|
سيكولوجية الإنكار: معركة رفح العسكرية ونهاية مرحلة كامب دافيد
حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)
الحوار المتمدن-العدد: 8053 - 2024 / 7 / 29 - 20:14
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
(توجد في حياة الأمم لحظات تتطلب تغييرا شاملا، وإزاحة كافة النخب المعرفية التي شاركت في التصورات الحاكمة لمرحلة تاريخية كاملة بمحدداتها الفكرية والجيوثقافية، وأخطر ما في تلك اللحظات وهو تعمد تلك النخب إنكار الواقع تهربا من المسئولية، وانتظارا للغرق الجماعي والاضمحلال الحضاري التام)
حقيقة اكتسب المرء -بطبيعته الذاتية- نضجا في الشأن العام وممارساته جراء الاحتكاك الطويل بالحياة العامة ودروبها بشكل مبكر للغاية، مما طَبَعَهُ بدبلوماسية هادئة في عرض رأيه حتى ولو كان مخالفا للرأي السائد أو المهيمن في موضوع ما، وكذلك تمرس المرء على الصراحة والوضوح والطرح الجذري للمقاربات العامة، لكن بخطاب إصلاحي هادئ في الوقت نفسه.. رغم ما قد يراه البعض من صعوبة الجمع بين الحلول الجذرية والطرق الإصلاحية لتطبيقها (ونحن الآن في ظرفية تتطلب حلا جذريا أيا كانت طريقة تطبيقه). لكن بعد معركة رفح العسكرية وتبعاتها لم يعد في قوس الصبر منزع، ووصل الأمر لمنتهاه.. طيلة عشرة أعوام كاملة تصديتُ بهدوء علمي وحجج منطقية رصينة لخطاب الاستلاب للصهيونية والترويج لصفقة القرن الذي قدمه يوسف زيدان ومن معه، محمولين على قطاع في المؤسسة المصرية كان يرى في ذلك الخطاب إمكانية لتقوية دولة ما بعد 2013 وإزاحة دولة الإخوان. وهو الخطاب الذي استشرف إمكانية نجاح دونالد ترامب في فترته الأولى وفي حملته الانخابية، فراهن على استمالته وفق حسابات بين الديمقراطيين (حزب أوباما بعلاقاته وتصور إدارته للإخوان ودورهم الذين هم أعداء دولة ما بعد 2013م)، والجمهوريين (بمرشحهم الجديد حينها دونالد ترامب وفي حملته الانتخابية المبكرة نهايات عام 2015م)، وظللتُ أقدم الحجة تلو الحجة متصديا لتيار الاستلاب للصهيونية وصفقة القرن بشكل علمي ومعرفي شديد الانضباط منهجيا، محذرا من خطورة الوقوع في فخ السياقات المحلية والتداخل بينها وبين السياقات الدولية، وما قد يتسبب فيه ذلك من تآكل في الفضاء الجيوثقافي المصري ومقوماته التاريخية. وسرعان ما صَعدت أزمة "سد النهضة" على الخط، وطبقت المنهج العلمي شديد الانضباط ذاته على الموضوع، لأخرج بنتيجة تخالف التيار المصري السائد الذي كان يري الاستعانة بـ"إسرائيل" وسيطا بين مصر وأثيوبيا لنزع فتيل الأزمة! حيث خرج النموذج المعرفي الذي طبقته على نمط "الخطاب الأثيوبي" بنتيجة علمية قاطعة أن معظم أساليب التفاوض الأثيوبية مشتقة ومستقاة من خبرات المفاوض "الإسرائيلي" مع العرب (المصريين والفلسطينيين تحديدا)، وأنه لا يجب بأي حال من الأحوال وضع مصير النيل في يد إسرائيل، وقدمت البراهين على أن دونالد ترامب في فترة رئاسته الأولى كان يربط بين الموقف المصري من صفقة القرن وبين دعمه لها في ملف "سد النهضة". ثم جاءت "أزمة كورونا" ورأيت أنها كاشفة عن تفجر "المسألة الأوربية" ومتلازماتها الثقافية ووهم التفوق والمركزية، وأن هناك إمكانية محسوبة علميا لإزاحتها شرط بزوغ مفصلية ثقافية جديدة تتجاوز استقطابات ما بعد الثورات العربية وعجز خطاباتها الأيديولوجية العربية التقليدية يمينا ويسارا.. وكشف النموذج العلمي الذي اتبعته في مقاربة السياسات الدولية عن التناقض في الموقف الروسي إزاء "المسألة الأوربية" من خلال ملف سد النهضة، وأنها تسعى من خلال "الأوراسية الجديدة" للعب على كافة الحبال، ورصدت التناقض بين تصريحات السفير الروسي في مصر والسفير الروسي في أثيوبيا، وأن روسيا تريد أن تفجر التناقضات في الملف لصالح أن تطبق نظرية ألكسندر دوجين (نظرية الأوراسية الجديدة) وتتمدد جغرافيا في أماكن النفوذ الأمريكي، وأنها تسعى للحصول على قاعدة بحرية في السودان وتدير علاقاتها في القرن الأفريقي برمته –دون النظر لمصالح مصر- بهدف التواجد وبناء نفوذ خاص بها متحالفة مع الصين.. وقدمت تفسيرا علميا لحرب أوكرانيا في سياق "المسألة الأوربية" ذاتها ونظرية الصدام الحضاري، وأن روسيا تسعى لإعادة إنتاج المركزية الأوربية بين الشرق والغرب على أساس جيوثقافي وليس جيوأيديولوجي هذه المرة، وطرحت تصورا بإمكانية ظهور تكتل جيوثقافي جيدي يعتمد على "مستودع الهوية" العربي ودور مصر المركزي الممكن فيه. أما في حرب غزة وعملية طوفان الأقصى؛ فباستخدام المنهج العلمي ذاته الذي يبحث في تاريخ الأنماط السياسية ليستشرف مساراتها المستقبلية، فقدمت طرحا علميا واضحا بأن الحرب الواسعة قادمة استنادا إلى تحليل النمط العسكري "الإسرائيلي" ومساراته ومحدداته، وقلت أنه لابد سيطول مصر ويجب الاستعداد لذلك سياسيا ودبلوماسيا قبل أن يكون عسكريا، وطرحت تصورات في بناء استقطاب إقليمي ودولي يستبق الضغوط والتناقضات التي قد تفجرها أمريكا وإسرائيل.. وحين وصل الأمر إلى معركة رفح العسكرية قادني التحليل العلمي للنمط الخاص بالسياسات الخارجية الدولية تجاه مصر، إلى أن معركة رفح العسكرية ستكون آخر مسارات جس النبض وبعدها سوف ينتقلون إلى مرحلة التفكيك والحصار المباشر بكل سفور وجه، وطرحت بدائلا للمواجهة السياسية واحتمالات التراشق العسكري وترسيم النفوذ الجيوثقافي بين مصر وإسرائيل، ولكن الرأي المؤسسي الغالب في مصر انتصر لتصورات جيل اتفاقية كامب دافيد وخيالاتهم أو ظنهم المتوهم الذي يقارب اليقين، أن "إسرائيل" وأمريكا لن يكسرا قواعد الاشتباكات والبروتوكول السياسي والعسكري مع مصر، أي القواعد التي تم تأسيسها في سياق ومرجعية اتفاقية كامب دافيد. ولكن إسرائيل وأمريكا داسوا على قواعد الاشتباك العسكري والبروتوكل السياسي بكل قسوة وتبجح ودم بارد، وتركوا العقلية المصرية المؤسسية المرتبطة بالتطبيع واتفاقية كامب دافيد في "حالة إنكار" وصدمة وذهول، حالة ذهول مرجعها غياب البديل، وأنهم أصلا ليسوا مؤهلين للتعامل مع هذا الموقف وتبعات المواجهة المرتبطة به مستقبليا، فهم أولاد كامب دافيد وكل تصوراتهم الوجودية المعرفية ترتبط بمرجعيتها الثقافية والسياسية والفكرية! والآن أصبحت هناك حالة من "الإنكار السيكولوجي" للهزيمة والتفكك الحاد؛ لقد انتهت تماما مرحلة كامب دافيد، وهذا العقل المؤسسي ونخبه التاريخية وتلاميذهم الموزعون في كافة مفاصل البلاد المعرفية والمؤسسية، لا يملكون سوى المزايدة أو وانعدام البدائل، ويتركون البلاد للمجهول والمزيد من التفكك والاضمحلال. في حين هناك بديل يعتمد على تغيير كافة السياسات المحلية والإقليمية والدولية للمؤسسات المصرية وأجهزتها العاملة، يرتبط بمشروع "الكتلة الجيوثقافية" الجديدة، والذي طالما أشرت لمساراته وممكانته دون جدوي، في ظل إصرار هذا التيار المؤسسي المرتبط بكامب دافيد –المنتهية صلاحيتها- على عقلية التبعية الجيوثقافية والوظيفية الإقليمية وانتظار المساعدات الخارجية، والحركة فيما بين التناقضات، دون استيعاب لمفهوم المبادرة الجيوثقافية والتأسيس لمكانة جديدة والسعي لتوفير وتنمية الموارد الناعمة والخشنة المؤهلة لها! لذا وبكل صراحة ووضوح مع النفس وإخلاص لهذا الوطن؛ أعلن من خلال قراءتي العلمية لمحددات المشهد الداخلي والإقليمي والعالمي، وصول مقاربة الإصلاح للتغيير في خطاب السياسات الخارجية المصرية إلى نهاية طريقها، وأن الأمر أصبح يتطلب قرارا جذريا بالتغيير وإزاحة هذا التيار المؤسسي تماما، وإعادة تأسيس التصورات الجيوثقافية المصرية بتمثلاتها المعرفية والثقافية والمؤسسية، في الجامعات وتخصصات الدراسات الإنسانية برمتها ووضع سياسات ومناهج جديدة تزيح جيل كامب دافيد وتلاميذهم، وفي المؤسسات الثقافية بتصوراتها المشوهة عن الذات العربية والمصرية كذات هامشية تابعة للمسألة الأوربية ولا تملك ما تقدمه للعالم، وفي كافة البروتكولات المركزية التي توجه عمل مؤسسات الدولة المصرية المعنية بالسياسات الخارجية، وفي تمثلاتها الإقليمية والعالمية وروافدها المحلية والداخلية. حقيقة ماتت مرحلة كامب دافيد تماما حينما أنهت إسرائيل وأمريكا على قواعد الاشتباك العسكري والبروتكول السياسي، في معركة رفح العسكرية، مهما حاول تيار كامب دافيد إنكار ما حدث والصفعة المدوية التي تلقوها وتركتهم في حالة انعدام وزن يهدد مصير مصر ومستقبلها، ويرهنها بأفكار انتهت صلاحيتها للأبد دون رجعة. لن ينصلح حال مصر إلا بالاعتراف بنهاية هذا المرحلة وإزاحة رجالها جذريا، وبناء مرحلة جديدة بأفق جيوثقافي جديد وتصورات معرفية جديدة.. تعيد التأسيس للأمل ومستقبل البلاد.
#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)
Hatem_Elgoharey#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر والمستقبل: بين الوظيفية الإقليمية والقطبية الجيوثقافية
-
مصر ما بعد معركة رفح: فيلادلفيا وعنتيبي والصومال والدولتين و
...
-
التراشق بين مصر وإسرائيل: دروس المآلات والممكنات
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
-
المقاربة الجيوحضارية للعالم: مصر والعراق والذات الحضارية الم
...
-
مصر ومقاربة ما بعد الشرق أوسطية: حقيقة الحرب في رفح
-
سيرة ذاتية- حاتم الجوهري
-
مصر ومعاهدة السلام: بين الالتزام الدولي والرؤية الاستراتيجية
...
-
محددات التراشق الخشن والناعم بين مصر وإسرائيل.. مقاربة صعود
...
-
زيدان ومؤسسة تكوين: خطاب الاستلاب في مرحلة حرب غزة
-
الحرب واستجابات الصدام الحضاري: روسيا والصين وإيران.. والدرس
...
-
رفح: ما بين التكتيكي والاستراتيجي تصعد وتخفت الأمم
-
البيان الشعري لصدور ديوان: -نساء الممالك البعيدة-
-
السردية الإسلامية وتعالقات الحضارة المطلقة: المعضلة العربية
...
-
حقيقة حرب غزة: سيناريو صفقة القرن الخشن
-
في ضرورة إزاحة جيوثقافية مصر فيما قبل 7 أكتوبر
-
عملية رفح الباردة: سياسة حافة الهاوية بين الاسترتيجي والتكتي
...
-
الصهيونية وتعالقات الحضارة المطلقة: الماركسية والليبرالية وا
...
-
حرب غزة: بؤرة الصدام الحضاري الثالث وأفق المستقبل
-
فلسطين والأفريقانية: بين جنوب أفريقيا التحريرية وأثيوبيا الع
...
المزيد.....
-
أول دولة في العالم تعين قائما بأعمال سفارتها في العاصمة السو
...
-
الجيش اللبناني ينتشر في مدينة الخيام
-
الدفاع الإيطالية: مستعدون للمشاركة في مهمة حفظ السلام في أوك
...
-
أول حزب سوري يعلن بدء عمله في سوريا بعد نهاية حكم الأسد
-
الفصائل الموالية لتركيا متهمة بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين
...
-
شرق ليبيا….تمنع الاحتفال برأس السنة
-
إعلام: ترامب لا يدعم عضوية كييف في -الناتو- ويدعو أوروبا لضم
...
-
باريس تدعو إلى احترام وحدة الأراضي السورية
-
الجيش الإسرائيلي يعلن قصف مجموعة لـ -حزب الله- جنوبي لبنان
-
أنقرة: حلفاؤنا يواصلون تقدمهم في سوريا
المزيد.....
-
علاقة السيد - التابع مع الغرب
/ مازن كم الماز
-
روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي
/ فاروق الصيّاحي
-
بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح
/ محمد علي مقلد
-
حرب التحرير في البانيا
/ محمد شيخو
-
التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء
/ خالد الكزولي
-
عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر
/ أحمد القصير
-
الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي
/ معز الراجحي
-
البلشفية وقضايا الثورة الصينية
/ ستالين
المزيد.....
|