قُدْرَتِهِ عَلَىَ أنْ يَرْضَى بِكُلِّ شَيءٍ وَبِلاَ شَيءٍ ، فَفَرْحَةُ هَذِهِ الْحَيَاةِ مُسْتَمَدِّةٌ مِنْ قُدْرَةِ الإِنْسَانِ الَّذي يُمْكِنُهُ أنْ يَشْعُرَ بِهَا ، فَيَفْرَحَ بِالْحَيَاةِ فِي الصَّحَةِ وَالْمَرَضِ، النَّجَاحِ وَالْفَشَلِ وَالْمَجْدِ وَالْهَوَانْ، وَالَّذِي لَنْ يَخْطُوَ خُطْوَةً وَاحِدَةً نَحْوَ كَشْفِ أَيّ لُغْزِ مِنْ أَلْغَازِهَا ، إلاَّ إذَا أَيْقَنَ أنَّهَا لاَ تُخْفِي لُغْزًا ، إلاّ ذلكَ الَّذِي يُثِيْرُهُ الْعَقْلُ الْعَاجِزُ فِي مُحَاوَلةِ كَشْفِ هَذَا الْلُّغْزِ ولاَ عَجَبَ فَأَنَّ عَقْلَ الإِنْسَانِ هُو الْلُّغْزُ الأَكْبَرُ الْكَائِنُ وَرَاءَ قُدَرَاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ كُلَّهَا .
هَلْ لِلْحَيَاةِ مَعْنَىً؟! وَهَلْ هِيَ جَدِيْرَةٌ أَنْ تُعَاشُ وَتَسْتَمِرُّ؟!
اِخْتَلَفَتِ إِجَابَاتُ الْفَلاسِفَةِ والْمُفَكِّريْنَ عَلىَ هّذَيْن السُّؤَاليْن الْخَطِيْريْن، وَمِنْ حَقِّ أيّ إنْسَان أَنْ يَوَّجِهَ نَفْسَ السُّؤَالَيْن، أوْ أيّة أَسْئِلَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا الصَّدَدِ، وَمِنْ حَقِّهِ كَذَلكَ أنْ يَجِدَ لَهَا الْجَوَابَ الَّذي يَرْتَاحَ إليهِ.
مُعْظَمُ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الْحَيَاةَ وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، وَيُفَارِقُونَهَا وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، ثُمَّ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مُتَحَيّرُونَ، سُواءً أكَانُوا يَدْرُون أوْ لاَ يَدْرُونْ!! يَأتُونَ وَيُغَادِونَ وَالأَسْئِلَةُ عَالِقَةٌ دُونَ إِجَابَةٍ، تَدُورُ وَتَدُورُ فِي حَلَقَةٍ مُفْرَغَةٍ وَالْحَقِيْقَةُ هَاجِعَةٌ فِي بُعْدٍ آخَرَ لاَ يَرَاهَا إِلاَّ مَنْ زَالَتْ عَنْ عَيْنِيْهِ غَشَاوَةُ الْوَهْمِ فَتَفَتَّحَتْ بَصِيْرَتُهُ وَاسْتَفَاقَ مِنْ حُلْمِ الْوِلاَدَةِ وَالْمَوْتِ، فَتَسَاوَتْ عِنْدَهُ الأَمَاكِنُ وَالأَزْمَانُ وَتَلاَشَتِ آلْمَسَافَاتُ وَالأَبْعَادُ وَعَادَتِ النُّقْطَةُ التَّائِهَةُ إلىَ الْمُحِيْطِ فَتَلاشَى كُلُّ شَيءٍ إلاَّ ذَلكَ النُّورْ ...
رِحْلةُ الْحَيَاةِ عَلىَ الأَرضِ ، هَذَا الْمِشْوَارُ الطَّويْلُ الْمَليءُ بِالأَشْوَاكِ والزُّهُورِ ، يَمُرُّ سَرِيْعًا كَشَريْطٍ سِيْنَمَائيٍّ أَمَامَ أنْظَارِنَا ، نَحْنُ الْمُسَافِرُونَ في هَذِهِ الدُّنْيَا وَهُنَاكَ الْكَثِيْرُ مِنَ الْمُحَطَّاتِ ، لَكِنَّ قِطَارَ الأَيَامِ لاَ يَنْتَظِرُ ، أُنَاسٌ رَاكِضُونَ دَوْمًا وَراءَ أوْهَامَ وَهُمُومَ الْحَيَاةِ وآخَرُونَ مُتَفَرِّجُون ، حَزَمُوا حَقَائِبَهُم وَلَمْ يُسَافِرُوا وَبَقُوا مُنْتَظِريْن عَلىَ قَارِعَةِ الْوَقْتِ الْمَمْدُودِ وَأَشْلاءِ الزَّمَنِ الْمَوْهُومِ ، بَعْضُنَا مُمَثِّلُون عَلىَ خَشَبَةِ الْمَسْرَحِ وَبَعْضُنَا مُشَاهِدُون وَالْمَسْرَحِيَّةُ مُسْتَمِرَّةٌ ، تَعْرِضُ قِصَصًا وَحِكَايَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جَدِيدْ .
عِنْدَمَا يُسْدَلُ السِّتَارُ بَعْدَ الْمَشْهَدِ الأخِيْرِ، سَيَتَوَقَّف جَرْييَ خَلْفَ الأَشْيَاءِ، سأغِيْبُ عَنْ مَسْرحِ الدُّمى لأسْتَقْبِلَ شَكْلاً آخَرَ لِلْحَيَاة، يُسَميَّهُ الْبَعضُ مَوْتًا، لَكِنَّنِي أُسَمِيَّهُ عَوْدةً وَولادَةً أُخْرَى وَتَحَوّلاً مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ فِي بُعْدٍ جَدِيْدٍ آخَرَ، الْوَعْيُ يَنْبُضُ بِكُلِّ الأَبْعَادِ وَصِرَاعُ الْمَعْرِفَةِ لاَ يَنْتَهِي يَتَقَمَّصُ حَيَاةً أُخْرَى أَوْ شَكْلاً آخَرَ لِلْحَيَاةِ لِيُعِيْدَ تَسَاؤلاتٍ وَتَسَاؤلاتْ!! هَذِهِ الشُّعْلَةِ الْقُدْسِيَّةِ بِدَاخِلِي لَنْ تَعْرِفَ الرَّاحَة أَبَدًا، لَنْ تَسْهُوَ، لَنْ تَهْدَأَ، لَنْ تَنَامَ، عِرَاكِهَا مَعَ الْمَجْهُولِ مُسْتَمِرٌّ إِلى مَالاَنِهَايِة.
بِعَزْفِ الْمُوسِيْقَى الأَزَلِيَّةِ تَتَرَنَّمُ الرُّوحُ بِاعْتِلاءِ دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ النَرْفَانَا ، تَمْتَلِئُ نَفْسِيَ بالإشْرَاقِ وَتَسْطَعُ شَمْسُ الْحَقِ بِنُورِ الْوُجُودِ ، أنْسَىَ ذَاتِي فِي مِعْراجِ رَحِيْقِ الْعِرْفَانِ وأعْلَمُ أنّي ذَرَةٌ ضَائِعَةٌ فِي هَوْلِ اِتِّسَاعِ الْكَوْنْ ... وَمْضَةُ الإشْرَاقِ فِي أَعْمَاقِي الْهَاجِعَةِ تَرْنُو إِلى الْقِمَّةِ الْمُقَدَّسَةِ بَيْنَ الْقِمَمِ الَّتي يَتَأمَلُ مِنْها الإنْسَانُ ذَاكَ الْجَمَالَ وَهُوَ فِي طَريْقِهِ نَحْوَ الْمَعْرِفَةِ ، أُحَرِّرُ ذَاتِي مِنْ ذَاتِي ، أَصْهَرُ الأنَا الْحَقِيْقيّ بِنَفْسِيَ بالأَنَا الْكُليّ الْخَالِدِ لَعَلِّي أنْعَتِقُ مِنْ لَحْدِ ذَاتِي وأَؤُوبُ إِلى جِبَالِ الأَوَلِيْنَ فَتَشِعُّ زَهْرَةُ الْلُّوْتُسِ الْبَيْضَاءِ فِي مِعْرَاجِ الْوَاصِلِيْن .. أَصْبُو إِلى مِحْرَابِ النُّورِ الأَزَليّ، أُسْرِي نَحْوَ قِبْلَةِ الْعَارِفِيْن، مِشْكَاةِ الْكَلِمَةِ الأُوُلى فِي اِنْبِثَاقِ الْعَقْلِ الْكُلِيّ لِلْوُجُودِ.
سَأَفْتَحُ أَبْوَابِيَ وَأُشَرَّعَ نَوَافِذِيَ عَلىَ مِصْرَاعَيْهَا وَأُنَظِّفُ فِرَاشِيَ مِنْ غُبَارِ الآثَامِ وَأَدْرَانِ الأَحْقَادِ لِيَدْخُلَ هَوَاءٌ نَقِيٌّ وَضَيَاءٌ، فَعِنْدَهَا وَعِنْدَهَا فَقَطْ أَكُونُ مُجَرَّدًا مِنْ الْبُغْضِ وَالْحُبِّ مَعًا، مِنْ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ سَوَاءْ.
* كمال جنبلاط "الْحَيَاةُ والنُّور"
** نَشِيْد لِطايو مانافار
*** خوان مارتن مالداسينا هو عالم فيزياء نظرية أرجنتيني، أسس نظرية الأوتار والجاذبية الكميّة.
#علم_الدين_بدرية (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟