أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبوبكر المساوي - الغثيان والاشمئزاز والتقزز















المزيد.....

الغثيان والاشمئزاز والتقزز


أبوبكر المساوي
باحث

(Aboubakr El Moussaoui)


الحوار المتمدن-العدد: 7807 - 2023 / 11 / 26 - 00:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أحاسيس أعرفها منذ وعيت أني أعيش هنا وليس هناك، ربما لأني أعتقد أن ذلك ال"هناك" هو ما يفترض أن يكون أرض مولدي ومنشئي وموطني الذي أستحق، قد يكون هذا مجرد حنين إلى صورة تفننت في رسمها وتجميلها إلى أبعد الحدود في خيالي أو ضرب من سراب وأحاسيس عابرة تنتابني من حين لآخر، لكنها في أغلب الأحيان تلتف بي مثل أفعوان وتلابسني فتشل تفكيري وتسد أفقي، إن لها ارتباط وثيق بما علق بقاع مزبلة الإنسانية من عفن وقيح وصدأ فكري أورثنا إياه الأسلاف قسرا وجعلوا منا مسوخا في هيئة بشر، هذه الأحاسيس أختبرها كلما أكرمتني الصدف بالكشف عن إحدى الخبايا المتعلقة بأمور السياسة وتسيير شؤون الناس في البلدان التي طلع البدر عليها فأعماها من شدة نوره، بعدما أقر أن لا نور يعلو على نوره، وأن أي نور لا يدخل في فلكه أو أنه يرقص على موجة أو بسرعة غير التي حددها البدر الذي طلع علينا يجب أن يطفأ على الفور، لكونه قد يفتن من الجماعة أفرادا كثيرين، وقد تستبد بي هذه الأحاسيس كلما انكشفت لي تلك الطرق البئيسة التي يتعامل بها القائمون على شؤون "الرعايا" الذين لم يصلوا بعد إلى مرتبة مواطنين في القرن الحادي والعشرين. فإن أعطى صاحب الملك وأكرم رعاياه بما علق بين أسنانه أو بين أظافره أو بما عافته حيواناته الأليفة وغير الأليفة، فله الحمد والمنة على جوده وكرمه والويل لكل ناكر للجميل ولكل طامع في شيء غير الذي جاد به صاحب الجود والكرم، فالحضيرة بكل ما فيها ومن فيها ملك لصاحب الملك الذي يحمل مسميات عدة لكل منها استعمال خاص بكل مناسبة وبكل حدث، كما يملك صاحب الملك أزياء خاصة بكل حدث حيكت على مقاسه للاستعمال الواحد، بعدها تحفظ أو قد تحنط لتخليد ذكرى الحدث التاريخي الذي ارتدى فيه سليل البدور التي طلعت علينا من جهة الشرق بحوافر خيولها وبريق سيوفها ولهيب نيرانها التي التهمت الشجر والحجر.
لكن هذه المشاعر والأحاسيس زادت بعد أن ولجت مهنة يفترض أن يكون أصحابها الذين سبقوني أو الذين أتوا بعدي على علم بالمسؤولية الملقاة على أعناقهم في إنارة الدروب المظلمة للبالغين الذين لم تتح لهم الفرصة في صباهم لولوج ميادين المعرفة، أو للصبية الذين لايزالون في بداية حياتهم لينهلوا من معين العلوم والفكر النير، الذي قد يرقى بهذا المجتمع إلى مصاف المجتمعات التي يحلم أغلبنا بالعيش فيها مثل حيوان أليف نظرا لهول الفوارق بيننا وبينهم، هذه المهنة التي ولجها الغث والسمين من أفراد هذا المجتمع، ويختبأ بين ثناياها ثلة من الجيف والمتعفنين والمحنطين ومن لا هم لهم سوى البطن وما أسفله بشبر، والذين لا يملكون من العلم إلا كلاما لم ينقطع ترديده طيلة أربعة عشر قرنا رغم انتهاء صلاحيته منذ زمن، أو بالأحرى لم يكن صالحا لأي زمن، حيث يمكن اختزال كل طموحهم وأحلامهم في كونهم يسعون إلى تسلق سلم العبودية بدرجتين على الأكثر مصحوب بكثير من الحمد والمنة على إنجازهم العظيم وعلى دوام نعمة الذل. رأيتُ خلال مسيرتي المهنية من العينات العجب، ما لا يخطر على عقل بشر، رأيت ما لا يمكن حصره بأرقام ولا بكلمات أو بأوصاف ونعوت، سواء بين (القاصرين المسنِّين) من المدرسين والإداريين الذين يجتهدون في صناعة القصور والإعاقات العقلية والتصحر الفكري من خلال ممارستهم للوصاية على (القاصرين الصغار) من المتعلمين، ويا للأسى والأسف، فقد كانت هذه المهنة وما تزال "آلة" لإعادة إنتاج العبث والارتجالية والشذوذ الفكري، وإنتاج العقول المهدورة والإرادة المغلولة عند أغلب الذين حكمت عليهم الظروف بالسجن لسنين طويلة في سجن الهواء الطلق الذي يسمى "المدرسة العمومية"، هذه المفاهيم التي يصر الكل -سواء كانوا من الذين رضوا بالوضع ويطبلون أو كانوا من الرافضين في صمت- ويجمعون على أنها الطريق التي لا عوج فيها والتي فيها صلاح الأمة.
وإصلاح يليه إصلاح ومليار ينطح مليارا... مليارات من الدراهم تخرج من جيوب دافعي الضرائب، وما يزال التعليم العمومي عندنا في يد البلهاء حكاما ومسيرين ومنظرين ومدرسين بجميع مستوياتهم، وفي يد الأقدار التي من طبعها أن تخبط خبط عشواء، فمن كان الحظ بجانبه وشاءت الصدف أن تيسر مسيرته فهنيئا له، وأما من تكالبت عليه الأقدار فقد يكون الأكثر انحطاطا بين الناس في نظر الناس.
معلوم أن كل دول العالم المتقدم مرت بمراحل سوداء في تاريخها، لكنها وفي فترة من فترات التاريخ قررت الحسم والاختيار وتحمل مسؤولياتها تجاه مواطنيها وتجاه الإنسانية جمعاء، بفضل علمائها ومفكريها الذين تحلوا بالجرأة في طرح الأسئلة والقضايا والإشكاليات التي فتحت أبواب الكون لتنهمر منها سيول الفكر والعلوم التي أنارت دروب الإنسانية على كوكب الأرض بأكمله، وقد تحمل بني البشر في المستقبل إلى عوالم ليس بإمكان مستوى التطور الذي توصلت إليه العقول في عصرنا الحالي تصورها أو استيعابها، هذا كله لأن تلك المجتمعات أدركت أن فاتورة الجهل والخرافة والتخلف ثقيلة وستكلفها الكثير إن لم يقطعوا دابرها، وأعتقد جازما أن الإقلاع عن إدمان الخرافة والتحرر من سلطة الأصنام الفكرية هي الوصفة الجاهزة الوحيدة التي يمكن أن تكون بداية مشروع مجتمعي يمكننا من اللحاق بركب المجتمعات الإنسانية المتقدمة، وقد تكون بعدها طريقنا حافلة بالأنوار، وقد نساهم نحن أيضا في إنارة دروب في هذا الكون ماتزال معتمة مظلمة. لكن أحوالنا الفكرية بقيت راكدة نتنة متعفنة منذ أكثر من ألف سنة، تفوح منها روائح البدائية ونسمات طفولة العقل البشري، حيث أن المحاولات التحررية المحتشمة والخجولة التي مرت في تاريخنا الحديث والمعاصر كانت مجرد ردود أفعال حيوانية وانفعالات ليس لها علاقة بالزمن ولا بما راكمته المجتمعات الإنسانية المتحررة من فكر في أماكن مختلفة من العالم، وقد كان أغلبها إما حث على التمسك بالخرافات على أنها الحل الوحيد لكل مشاكل الكون، أو بعض الاجتهادات التي كانت في مجملها عبارة عن نقل لأفكار أو بعبارة أكثر دقة، اجتثاث لأفكار من بيئتها وسياقاتها الزمنية والمكانية ومحاولات تحمل الكثير من التعسف لتبنيها أو لزرعها في بيئة وفي مكان لا يحتملان بذورها، وتظهر هذه الحركات في شكل ردود أفعال على وضع أو حدث سبق أن هيج مشاعر الجماهير المتقيحة أو نتيجة لاختناق ما، أو نتيجة ضغط واستبداد فاق حدود الاحتمال، وليس نتيجة طبيعية ومنطقية لتراكم فكري ونضج واختمار لفكرة التحرر أو وجود مشروع مجتمعي مدروس ومبني على فكر عقلاني بعيدا عن الخرافة، أو مبني على أسس علمية وخطوات دقيقة قابلة للتطبيق إجرائيا في الميدان. أما إن وصل أفراد المجتمع إلى عنق الزجاجة وضاقت بهم السبل فاضطروا رغما عنهم إلى الاختيار وقرروا الأخذ بزمام الأمور وتجمهروا واحتشدوا لتنحية الذين يتلاعبون بمصائرهم، وهنا مفترق الطرق، فإما أن يكون بين هؤلاء أفراد ذوو بناء عقلي سليم فيصلوا بمشروعهم إلى غايته وهذا عملة نادرة على حد علمي في المجتمعات التي طلع البدر عليها، وإما يكون أغلب هؤلاء جماعة من الخرافيين والعاطفيين المعتوهين المختلين فينزلقوا بالمجتمع إلى قاع بئر الظلمات، وإلى التخبط في يم الوحل الذي دخلوه في البداية كرها ثم تحول الوحل والعبث فيه إلى قضية تبنوها ودافعوا عنها بدمائهم وأراقوا في سبيل الدفاع عنها دماء الأبرياء، وإما يكون القائمون على مشروع الإصلاح جماعة من الانتهازيين المتسلقين الذين يعيشون كالطفيليات على بقايا موائد وبقايا قناني نبيذ الحكام، والذين لا يترددون في بيع كل شيء وبأرخص الأثمان، حيث لا وطن لهم إلا البطن وما أسفله. هذه النماذج والعينات المختلفة صنيعة المؤسسة التعليمية وهي الأساس، إضافة إلى مؤسسة الأسرة والشارع والإعلام وغيرها، وهذه بدورها نتاج المؤسسة التعليمية، لهذا أقول إن التعليم فيه وبه ومنه يكون الإنسان السوي أو لا يكون، أما في التجمعات البشرية المتخلفة التي تدعي أنها تشكل دولا فكان التعليم ولا يزال آخر اهتمامات الحكام، وهكذا كان دائما منذ أن طلع البدر علينا، لأن البدر قرر أنه لا ضوء يعلو على ضيائه التي أعمت الأبصار وغلفت العقول من قوة تأثيرها.
أقول قولي هذا من شدة حرقتي على ما آلت إليه الأوضاع في كل مناحي الحياة عندنا ولأنني أعتقد أن الإصلاح الحقيقي ضرورة ملحة لا محيد عنه للخروج من يم الوحل الذي نتخبط فيه، وقد يتلخص هذا الإصلاح في إعادة توزيع الثروات على "المواطنين دافعي الضرائب" وأصحاب الحق وليس المن على "الرعايا" توزيعها بشكل عادل وبأثر رجعي يمتد إلى الأكبر سنا في البلاد والأكثر تضررا، والكف عن اللجوء إلى شراء الذمم، ثم إعادة بناء الإنسان بعيدا عن كل فكر خرافي صدئ متعفن، وتوفير العيش الكريم حسب ما تنص عليه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، آنذاك يمكن المرور إلى مرحلة بناء ما هو أكبر وأعم وهو بناء دولة حديثة على أسس علمية بالاستعانة بما جد في العالم من فكر وعلوم وتقنيات في كل ميادين الحياة، واستثمار الطاقة البشرية الهائلة التي تزخر بها البلاد لتحقيق ذلك.
وفي الأخير يؤسفني أن أقول إن الفاتورة تزداد ثقلا والأسقام تزداد تعقيدا، وأن نيران أبناء الذين تعرضوا للتجويع والتجهيل حتما ستلتهم الأخضر واليابس إن هي اشتعلت يوما ما وستسعى جاهدة للنيل من الطبقات الغنية والمنعمين في البلاد، وفي طريقها لذلك ستنتقم من أبناء الطبقة الوسطى شر انتقام لأن الحقد الطبقي بلغ أشده من هول الفوارق، ولأن هذه الطبقة التي قدر لها أن تكون وسطى آثرت الصمت ولم تقم بمهامها ودورها التاريخي في ضبط الإيقاع والحفاظ على التوازن بين الحدين.
تفاقم إحساسي بالغثيان في نهاية هذه السطور لأني أعرف أن الإصلاح في هذه البلاد في ظل الظروف الحالية مستحيل كاستحالة شفاء مريض بالسرطان في مراحله النهائية، وأن السبيل الوحيد للشفاء من حالة الغثيان هذه وإن كان شكليا وعلى مستوى شخصي ضيق هو الهروب والابتعاد بعيدا عن هذه الرقعة من الأرض وإلى الأبد.
أم تراني مخطئ باختياري الهروب عوض البقاء والمساهمة في دق ناقوس الخطر ولو بحرف أو بكلمة حتى تتغير أحوالنا ولو بعد ألف عام؟



#أبوبكر_المساوي (هاشتاغ)       Aboubakr_El_Moussaoui#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أجيال في الوحل
- جلد الذات
- عقدة الذنب عندنا
- -النحن- و -الأنا- و الفعل و رد الفعل
- الزوايا المظلمة من تاريخ الإنسانية
- التبن والشعير والحمير


المزيد.....




- طائرة شحن من طراز بوينغ تهبط بدون عجلات أمامية في اسطنبول.. ...
- يساهم في الأمن الغذائي.. لماذا أنشأت السعودية وحدة مختصة للا ...
- الإمارات تعلن وفاة الشيخ هزاع بن سلطان آل نهيان
- داخلية العراق توضح سبب قتل أب لعائلته بالكامل 12 فردا ثم انت ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن بدء عملية في حي الزيتون وسط غزة (فيديو ...
- روبرت كينيدي: دودة طفيلية أكلت جزءا من دماغي
- وفاة شيخ إماراتي من آل نهيان
- انطلاق العرض العسكري.. روسيا تحيي الذكرى الـ79 للنصر على الن ...
- إسرائيل تستهدف أحد الأبنية في ريف دمشق الليلة الماضية
- السلطات السعودية تعلن عقوبة من يضبط دون تصريح للحج


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبوبكر المساوي - الغثيان والاشمئزاز والتقزز