|
إمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل: تجاوز الفكرانية الفلسفية (الجزءالسادس)
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7996 - 2024 / 6 / 2 - 04:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- النموذج الاستعاري عند ليفيناس والنموذج الفكراتي عند هوسرل (2/1) يكشف التوازن الفينومينولوجي بين قصدية المعنى التي ما تزال مقنعة كحدس مضيء عن تجاوز المستوى الإدراكي الدقيق، لكنه غير كاف وفقًا لليفيناس، الذي يرفض فكرة أن كل شيء يبدأ وينتهي بالمعطى الظاهر. يقول ليفيناس إن الاحتفاظ بالمعنى من خلال النظر هو في الأساس إجبار المعقولية على الانصياع لمعايير تقبلنا ونسيان الجانب الكامن للمعنى. إن الكمون الذي ما يفتح، مثل صندوق باندورا، حتى يكشف عن أبعاد لم نكن حتى نشك في وجودها. في مواجهة الرؤية التي تشكل أصل المعنى النظري للعديد من مفكري الحداثة، يستحضر ليفيناس طريقة أخرى للمعنى دون الكشف عن نفسه. ولتجنب التورط في هذا الشكل الواضح من المعنى، اقترح الانتباه إلى اللاحاضر واللاممثل. مدركا أن "هذه الإحالة إلى الغياب"، مع استخدام الاستعارة كنموذج، تنتزع من الإدراك وبالتالي من القدرة الفيزيكونفسية على النظر، مهما كانت أهميتها، الدور البارع لمصدر المفهمة، مهما. من أجل تجنب أي لبس، لابد من أن نوضح أن اعتبار الاستعارة كجهة مميزة للعقلانية الليفيناسية لا يشير هنا إلى وظيفتها كصورة بلاغية تسمح للمرء بالانتقال من مقولة متميزة (مصطلح ملموس) إلى أخرى (سياق مجرد) وتعد من جهة أخرى موضوعا للتيممة. إنه يشير بالأحرى إلى تعريف الاستعارة كجهة للإحالة إلى ما بعد (العالم، النظام المقاصدي، المنطق)، الذي نستمده من أقوال ليفيناس نفسها ضمن النقاشات حول الأخلاق في "أَنَسيَّة الإنسان الآخر" وبشكل أكثر وضوحًا في "ما بيننا". ترمز الاستعارة، عند ليفيناس، إلى الإحالة إلى ما وراء المعنى الواضح؛ إنها تسمح لنا بتجاوز المحتوى الموجود إلى الفكر للبحث عن الموحى به الذي لا يتخذ شكلاً ولكنه مع ذلك يعبر عن نفسه من خلال قيادتنا نحو "مستوى" "تعالي القول للآخرين"، بمعنى نحو هذا الخط الفاصل غير المرئي الذي ينير عالمنا في ما وراء الفكر من خلال تعريضنا للمعنى العميق للبعد الأخلاقي والمتسامي. وهكذا، فإن حركة الاستعارة التي تميز الهيرمينوطيقا الليفيناسية تقتضي إحالة من الحضور إلى الغياب، مثلما يحيل كشف الوجه في اللقاء الأخلاقي إلى الله، ويمثل طريقة غير محددة بنيويا للانتقال من البديهي إلى الملغز، من المقول إلى القول ومن المحايث إلى المتعالي. تقودنا الاستعارة من المعنى الحرفي، المستوحى من المحتويات التي تقدمها لنا التجربة (كتاب: سميك، ثقيل، مستطيل، إلخ..) والتي تضفي على الشيء طابعه الفردي، نحو المعنى المجازي الذي لا يمكن أن يحتويه أي معطى. لذلك، لا يعتقد ليفيناس، على عكس هوسرل، أنه يمكن اعتبار كل المعنى معرفة صريحة إلى حد ما اعتمادا على تحقيقها الحدسي. فالمعنى لا يعني بالضرورة التعامل الفكري مع المحتوى المقدم للفكر، والذي يجب بعد ذلك تصنيفه حسب مستوى وضوحه وتحويله، بالتالي، إلى مفهوم واضح ومتميز. إن الدلالة تعني بالأحرى التعبير عن الذات من خلال حقل واسع من الاختلافات المحتملة من خلال إلقاء الضوء على نقطة غير محددة باستخدام هذا الخط الموجه والمفتوح الذي يقدمه هوسرل مع مفهوم الأفق. بالنسبة لهوسرل، يظل المجال اللامتناهي للأفق – للعالم أو الوعي – دائما قابلاً للتيممة لأنه يمكن الوصول إليه بواسطة العقل. لكن، بقدر ما يتبنى ليفيناس هذا النموذج من الإحالة إلى ما لا نهاية له من الإمكانات، وإذا كان هناك بالفعل سبب للحديث عن سياق مرجعي للإلهام الهوسرلي، فسوف يكون بالأحرى سياقا مثاليا وأبديا لا يستطيع الذكاء أن يعرفه أبدا في شموليته. انطلاقا من وجهة النظر هاته، لا تشكل الإحالة إلى الغياب في الاستعارة إلى قاعدة معطيات أخرى، بل إلى إمكانية ذات معنى تحدث دون أن نتمكن من إعادة تشكيلها عقليا لأنه كغياب، هذا البعد الأبدي الإلهي أو اللامتناهي. الذي يعطي معنى للوجود الإنساني لا يُعطى من تلقاء ذاته أبدا. هكذا تربط هذه المساهمة الليفيناسية المعنى بعملية تحويل. فرغم أن الاستعارة، كظاهرة لغوية، لا تتقيد بمسار ثابت (تستخدم بطرق مختلفة للتعبير عن وضعيات مختلفة)، فإنها في الدور النموذجي الذي أسنده إليها ليفيناس، ترمز إلى اللجوء إلى ما لا يستطيع الفكر ضمانه. بحيث أن ولادة المعنى لا تكون مشروطة بمضمون أو موضوع حاضر، ولا بتنبؤ حكيم. إنه ثمرة حدث تحويلي وليس له أي أسبقية سوى التدفق اللامتناهي للإمكانات المهمة التي تم إدراجه فيها. باختصار، إنه تصور للمعنى لا يمكن دائما أن يقتصر على ما يمكن توقعه من خلال المحتويات الحاضرة والمرئية والمتأملة. إن إزاحة المعنى التي تعمل بها الاستعارة هي بمثابة نقطة دخول إلى مجال غير قابل للاختزال – إلهي، لا نهائي، لا زمني – والذي لا يمكن فهمه من خلال النموذج الفكري للانتقال من التمثل إلى المعرفة. وهذا لا يعني، بحسب ليفيناس، أن هذا المرجع الاشتقاقي ليس مدرجا بالفعل في العالم الكون للغة. الخطاب، كما يقول، هو ظهور العلامات اللغوية الراسخة في زمكاننا. والحال أنه رغم واقعة أن "الكل يبقى في لغة أو في عالم"، فإن الإحالة المهمة في الاستعارة تسمح لنا بتجاوز الحالة الفكرية الفينومينولوجية للحاضر المعطى والمقدم لفهم ما لا يمكن تصوره. ومن ثم فإن نقطة البداية لكل معنى لا تقع عند ظهور معطى (الوجه المقدم للآخر) الذي يوحي بكلمة، بل في الإحالة المتكلمة، القول، إلى ما لا يستطيع ظهور مصطنع أو عقلي أن ينقله (الوجه الموحي للآخر). يقدم مفترق الطرق الفلسفي لنشوء المعنى طريقين محتملين: طريق النموذج الاستعاري عند ليفيناس الذي يربط أصل المعنى بالإحالة إلى الغياب، وطريق النموذج الفكراني عند هوسرل الذي يعزو أصل المعنى إلى عرض معطى بشكل يمكن التحقق منه. هكذا، لتمييز النموذج الاستعاري في التعالي، وبشكل أكثر عمومية، "طريقة في العني مختلفة كليا عن تلك التي تربط الظهور بالرؤية" عن التجارب التي جرت مفهمتها وفقا للظهور المتميمم لموضوعها، يرفض ليفيناس المرادف المقترح من قبل هوسرل بين المعنى والدلالة. يظهر هذا التمييز بشكل خاص في "أَنَسيَّة الإنسان الآخر". ومع ذلك، رغم اللبس الاصطلاحي لهذا التمييز في كتابات ليفيناس اللاحقة (خاصة في "خلافا للوجود أو ما وراء الماهية )*، فإن محتوى صرامة فلسفته يكشف عن العقلانية المطبقة في الانتقال من هوسرل الفكراني إلى أخلاقيات ما قبل نظرية. اقترح ليفيناس، مثل هوسرل، مقاربة جديدة، لكنه، على عكس هوسرل، لم يقترح صياغتها من خلال المعرفة. (يتبع) __________________ (*) تجدر الإشارة إلى ان الأستاذ رشيد النفينف انجز عن هذا الكتابة قراة قيمة يمكن الولوج إليها رقميا دون أدنى شرط مسبق. المرجع: https://www.cairn.info/revue-internationale-de-philosophie-2006-1-page-35.htm
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنظمة المغربية لحقوق الإنسان تدعو الحكومة إلى أخذ اقتراحات
...
-
محمد الفايد داعية إسلامي ليس بينه وبين العلم إلا الشر والإقص
...
-
دردشة فيسبوكية حول الترجمة
-
إمانويل ليفيناس وإدموند راسل: تجاوز الفكرانية الفلسفية (الجز
...
-
إمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل: تجاوز الفكرانية الفلسفية (الج
...
-
استبد بي الفرح وكأني في حلم جميل
-
إمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل: تجاوز الفكرانية الفلسفية (الج
...
-
الدار البيصاء: تفاصيل ومعلومات عن انهيار عمارة حي بوركون
-
لقاء لتكريم روح إدمون عمران المالح، نصير التنوع
-
الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان يوجه رسالة إلى الجهات ا
...
-
إمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل: تجاوز الفكرانية الفلسفية (الج
...
-
الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تنظم ندوة صحافية حول تطورات و
...
-
إمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل: تجاوز الفكرانية الفلسفية (الج
...
-
جون ستيوارت ميل: رائد المساواة بين الرجل والمرأة
-
جون ستيوارت ميل: رائد المساواة بين الرجل والمرأة (2/2)
-
جون ستيوارت ميل: رائد المساواة بين المرأة والرجل (2/1)
-
جاك دريدا وعبد الكبير الخطيبي ارتبطا بعلاقة صداقة من نوع خاص
-
يوم دراسي حول راهنية فكر ليون برنشفيك الفلسفي (2/2)
-
يوم دراسي حول راهنية فكر ليون برنشفيك الفلسفي
-
غزة: كيف السبيل إلى خروج إسرائيل منها؟
المزيد.....
-
لبنان.. تأجيل حفل جوائز الـ -الموريكس دور- إلى موعد لاحق يحد
...
-
-تلقت تهديدات-.. المخابرات المجرية تحمي صاحبة الشركة المرتبط
...
-
قديروف يتهم إيلون ماسك بتعطيل سيارته الكهربائية عن بعد
-
تفاصيل جديدة حول أجهزة الاتصال اللاسلكية- بيجر- التي انفجرت
...
-
لافروف يعلق على تفجيرات أجهزة -بيجر-حزب الله ويكشف ما تدبره
...
-
إعلام إسرائيلي ينشر تفاصيل جديدة عن عملية اغتيال قائد وحدة ا
...
-
تقرير أمريكي عن مقتل كامل قيادة نخبة حزب الله -الرضوان- بالغ
...
-
الصومال تدين نقل إثيوبيا شحنات أسلحة إلى أرض البنط
-
هكذا يكافح التجار البسطاء تداعيات زلزال المغرب
-
الدويري: إسرائيل تضرب في بيروت وعينها على طهران
المزيد.....
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
المزيد.....
|