مقامة البدو و الحضر .

صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8073 - 2024 / 8 / 18 - 13:50
المحور: الادب والفن
    

عزيزي المندلاوي الجميل , نحن البدو , وهم المتمدنون , أثبتت الحياة وأحداثها , أننا بعد ان انتمينا لأحزاب مدنية متنوعة , البعثي والشيوعي والعروبي وألأسلامي , فشلنا بشكل مريع , وهم حاربوا ألأحزاب, وأنضووا تحت عباءة الحكمة ,فأين وصلوا؟ وأين أنحدرنا ؟

يقول د . رشيد خيون :(( ليست هناك شعوب تولد متحضرة , وأخرى لا تليق بها الحِضارة, بل إنَّها متاحة للجميع , بشرط استغلال ثمرات الماء والنِّفط لأجل العُمران , صرفها على البلاد لا على التبشير بالعقائد , إنَّها كارثة عندما لا يجد المواطن الدّواء والغذاء , بينما نِفطه وماؤه يُهدى إلى خارج الحدود , مِن قِبل مَن يرى الدّولة الوطنية كافرة , فيسعى إلى خلافة أو ولاية وهميتين , أنّ الحضارة, التي تُشيد اليوم فوق الرمال والأملاح , أُسها العقل السِّياسي والاقتصادي, في توجيه الثروات نحو إعمار البلاد, عبر خططٍ خمسينيةٍ ليست خمسيةً كما جرت العادة , لا تجنيد الطَّاقات في العقائد والشِّعارات المُضَلِلة )) .

ان أبزر العناصر في المركب الثقافي الذي نعنيه بكلمة البداوة , هي العصبية للقبيلة أو العشيرة , والركون في تأمين المستقبل ضد مفاجآت الحوادث إلى المروءة التي هي مزيج من الكرم والشهامة في نجدة المحتاج , ويقابل هذه الخصائص في المركَّب الثقافي الآخر, الذي نطلق عليه اسم الحضارة , الانخراط في بناء الدولة , والانصياع عن طواعية للقوانين , التي تسنُّها تلك الدولة لتنظيم شئون الحياة , وأما تأمين المستقبل فوسيلته في هذه الثقافة الحضارية , هي ادِّخار المال الفائض , ادخارًا يُبقيه كما هو , أو يستثمره في إنتاجٍ جديد.

أن المركَّب الثقافي الذي نشير إليه بكلمة بداوة , هو نفسه المركَّب الثقافي الذي يُشار إليه بكلمة الجاهلية , وهو مجموعة العناصر الأساسية , التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام , والذي كان من بين ما استهدفته الدعوة الإسلامية أن تحدَّ من غلوائها وتطرفها , وليست الجاهلية من الجهل , وإنما هي اسم يدل على صفات رأى فيها البدوي الجاهلي مثله الأعلى في : الحفاظ على العرض , الثأر, الإسراف في الكرم , وتبذير المال , والإسراف في القتل والعنف والزهو بالنفس … إلخ.

إننا إذا أردنا تعميرًا حضاريًّا , تطلب الأمر دراسةً تحليلية للقيم السائدة , لنجتثَّ منها رواسب البداوة , حتى لا يبقى بين أيدينا إلا قيم الحضارة , التي هي جزء من أصولنا وجذورنا , على أنه إذا كان الشعور بقلة الأمان والأمن , هو العلة التي نتج عنها ما نتج في البداوة وفي الحضارة معًا , من صفاتٍ لا تتفق مع التقدم الحضاري الواثب السريع, فإن أول ما يجب علينا تحقيقه هو بث الشعور بالطمأنينة , وذلك وحده كفيل بإيجاد الخصائص التي يتطلبها التعمير الحضاري المطلوب.

الدكتور علي الوردي , عالم الاجتماع الاول في العراق من الذين تأثروا بفكر ابن خلدون وشخص أمراض المجتمع العراقي في ثلاث نقاط ذكرها في مؤلفاته جميعها وهذه المفاهيم الثلاث قادت الى الانحطاط الحضاري في العراق من وجهة نظر الوردي وهي :
الصراع بين البداوة والحضارة , والذي بدوره ينتج المفهوم الثاني (الازدواجية في الشخصية) , اما الثالث فهو مفهوم (التناشز الاجتماعي ) , وهذا الاخير اقتبسه علي الوردي من عالم الاجتماع الأمريكي ولين اوكبرن , ويشير هذا المفهوم الى ان التغيير السريع في المجتمع وبدرجات متفاوتة فيما بين عناصره سيخلق تنشازاً اجتماعياً وبالتالي سيخلق مشاكل اجتماعية كثيرة.

ويعزو الوردي الى ان احد اهم مشاكل العراق وقوعه محاذياً لمساحة شاسعة من الصحراء العربية فيتأثر في كل فترة زمنية معينة بموجات نزوح قبلية من البادية الى مدنه ولهذا لم يكن العراق ليستمر في تطوره الحضاري بسبب هذه الموجات فكلما ارتفع في سلم الحضارة تجبره هذه الموجات القادمة من البادية الى رجوعه الى نقطة الصفر , لقد خلق هذا الامر صراعاً كبيراً في عقلية ونفسية وطبيعة المجتمع العراقي , فترى الانسان العراقي يهوى حياة الافرنج يقلدهم في ملبسهم ويستخدم التكنلوجيا التي يخترعون لكن قيم البداوة الموروثة مازالت متأصلة في أعماقه فتراه لايقبل ان تدخل بنته المدارس او يرفض ان يعطي اخته حرية الزواج بمن تحب او انه يلجئ لقبيلته ان حدثت مشكلة له , وتجسدت هذه القيم البدوية بشكل أوسع في الفكر الديني المذهبي المسيطر والمهيمن على أعناقنا حد الأختناق .

لو قدر لعالمنا الكبير الوردي العيش حتى هذه اللحظة لكان من المؤكد انه سيعزوا سبب تخلف العراق بموجات نزوح من نوع ثاني هي نزوع الطبقة المدنية المتحضرة والمثقفة الى خارج العراق لتكن اثار هذه العملية اشد وطئة من النزوح البدوي الى العراق وكلتا الحالتين سارعت في بدونة العراق وترييف مدنه.

ستكون الثَّروة عاملَ خراب , إذا لم يصاحبها ترشيد اقتصاد العقل , الذي لا يتوقف عن التجديد المستمر, فالماء قد يجف والنِّفط ينضب , ولابد مِن الاستثمار بالإنسان نفسه , وإلا سيكون الاقتصاد والحضارة , حسب ابن خلدون نهاية الدولة والعُمران , والأمثلة كثيرة مِن زمننا الرَّاهن , نرى اليوم الرَّابط ما بين الحِضارة والبداوة ثروة النِّفط , بشرط توجيه عوائده للعُمران لا للخراب .

#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل