جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 8091 - 2024 / 9 / 5 - 16:48
المحور:
سيرة ذاتية
قبل عشرة أعوام كنت قد شرعت بكتابة مقالة تتحدث عن مقتل وزير الصحة الأسبق الدكتور رياض الحاج حسين زعماً مني بأني امتلك المعلومات التي تعينني على الخوض في قضية حساسة على هذه المستوى. أكملت الجزء الأكبر من المقالة ولم يتبقَ لي غير أن أختمها بالإستنتاجات التي تعطيها حقها بعد أن راعيت أن يأتي الخوض فيها بعيداً عن عين الود أو عين الكراهية, فالذين يكرهون صدام جعلوا من مقتل الوزير فرصة أكيدة للتأكيد على وحشيتة وعلى وساديته ودمويته, غير أن فرصة محبي صدام لتبني المزاعم التي ساقها زعيمهم ظلت ضيقة جداً, وهاهو الموقف يتكررمرة أخرى, وتماماً كما حدث في قضية الشهيد العظيم عبدالخالق السامرائي ورفاقه من شهداء المؤامرة المزعومة عام 1979 والتي تم نسجها بخيال مريض ومزاعم متاهفتة, فقد وجد هؤلاء المحبون أنفسهم غير قادرين على تبني اطروحات الرئيس ذا المائة والعشرين التي فاقت بواحد وعشرين عدد أسماء الله الحسنى.
وما عدا المجموعة التي شاركت بنسج قصة المؤامرة التي حسم من خلالها صدام نياته المركبة بإبعاد البكر والاستيلاء على مواقعه كرئيس للدولة والحزب والقضاء على أعضاء القيادة والكوادر التي يشك في ولائها لزعامته الفردية على حساب مبدأ القيادة الجماعية المفترض, وأيضاً لقطع الطريق أمام مشروع الوحدة التي كان مقرراً إقامتها بين العراق وسوريا والتي بدء العمل من أجلها بعد إصلاح ذات البين بين جناحي الحزب المتخاصمين إثر إنعقاد مؤتمر القمة في بغداد وذلك رداً على زيارة السادات للقدس في عام 1979 وهو مشروع كان يهدد مخطط صدام حسين الذي لم يكن قد تبقى منه غير إضفاء لمساته الأخيرة بالتخلص من البكر.
بالعودة إلى مشروع المقالة سأقول إنني كنت توقفت عن وضع خاتمة لها وتخليت عن فكرة نشرها وذلك بعد أن قرأت تصريحاً لأبنة الوزير الشهيد وكأنها تطلب فيه التوقف عن إثارة موضوعة أبيها بعد أن كثرت حولها الاجتهادات وتباينت بشكلٍ يتخطى رغبة العائلة في إلتزام الصمت الحزين حتى يتم الوصول إلى الأسباب الحقيقة لاغتيال الشهيد.
وكما حدث مع الكثير من عائلات شهداء الخلد عام 1979 فإن رغبة إلتزام جانب الصمت النبيل لم ياتِ بمعزل عن رفض تلك العائلات أن يُقتل شهداؤهم مرتين, الأولى على يد صدام حسين والثانية حينما يوافقون على وضع قضية شهدائهم أمام قاضي عينته سلطات الإحتلال, وسيسجل لتلك العائلات أنهم رفضوا أن يساهموا بالقتلة الثانية لشهدائهم المغدورين.
غير إني وبعد أن إستمعت للشهادات التي وثقها الإعلامي الكبير الدكتور حميد عبدالله في برنامجه المعنون (تلك الأيام) عن قصة إستشهاد الدكتور رياض شعرت أن قرار المنع الذي إلتزمتُ به طويلاً قد زال, وأن قرار تضامني بالصمت مع حزنهم النبيل قد انتهى, خاصة وأن عائلة الشهيد هي التي منحت الدكتور حميد عبدالله حق الحديث عن القضية, وبذلك فهي أعطتني, بل وحتى كأنها أوجبت علي, إنجاز مقالتي المؤجلة.
وأعترف أن المعلومات التي سأتقدم بها لن تكفي لإزاحة الغموض الذي ما زال يلف قضية الإغتيال, طريقةً وأسباب, وإن شأني في ذلك شبيه بشأن كل الشهادات التي تقدم بها الأفاضل من ذوي العلاقة, لأن طريقة القتل أو أسبابه, لم يجرِ حل لغزهما تماماً, فالمتقولون كثيرون, قسمٌ منهم إدعى أن صدام هو الذي قتل الشهيد في اجتماع لمجلس الوزراء بعد أن تجرأ على الطلب منه باستراحة أو استقالة مؤقتة من مناصبه بدعوى أن ذلك ما يطلبه الإيرانيون ثمناً لقبولهم بإنهاء الحرب المرشحة للاستمرار دون نهاية منظورة.
وكنت قد زعمت من خلال معرفة وثيقة بشخصية الشهيد الدكتور رياض الحاج حسين ببطلان هذه الأقاويل, فهو, على الرغم من إعتزازه بنفسه وشجاعته بالإفصاح عن آرائه لم يكن مستعداً أن يقدم نفسه مشروعاً للانتحار, وما كان خافياً عليه الخطر الذي يتهدده حال إقدامه على طلب كان يعرف إن التقدم به يجعله كالسائر بنفسه إلى حبل المشنقة, إضافة إلى أن الرجل كان على ثقة بأن للخميني نصيباً كبيراً في إثارة الحرب وفي استمرارها يوم وجد فيها وسيلة لتحقيق مشروعه الكبير لإقامة دولته الإسلامية وبداية من خلال احتلال العراق نفسه بعد أن رفع شعار الطريق إلى القدس يمر من خلال كربلاء.
وحتى شهادة الأستاذ (معن) شقيق الشهيد فهي لم تسعفنا بمعرفة طريقة الاغتيال وأسبابه الحقيقية بل هي توقفت أمام الطريقة البشعة التي تعامل بها المجرمون مع جسد الضحية (قلعوا عينيه وهشموا رأسه) بينما ظل المشهد الحقيقي لأسباب الاغتيال وطريقته غائباً عن الصورة, ولم يتم بشكل جازم توضيح لماذا قتل الشهيد ؟ وهل قتله صدام حسين بنفسه أم تم قتله بطريقة أخرى كأن يكون على يد برزان أو على يد قتلة آخرين بعد تلقيهم إشارة متفق عليها مع زعيمهم هبة السماء إلى الأرض.
لقد تعرفت على الشهيد الدكتور رياض عام 1970 بعد عودته من بريطانيا وكنت حينها عضواً في قيادة القاطع الطبي لمكتب التعليم العالي لحزب البعث التي كان المسؤول عنها آنذاك المرحوم الدكتور تحسين معلة عميد الكلية الطبية وضمت منظمة القاطع في عضويتها أيضاً الدكتور أياد علاوي والمرحوم الدكتور وائل السامرائي الذي اصبح بعد تخصصه عميداً لكلية التمريض إضافة إلى المرحوم الصيدلاني الدكتورسمير البصام, وكنا نحن الأربعة نجتمع في غرفة العميد المرحوم الدكتورمعلة ونلتقي فيها يومياً.
ولقد أخبرنا الدكتور معلة إنه استلم قسيمة نقل الدكتور رياض الذي كان يعمل عضواً في قيادة شعبة بريطانيا, وكنا انتظرنا إلتحاقه إلا أنه ولسببٍ لا أعرفه لم يلتحق رغم أنه اصبح تدريسياً. ومع ذلك فقد استمرت علاقاتنا ولقاءاتنا المتفرقة حتى إلتحق الدكتور علاوي لدراسة طب العيون في لندن عام 1971 وإلتحقت أنا في عام 1973 للحصول على شهادة الإختصاص من أمريكا, وهناك قيض لي ان ألتقي بالدكتور الصيدلاني صباح يوسف الذي كان يعمل مديراً لقسم الصيدلة في مستشفى كوين أليزابيث في لوس أنجلس. ورغم أني كنت في مدينة بعيدة هي بفالو التابعة لولاية نيويورك إلا إنني كنت ألتقي مع الدكتور صباح شهرياً لمرة أو مرتين بصفته مسؤولاً عن شعبة الحزب في أمريكا ولكوني المسؤول عن قيادة المكتب الطلابي فيها.
الدكتور صباح يوسف كان مقيماً في أمريكا منذ أن وصل إليها بعد مغادرته سوريا على إثر الانشقاق الذي قاده العقيد صلاح جديد وكان من أبرز المشاركين فيه قائد القوة الجوية حينها العقيد الطيار حافظ الأسد. ثم دارت الأيام بعدها وإذا بالدكتور رياض يتمنى على الدكتور صباح أن يعود إلى بغداد لغرض أن يعاونه في شؤون الوزارة. ونتيجة للعلاقات الحميمة التي جمعت بين الرجلين اللذين كان قد عملا في الحزب سويةً منذ ان كانا طالبيْن فإن الدكتور صباح لم يرد لصديقه طلبه وعاد إلى بغداد لكي يساعده في شؤون الوزارة وكان يتنقل من مديرية إلى أخرى حتى قيض له ان يكون مديراً عاماً او رئيساً (للمؤسسة العامة لإستيراد الأدوية والمستلزمات الطبية) وهكذا جعله القدر أحد أبرز الأشخاص من ذوي الصلة بالمسرحية التي جرى حبكها من قبل النظام والذي أراد من خلالها أن يغطي بها على جريمته بعد أصبحت مثاراً لحديث الصحف العالمية والعربية وللروايات التي بدأت تنتشر حتى في صفوف الحزبيين.
وإن ما حوته تلك الحبكة اللئيمة التي لم يصدق بها حتى الجاهل هو أن الوزير قد تعمد إستيراد نوع من الأدوية (بوتاسيوم كلورايد) بجرعات تتسبب بموت المرضى الذين يخضعون إلى عمليات جراحية وخاصة من الجنود العراقيين الجرحى. وحتى تكون الحبكة مثيرة كان لا بد وأن يضاف عليها ملحاً وطنياً.
وقد تصور النظام ورئيسه أن بإمكان تلك الحبكة المُمَلحَّة أن تضع حداً لكل التساؤلات التي بدأت تأكل كثيراً من جرف النظام, فالوزير القتيل قد أعدم, حسب رواية صدام حسين, لأنه كان يقتل متعمداً جرحى الحرب العراقية الإيرانية.
ولللانسان أن يكتشف كمية الكذب التي دسه صدام حسين في روايته عن الحادثة وفي معرض تفسيره لجريمة القتل وذلك بعد إطلاعه على الشريط المتلفز الذي جمع بين صدام وقيادته ومجلس وزرائه إضافة إلى عددٍ من الشخصيات الإعلامية.
في هذا الشريط يذكر صدام أن الخميني كان يقتل الجند العراقيين في جبهات القتال بينما كان الوزير رياض يقتلهم في المستشفيات, وبهذا حشر صدام نفسه في زاوية ميتة فرأيناه لا يكتفي بقتل الضحية وإنما يذهب إلى تلويث سمعتها من خلال أكاذيب مفضوحة أراد بتضخيمها أن يجعلها كافية في ظنه لإعطاء تفسير مقنع, ظناً منه أن إتهام الضحية بالخيانة الوطنية والأخلاقية سيكون كافياً لغلق آذان العراقيين ودفعهم لتصديق كل ما يقوله الحاكم الفهلوي.
وإلا كيف يصدق الناس أن رياض (العاني والسني المذهب) يقتل الناس من أجل عيون الخميني. والمعادلة هنا هي ذات طرفين متناقضين ومتصادمين ولا يقبلان الإجتماع معاً, وأنا أعرف الدكتور رياض فهو رجل بتاريخٍ علمي وسياسي لم يصنعه صدام حسين, فإن هو لم يحب صدام فلا يعني ذلك أنه كان يحب الخميني.
(يتبع)
_______________________________
*فصل من مذكراتي المعنونة (في ضيافة المدافع)
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟