أبوبكر المساوي
...
(Aboubakr El Moussaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 7991 - 2024 / 5 / 28 - 16:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
القلق الوجودي، العبث، البحث عن معنى الأشياء في يم من اللامعنى، الرغبة في السيطرة على كل شيء في نطاق زمني محدد شديد الضيق، وفي مكان دون غيره، التشتت والتيه بين ركام الرغبات والملذات الحسية والفكرية التي تهيج على الدوام بكل الطرق والوسائل، في ظل حصار رهيب خانق لكل الحريات، هذه الأخيرة التي قد تمكن الإنسان، إن هي توفرت، إما من تحقيق ما يرغب فيه في أوانه، أو التخلص منه بمحض إرادته عن قناعة أو نتيجة إشباع أو ربما نتيجة وجود مناعة قوية ضد الرغبات العارضة العابرة، وقوة إصرار على الانصراف إلى الرغبات المبنية على العقل التي تحقق ما يمكن تسميته باللذة المستدامة والتي تعود بالسعادة على صاحبها وعلى كافة الناس وعلى امتداد الزمن.
بقايا رغبات من الماضي تزاحم رغبات الحاضر التي تنطفأ وتخبو أمام إكراهات الزمن والظروف المحيطة بالإنسان، حيث لا يتم تحقيقها إلا بشكل مختزل هزيل بئيس غير ذي قيمة، منزوع اللذة ومفرغ تماما من أي معنى نظرا لتأخرها أو لقدومها بعد فوات الأوان، وبعد انطفاء تلك الرغبة الجامحة التي قد يستحيل معها الإنسان وحشا كاسرا إن عاندته الظروف في الوصول إلى تحقيق ما تتوق إليه نفسه.
الرغبة في الانتحار وقطع كل علاقة بالعالم المحسوس وقطع دابر الحرمان، ووضع حد لسلسلة التجارب والمحاولات الفاشلة لتحقيق اللذة، التي تنزل بكل ثقلها على كاهل سيكولوجية الفرد، وصولا إلى إنهاء الألم والمعاناة، شيء قد يراود الإنسان من حين لآخر، اعتقادا منه أنه سينتقل لعالم أفضل، عالم خال من كل مسببات الألم ومليء بموجبات اللذة والسعادة، وحيث يعود في كامل وعيه بعد رحلة العبور التي أخذته من عالم الحواس ولعنة الوعي السيء الذكر إلى عالم أحلامه، ليتمتع بكل اللذائذ التي زينتها له أوهام عقله الذي حرم من النمو السليم في ظل البيئة الموبوءة التي نشأ فيها.
يختلف ترتيب الرغبات من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر ومن فترة زمنية لأخرى، حيث تتحكم فيها سياقات وظروف خاصة جدا، كما أن موجبات الشعور باللذة أشياء ذات خصوصية لامتناهية تخص كل فرد على حدة، ولا يمكن البوح عن أغلبها عند أغلب الناس، إلا إذا استثنينا حالات التنويم أو التخدير، وقد تأخذ أشكالا مختلفة أو تنتقل من الشيء إلى نقيضه عند الفرد الواحد في غضون لحظات وجيزة إن تغيرت المثيرات، أو إن كان الشخص مزاجيا سريع الانتقال من حالة نفسية إلى أخرى. وإن من رواسب الطفولة المبكرة حسب سيغموند فرويد ما يتحكم في تحديد نوعية رغبات الإنسان الراشد وترتيب أولوياتها وتحريك دواليب اللذة عنده، فهل الرغبة واللذة شيئان متعلقان بما هو حسي بيولوجي فقط أم أنهما قد يتمظهران فيما هو "روحي" أو فكري وعقلي؟
من المعلوم أن الرغبات واللذات الحسية شيء مشترك بين جميع الكائنات الحية التي تنتمي إلى المملكة الحيوانية، أما الرغبة في الوصول إلى تحقيق اللذة العقلية فهو شيء يخص الإنسان العاقل دون غيره من الكائنات الحية، لكونه عاقلا واعيا بذاته وبمحيطه، وقادرا على خلق روابط منطقية خاضعة لمقتضيات العقل بين ركام المعارف والأحداث والأشخاص، ومختلف المثيرات التي تستفزه وتستنفر قواه الفكرية لتحديد نوعية الاستجابات المناسبة للسياقات والظروف، ولكون العقل آلية من آليات الإدراك والوعي والخلق والإبداع وتطوير الفكر، فهو بحاجة إلى أدوات للتعزيز والتحفيز والتشجيع على بذل المزيد حين التوصل إلى تحقيق إنجاز ما، للتمكن من الانتقال من مرتبة أدنى إلى مرتبة أعلى، وإن أخذنا بعين الاعتبار كون جسم الإنسان مادة أو خليطا من مواد مختلفة، يمكننا القول أن هذا عبارة عن حفنة تفاعلات كيميائية تحدث داخل جسم الإنسان توصله إلى الشعور باللذة بصفة تلقائية مباشرة بعد إنجاز عمل فني ناجح أو اختراع علمي أو إنتاج فكرة قد تساهم في الانتقال بالإنسانية إلى مرتبة أفضل من سابقتها، وقد تحصل هذه اللذة بعد تدخل عوامل خارجية، كاستحسان الناس لما أنجزه الفرد من خلال تعبيرهم عن ذلك بقول حسن أو بابتسامة، أو حتى بجوائز أو مقابل مادي في حالات التنافس والتباري، وفي هذا الإطار نجد أن الشهرة والنجومية من أكثر الأشياء التي تشعر الإنسان باللذة والنشوة كمقابل ومكافأة لتحقيق إنجازات خارقة في عصرنا هذا، نظرا لانتشار وسائل الإعلام والتواصل ونظرا لما تلعبه من أدوار في تسريع إيصال الخبر إلى أقاصي العالم، وعن طريقها وبدوافع تجارية محضة يتم أيضا تحريك الرغبات، وإيهام فئة من أفراد المجتمع الذين ينتمون إلى الطبقات الميسورة بلذات افتراضية إن هم اقتنوا هذا الشيء أو ذاك، كما يزرعون بذور اليأس والإحباط في نفوس أفراد الطبقات الفقيرة لعدم قدرتهم على الانخراط في لعبة تحقيق الرغبات واقتناء مسببات اللذات، ويضاعفون من منسوب حقدهم على الأغنياء ما يؤدي بالضرورة إلى انتشار الظواهر الاجتماعية غير الصحية.
أصبحت الرغبة مادة وموضوعا دسما للدراسة من قبل الشركات العالمية المتعددة الجنسيات وحتى الصغيرة منها، فتسخر لذلك موارد مالية مهمة وتوظف آخر ما توصلت إليه مختلف أنواع العلوم والتقنيات الحديثة والمتطورة، للتمكن من دفع مختلف الطبقات الاجتماعية إلى بذل المال لاقتناء اللذة كل حسب رصيده، وفي كثير من الأحيان يدفع الإنسان دفعا إلى الاستدانة لتحقيق رغبة عابرة مكلفة جدا مقارنة مع قدراته المالية، ومربحة جدا للشركة التي قدمت الخدمة أو باعت المنتج، حيث تستثار عند الإنسان بعد أن يوضع في حالة من التنويم، كل أنواع الرغبات فتجعله يعيش وهم التفوق والارتقاء ووهم الإحساس بالسعادة، إن هو امتثل لما يملى عليه في اقتناء وتملك أكبر قدر من الأشياء المادية التي قد يكون في غنى عنها، دون رحمة ولا شفقة، لأن مخازن البضائع والسلع قد امتلأت وتكدست بفعل تراكم إنتاج معامل المتحكمين في مصائر وأعناق البسطاء...
#أبوبكر_المساوي (هاشتاغ)
Aboubakr_El_Moussaoui#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟