أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي الجنابي - عَوْدٌ بَعدَ طُولِ غِيَاب














المزيد.....

عَوْدٌ بَعدَ طُولِ غِيَاب


علي الجنابي
كاتب

(Ali . El-ganabi)


الحوار المتمدن-العدد: 8132 - 2024 / 10 / 16 - 09:25
المحور: الادب والفن
    


رَجَعْتُ الى بَغدَادَ مُتلَهِّفاً لنَوارسَ دجلةَ بعدَ طَوالِ غِيَاب. غِيابٍ ضَاعَتْ بهِ الأيامُ في أرَقٍ وجزعٍ من ضُروبِ الإغتِراب، وزَلَقٍ وجَزعٍ في دُروبِ الإكتِئاب، وماكانَ الاغتِرابُ إلّا غُروباً موجِعاً بعَذاب.
عُدُّتُ الى بَغدادَ وعنها ما ابتَعدتُ لحظةً في فُؤاديَ باحتجَاب، بلِ النَّبضُ فيها كلَّ حينٍ كانَ نابضاً بمَقامِ البَياتِ باستِطرَاب:
"على شَواطئِ دجلَة مُرْ، يا مُنيَتي وقتَ الفَجر، شُوفوا الطَّبيعة تِزهي بَديعة، ليلة ربيعَة يضوي البدرْ ..".
عُدُّتُ لبغدَادَ فقبَّلتُ رأسَ ما تَبقَّى من أهلِ داريَ الأحبَاب، ولقد بَصُرتُ رُؤوسَهمُ بالغَمِّ مُتَذَمِّرَةً وفيهِ شَارِعةً باستِقطاب، وكُؤوسَهم بالهَمِّ مُتَخَمِّرَةً ومنهُ جارِعةً بانكِبَاب، فقَالُوا لي؛ " كُلْ قِطَعَاً مِن كَعكَةِ بهجَتِنا بكَ وذَرِ كلَّابَ الغَمَّ وما أصَاب. كَعكعةٍ مُعطَّرةِ بماءِ دجلةَ بخِضَاب، ومؤطَّرةٍ بعَسلِ تَمرِها، وبَيضُ نوارِسها كانَ لها الرُّضَاب". فأجهَضتُ على قطعَةٍ ثمَّ نَهَضتُ مُيَمِّماً وَجهيَ شَطرَ منزلِ صَديقٍ من سَالفِ الأصحَاب.
صَديقي هذا هوَ لديَّ الأعزُّ بينَ الصِّحَاب، وما إنفكَّ يَعصِفُني طِيلةَ سِنينَ مِن اغتِراب، بنَفخٍ مِن لاذعِ حَرفٍ ولفحٍ من لاسعِ خطاب، على مَعَرَّةِ هَجريَ الوَطنِ وما كانَ يُباليَ بما لديَّ من أسبَاب، بل يُعَيِّرُني بفِراريَ مِن الوطنِ إن حاقَ بِرافِديهِ والتُّراب، مُحتلٌّ غاشِمٌ باغتِصاب، سَائِقٌ أمامَهُ أدِلّاءَ من هَوامٍ وذُباب، وأذلّاءَ مِمَّا سيخلِفُهُ من أذناب.
صديقي كانَ ينصحُنيَ أنَّ الأوطانَ حينَ الرَّغدِ أحضَانٌ لأهلِها ولضيوفٍ أغراب، و حينَ الرَّعدِ هيَ خنَادِقُ كفاحٍ لأبنائِها حتَّى يَنجليَ الضَّيمُ والضَّباب، وما كانَتِ الأوطانُ فَنادِقَ استِجمامٍ واستِرطاب.
ضَرَبَ خُنصُري على الجَرَسِ فَفتحَ صديقي ليَ البَاب، فأعربَ لي بحَنينٍ صَافٍ وخَلَّاب، وأنينٍ وافٍ من تِرحاب. ثمَّ غَربَ حَنينُنا والأنينُ الى كأسِ دَمعٍ فَشَربنا منهُ باضطِراب. ثمَّ هَربَ من صَديقي كلَّ عَصفٍ كانَ قد عَصَفَني بهِ طَوالَ أيامِ الغياب. فنَادَيتُهُ بكَلمٍ مَكلومٍ من فمٍ يَتَبَلَّعُ باللُّعاب؛
- كيفَ أنتَ يا خيرَةَ الأحبَاب؟
- لا تَسلْ عِراقيَّاً "كيفَ أنتَ" في ذا حقبةٍ من أحقَاب، كيلا تضطَرَّهُ لردٍّ كاذبٍ من جَواب؛ " أنا بخيرٍ ولا يَنقُصنيَ إلّا رؤيةَ الأحبَاب". ولسوفَ ترى عينَاكَ ما في البلادِ من سُبابٍ وخرابٍ العجبَ العجاب.
- قد عُدُّتُ في أجازةٍ خاطِفةٍ لأتَمَلَّصَ من آهاتِ الاغتراب، وأتَخَلَّصَ ولو لشهرٍ من واهاتٍ في الصَّدرِ جَلَلٍ صِعاب.
- حسَناً فعلتَ يا نابِضَاً "بالهامبُرغرَ"، ورابضاً في "الكافِيه" ورافِضَاً لليشماغِ والجلباب. ولا ريبَ أنَّ لتُرابِ الوطنِ رَنَّةً بِأنَّةٍ من عَذاب، وكُثَيِّبُ رَملِهِ هوَ على خَافقِكَ دَوماً غالبٌ غَلَّاب. وذلكَ كُثَيِّبٌ لا يشعرُ بدِفئِهِ إلّا مَن فارَقَهُ شَطرَ الهَوى الأشقرِ الجَذّاب. وأراكَ قد غَرفتَ من ذاكَ الهَوى حتَّى بردَ فيكَ الوَطيسَ وكفَّ عنكَ سيلُ اللُّعاب. ثمَّ عَرَفتَ دِفءَ النَّوى في هذا الكُثيِّبِ الغَلّاب، فَذَرَفتَ الدَّمعَ فانجَرَفتَ صَوبَهُ توقاً بانقِلاب، وإذِ كان نغمُ "على شَواطئِ دجلة مُرْ" لكَ رافِعاً، والدَّمعُ فيكَ وقتَ الفجر دافعاً وقد تَهطَّلَتِ الأهداب.
- أجل، يا زبدَةَ مَن رأتَ عينيَّ من أصحَاب. بيدَ أنَّ دَمعيَ قد جَفَّ وكَفَّتْ رَعشَةُ الأهداب، لمَّا بَصُرتُ وأنا في طَريقيَ إليكَ خَراباً في تَباب. وإذ رأيتُ القومَ قد أبدلَوا صورةَ الزَّعيمِ بألفِ صَورةٍ لزعماءَ شتّى من أحزاب وحتَّى عمائِمَ دينٍ شيبةٍ وشَباب، وإذ شَعرتُ أنَّها صُورٌ لضباعٍ، وبعضُها كانت أقربُ لوجوهِ ذِئاب. وإذ رأيتُهم كارَهينَ لأشارةِ مرورٍ وَمُتَفَكِّهينَ بالشَّغبِ والصَّخبِ جيئةً وذهاب. وإذ يتَفَوَّهونَ بكلِّ تلاعنٍ وتلاحنٍ وسباب. لقد شَعرتُ أنَّهم مُتَرَفِّهونَ بحَالكٍ من جهالةٍ ولا يفهمونَ خردَلةً في فيزياءَ ولا حتَّى جدولِ الضَّربِ في الحِسَاب. وعَجَبي هذا أُبدِيهِ بينَ يَديكَ بامتعَاضٍ وارتيَاب، فَعَسى أن يكونَ بؤبؤُ عينيَ هو ناقدٌ حاقِدٌ كذَّاب، فما عهَدتُ بني قوميَ عبر سِجلَّاتِ الأحقَابِ والأعقَاب، إلَّا من ذوي الفضائلَ ومن خيرةِ الأنسَابِ والأحسَاب. فهَلَّا أنبأتنيَ يا صاحبي باقتِضاب؛
ماهذا السَّفهُ في النُّفوسِ والسَّفلُ بأقبحِ ما يكونُ من خطاب. وعَلامَ قائِمٌ ومستَمِرٌّ هذا الخزيُ وهذا الخَراب. أوَليسَ الحِصارُ عنِ بلدِنا قدِ انقَشَعَ، والاستبدادُ عن مُتونهِ قدِ انخَلَعَ، ثمَّ قانونُ "الدِّيمُقراطيةَ"في قلبهِ قدِ انجَمَعَ، وهاهوَ"بنكُهُ"المركزيِّ بالأموالِ قدِ فاضَ وارتَفَعَ فوقَ السَّحَاب. فعلامَ قائِمٌ هذا السَّفلُ وذا الخَزيُ والخَراب؟
- لا أدري يا أخيَّ، وحقَّاً لا أملكُ لكَ بينَ يديَّ من جواب. بلِ العَجَبُ إنَّ حُكمَ البلدِ مدعومٌ من أممِ الغربِ كافةً بإيجاب، وإنَّهُ مباركٌ من مَراجعِ الدِّينِ كافَّةً باستِحباب، ومؤَيَّدٌ من مجامعِ العشَائرِ وغيرُ مُعاب. أنا حقَّاً لا أملكُ تبياناً عن ذا سَفَهٍ وسَفَلٍ مَهينٍ مُعاب. وألتمسُ منكَ العذرَ يا صاحبي على مافَرَّطَ لساني بحقِّكَ من عَصْفٍ فَاقدٍ للذَّوقِ والآداب. ولكَ أن تقصِفُنيَ الآنَ بشَذرٍ من عِتَاب بل بشَرَرٍ من عِقاب، جزاءً وفاقاً على ما عَصَفتُ بهِ عليكَ طِيلةَ أيامِ غِيابِ الإغتِراب. ولقدِ اكتَشَفتُ اليومَ بعدَما زالَ عنّيَ الحِجاب، أنَّ كلَّ أولئكَ كانَ مِنّي مَحضُ هَباءٍ في هضَاب. ثمَّ إنِّيَ أرى أنَّ الشَّهرَ طويلٌ أمدُهُ عليكَ في بلادِ الغَاب، فعُدْ راشِداً في غدٍ أو بعدَ غدٍ، ودَعْ لنا الهمَّ وشَوْكَ الرّهَابِ، والغَمَّ ولوكَ اللُّعاب. مهلاً يا كارهَ الغترةِ والجِلباب؛
هلّا تَكرَّمتَ يا صاحُ فأرسَلتَ اليَّ تأشيرةَ دخولٍ لبلدكَ البعيدِ، يا سيِّدَ أولي الألباب.



#علي_الجنابي (هاشتاغ)       Ali_._El-ganabi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصْلُ الحِكَايَةِ
- تَأمُّلٌ مُسْتَقصٍ في مُشكِلٍ مُسْتَعص
- بينَ تِلالِ الأدرياتِيك
- (الأكشِنُ) المُذهِلُ المَاهِرُ
- لَعَلّي صائِرٌ إلى بَصَائر برَجاء
- تَأمُّلاتٌ خَارِجُ أَسوَارِ البَصَر
- مئةُ عامٍ منَ الدُّخانِ
- هَكَذا كَانَ أبي يَتَكَلَّمُ
- عَنِ د. مُصطَفَى مَحمُود
- طَيْشُ الكَلَامِ
- أَيْنَ اخْتَفَتِ الكَلبَةُ الهَارِبَة؟!
- تَحريفُ الحَياةِ بِتَخريف
- إي وَرَبِّي؛ مَكةُ لَيسَ كَمثلِها دَار
- بَغْلُ الدِّيرَة
- شُعاعٌ حَذوَ مِحرَابِ الإيمان
- لا تَثريبَ على حَيوانِ -الكَسول-
- مِن حِوَاري مع صَديقتيَ النَّملةِ
- قَرفَصَةُ الهِّرَّةِ الحَامِل
- عِلمُ مِيكانيكا المِسْبَحَة
- وإنَّما زينَةُ الحَواجبِ العَوَجُ


المزيد.....




- -الست- يوقظ الذاكرة ويشعل الجدل.. هل أنصف الفيلم أم كلثوم أم ...
- بعد 7 سنوات من اللجوء.. قبائل تتقاسم الأرض واللغة في شمال ال ...
- 4 نكهات للضحك.. أفضل الأفلام الكوميدية لعام 2025
- فيلم -القصص- المصري يفوز بالجائزة الذهبية لأيام قرطاج السينم ...
- مصطفى محمد غريب: هواجس معبأة بالأسى
- -أعيدوا النظر في تلك المقبرة-.. رحلة شعرية بين سراديب الموت ...
- 7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد ...
- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...
- رغم الحرب والدمار.. رسائل أمل في ختام مهرجان غزة السينمائي ل ...
- سمية الألفي: من -رحلة المليون- إلى ذاكرة الشاشة، وفاة الفنان ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي الجنابي - عَوْدٌ بَعدَ طُولِ غِيَاب