حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)
الحوار المتمدن-العدد: 8063 - 2024 / 8 / 8 - 22:50
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
حدد بنيامين نتانياهو استراتيجيته العسكرية ردا على عملية 7 أكتوبر في خطوات معلنة تتركز بشكل رئيسي حول تدمير حماس وتحييد منطقة غزة عسكريا عموما واستعادة الأسرى والمحتجزين، لكن الأهم كان استراتيجية نتانياهو البديلة بحثا عن "استعادة المكانة"، التي ضاعت في 7 أكتوبر وفي أنفاق المقاومة الفلسطينية في حرب غزة بعد ذلك.
استراتيجية نتانياهو البديلة
البحث عن أهداف خارج غزة
كان نتانياهو يسعى للبحث عن أعداء وأهداف خارج غزة وأنفاقها التي استعدت لهذه المعركة على ما يبدو منذ سنوات طويلة، فكانت أهم استراتيجيات نتانياهو البديلة هي "سياسة الاغتيالات" ونقل المواجهة فيما وراء الحدود باتجاه مصر وسوريا ولبنان وغيرهم، وإحباط مستوى العمل الدبلوماسي الدولي لإدانة "إسرائيل" والاعتراف بـ"فلسطين" ودعمها.
التحرك بالتوازي والتوالي
كان نتانياهو يعمل بالتوالي والتوازي، بمعنى أنه كان يمكن أن يتحرك على أكثر من مستوى استراتيجي في الوقت نفسه، وفي الآن ذاته يركز على مستوى استرتيجي واحد في كل مرحلة ثم ينتقل للذي يليه، بداية من الأحزمة النارية في شمال غزة والاتجاه جنوبا، وصولا إلى معركة رفح العسكرية التي ظل يحضر لها سياسيا ودبلوماسيا فترة طويلة، مع استمرار سياسة الاغتيالات الخارجية وداخل فلسطين المحتلة في مستوى مستقل الوقت نفسه أيضا.
مصر: نقطة استراتيجية فاصلة
وكانت هناك نقطة استراتيجية فاصلة في استراتيجية نتانياهو لـ"استعادة المكانة" وبدائلها، وهي المواجهة مع مصر في معركة رفح العسكرية، بما تحمله من صراع ثنائي دار منذ اللحظة الأولى للحرب حول منفذ رفح تحديدا، لكن نتانياهو ظل يحضر فترة طويلة لخلخلة الموقف المصري الديبلوماسي الرافض لسيطرة قوات الاحتلال على المنطقة الحدودية والعملية العسكرية الإسرائيلية بها، والذي كانت تفسره مصر على انه خرق للاتفاقيات الموقعة بين الجانبين ومع السلطة الفلسطينية وممثليها.
مؤتمر القاهرة للسلام
مسار لم يكتمل
وأدارت إسرائيل بمعاونة أمريكا حصارا متعددا على القاهرة حتى تفرض عليها تمرير فرض وجهة نظرها والسيطرة مجددا على الحدود والقيام بعملية رفح العسكرية، واتصف هذا الحصار بمستواه الاستراتيجي المرتفع والتحضير الطويل ليمكن أن يتم تنفيذه اقتصاديا وديبلوماسيا..
في بداية الأمر عقدت القاهرة مؤتمرا للسلام حشدت فيه الكثير من أوراقها، لكن القاهرة لم تستطع السير في الطريق الديبلوماسي لاستكمال المواجهة مع أمريكا وإسرائيل، يبدو لعدة أسباب من أهمها تردد الموقف الجيوثقافي المصري العام تجاه "إسرائيل" وأمريكا.
فهناك قطاع كبير ما زال يعتبرهم مواردا سياسية متحالفة مع مصر يمكن للديبلوماسية المصرية ان تستخدمها وقت الحاجة، وهو الاتجاه الذي برز في ازمة سد النهضة حينما دعى هذا التيار لتوسط إسرائيل حلا للأزمة، وكذلك هو التيار ذاته الذي كان يراهن على ترامب في دعم مصر في الملف نفسه، ويتجاهل أن ترامب كان يربط بين تمرير مصر لصفقة القرن وبين دعمه لها في الملف.
عجز الحاضنة الثقافية المصرية
المهم أن هذا التيار انتصر في نهاية المطاف على تيار تصعيد المواجهة الدبلوماسية مدعوما بأن بنية الاقتصاد المصري هشة اعتمدت على المساعدات الأمريكية والعربية، وليست بنية قوية لاقتصاد مواجهة دبلوماسية شرسة.
وكذلك أن الحاضنة الثقافية المصرية طوال الفترة الماضية -ومنذ التسعينيات- تم تربيتها على الأفكار والتصورات الهامشية، وليست ثقافة تملك من السيناريوهات والبدائل التي يمكن أن تدعم عملية مواجهة دبلوماسية أمام حاضنة ثقافية تقوم على عقلية "الصدام الحضاري" والهيمنة الثقافية، فلم تطور مصر حاضنة جيوثقافية قوية تملك تصورات وسيناريهوات لمواجهة التمدد الجيوثقافي الإسرئيلي والأمريكي.
قراءة النمط الاستراتيجي المصري
عندما توقفت المواجهة الدبلوماسية عند مؤتمر القاهرة للسلام لم تتمكن القاهرة من القيام بأي مسارات رديفة سوى عندما أعلنت عن نيتها الانضمام لدعوى جنوب أفريقيا، لكن قراءة موارد القوى المصرية وتقييم نمطها الحركي –أمريكيا وإسرائيليا- أفضى إلى أن تمت العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح، وسيطروا على محور فيلادلفيا، ليحقق نتانياهو استراتيجيته البديلة في استهداف وجر أطراف خارجية وافتعال معارك سعيا لمحاولة "استعادة المكانة".
هنا كانت "سياسة الاغتيالات" الإسرائيلية لرموز المقاومة وسعيها لتأكيد "استعادة المكانة" قد وصلت بعد عملية رفح العسكرية إلى مستوى غير مسبوق، عندما تم اغتيال "إسماعيل هنية" قائد المكتب السياسي لحركة حماس، بالتواكب مع اغتيال فؤاد شكر القيادي في حزب الله.
الحشد الجيوثقافي الإيراني
إلى هنا سنرصد نمطا واستجابة جديدة من السردية الإسلامية برمتها ومن فواعل وأطراف جديدة وقديمة فيها، إيران بكل ذكاء تحشد خلفها دبلوماسيا وعسكريا عن طريق روسيا وغيرها، ودخول باكستان الدولة الإسلامية النووية الوحيدة على خط المواجهة، حينما صرحت بعض المصادر بأن باكتسان سوف تدعم إيران بصواريخ بالتسية من نوع "شاهين-3" عند تصاعد المواجهة بينها وبين إسرائيل.
استجابة تركيا لاستراتيجية نتانياهو البديلة
وكذلك بعد عملية رفح العسكرية وتمدد إسرائيل فيها على حساب القاهرة، سنلحظ أن أنقرة وتركيا بدأت في الإسناد الاستراتيجي العام في مواجهة إسرائيل، ورفعت من خطابها وحدته مصرحة أن قواها العسكرية حاضرة وأنها كما دخلت ناجورنوكارباخ وليبيا يمكن أن تدعم فلسطين وتدخل إلى هناك.. إضافة إلى اجتماع منظمة التعاون الإسلامي مؤخرا لبحث اغتيال إسماعيل هنية، إضافة إلى انباء عن صفقة عسكرية بين القاهرة وأنقرة تشمل طائرات مسيرة.
هنا تبدو استرتيجية نتانياهو البديلة في "استعادة المكانة" استهدافا للمحيط الحاضن للمقاومة الفلسطينية قد وصلت لذروتها باستفزاز الحاضنة والسردية الإسلامية برمتها، انتظارا لحسابات الرد الإيراني وتصوره الاستراتيجي المستقبلي.
ازمة الاستجابة المصرية
لكن يبقى من المهم الإشارة عموما إلى استجابة مصر وتركيا وإيران لاستراتيجية نتانياهو البديلة لـ"استعادة المكانة"، فقد تفوقت فيها إيران ودخلت فيها تركيا بقوة مؤخرا، إلا أن مصر في استجابتها لتلك الاستراتيجية تبدو في مشكلة هيكلية أو أساسية، وهي عجز خزانتها الجيوثقافية عن الاستجابة لتحديات المواجهة في ظل التناقضات المصرية القائمة إرث القرن العشرين، وإرث مرحلة ما بعد الثورات العربية.
يتطلب الأمر صراحة مع النفس بأن الجماعة المصرية برمتها أصبحت في حالة من التيه، المثقفين المصريين وقعوا في حالة من الاحتجاج القائم على رفع الصوت نتيجة لعدم الاستجابة لبناء جسور تتجاوز استقطابات ما بعد 25 يناير السياسية والحزبية، والشعب أصبح غارقا في البحث عن سداد احتياجاته الأساسية، والقاعدة العلمية والفكرية لمصر أصبحت عتيقة تجاوزها الزمن بعيدة عن الأفكار المعاصرة التي تحرك العالم، لتبدو مصر في حالة شتات جيوثقافي بعدما كانت حصنا جيوثقافيا بطبيعتها عبر التاريخ!
القرار الاستراتيجي الغائب
التجاوز النفسي لما بعد الاستقطابات
تحتاج مصر لقرار استراتيجي واضح في لحظة تاريخية فاصلة يعيد فيه العالم تشكيل مواقعه الجيوثقافية؛ إما أن تملك الإدارة السياسية المصرية قدرة على التجاوز النفسي للمعارك السياسية ما بعد 25 يناير، أو ستصل البلاد في لحظة ما لمرحلة التفكك التام المفاجئ، بمعنى أنه سوف تجد البلاد نفسها في موقف وجودي صعب لتطور الوضع حولها، دون أن تملك تصورا حقيقيا للمواجهة والدفاع عن مستودع هويتها.
البعض يتخيل ويقدم المشورة السياسية أنه يمكن تأديب المصريين لحلمهم بالثورة والتغيير في 25 يناير، عن طريق وضع خطط تنموية لبناء "الجمهورية الجديدة" دون الشعب "القديم"! البعض وضع الإدارة السياسية في عقلية العداء الحدي الصفري مع الشعب المصري وحلمه بالتغيير، وأنه يمكن أن نفكك مصر "القديمة" ونعيد تركيبها في "الجمهورية الجديدة" دون عموم الشعب! وأنه يمكن "هندسة" شعب "جديد" عن طريق "الفرز والتجنيب" واختيار العناصر الطيعة المتكيفة!
حقيقة هذا التصور الذي يروج له البعض لدى الإدارة السياسية المصرية، والذي يسبب العجز النفسي عن تجاوز مرحلة ما بعد 25 يناير، سيؤدي إلى التفكك التام، وتحتاج مصر والجماعة المصرية في الفترة المقبلة إلى قرار استراتيجي غائب استجابة للأخطار الوجودية المشتركة ولما يحدث حولنا خارجيا، قرار بتجاوز السياقات الداخلية والذاتية والإرث السياسي المكبل، إرث القرن العشرين وتفاهماته ومرحلة اتفاقية عام 1979م، وإرث مرحلة ما بعد الثورات العربية وتناقضاتها السياسية.
خاتمة
يمكن اعتبار الازمة الجيوثقافية العالمية الراهنة والعدوان على فلسطين نقطة فاصلة في بناء سردية عربية إسلامية جديدة، تكون مصر محورا فاعلا فيها، شرط وجود الإرادة الفاعلة والقوة النفسية لتجاوز التناقضات السياسية الداخلية وإرثها، والتناقضات الخارجية إرث القرن العشرين وتعالقاتها الدولية.
#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)
Hatem_Elgoharey#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟