|
الكينونة بين المعرفة والخيال
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7981 - 2024 / 5 / 18 - 14:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العودة المحزنة لبلاد اليونان ٧٨ - الكينونة بين المعرفة - الإدراك - والخيال
فالعلاقة التي أسسها بارمينيدس بين الفكر واللغة والخيال والتصور وبين ضرورة الكينونة، تدل دلالة واضحة على أن محاولته هي في الأساس محاولة تأسيسة للمعرفة العقلية وتهديم المعرفة القائمة وقطع الجسور مع التقاليد الفلسفية القديمة ومع المتعارف عليه. العالم اليوناني القديم كان عالما غارقا في الخيال الذي أبدعه الشعراء، وكان عالما يعج بالمخلوقات الخارقة والآلهة والأبطال، السماء كانت تزدحم بالآلهة التي تتناحر بلا هوادة، والأرض تزدحم بالأبطال والحروب، والإنسان اليوناني، كان يتعايش مع كل هذه الكائنات وينظم حياته وفقا لها. لقد كان عالما ينضح بالكينونة الإيجابية المطلقة مما كان يجعل من الصعوبة التفرقة بين هذه الكائنات المتعددة بخصوص مقولة "الحقيقة"، وبارمينيدس أراد معاينة الطريقة التي يمكن بها التوصل إلى الحقيقة، فوجد أن كل ما ينتجه الفكر واللغة والتصور هي كائنات، ولذلك يجب أخذ هذا الطريق للوصول إلى الحقيقة. أما الطريق الآخر، خارج الإنسان فإنه طريق مسدود. ويبدو أن إعتراض سيكستوس أمبيريكوس لا يعدو أن يكون مجرد علامة إستفهام وشك صوري أراد به أن يجرد الكائنات الخيالية من كينونتها ويشكك في تأثيرها على الحياة الفكرية للإنسان. فجميع الأشياء التي نفكر فيها ونتخيلها ونقولها وننطق بأسمائها ونصفها، كالغول والشيطان والرجل الطائر وجنيات البحر .. إلخ هي بالضرورة كائنات تشارك بقية الكائنات في ما يسمى بالكينونة. غير أن هذه الكينونة قد تكون واقعية، أي تقع خارج حدود الإنسان كالشجرة والسماء والجبل أو الحجر، ويمكن تسميتها بالكينونة الموضوعية التي يعيها الجميع عن طريق الإدراك، أو كينونة ذاتية تتعلق بكائنات لغوية أو خيالية يكون الوعي بها مرتبطا بالشخص الذي يفرز ويخلق هذه الكائنات أو الذي يتلقيها من مصدر آخر كاللغة أو الفنون عموما. أما ما لم نفكر فيه ولم نتخيله ولم نتصوره فهو بطبيعة الحال لاكينونة وعدم مطلق وعتمة أزلية وغموض لا إسم له ولا سبيل للنطق به أو التعبير عنه لأنه لا كائن ولا كينونة له. إن أي إنسان يستطيع أن يرى هذه الشجرة هناك بجانب الحائط القديم، وأي إنسان يستطيع أن يعرف ماهية هذه الشجرة بالدقة، عمرها ومميزاتها المختلفة وإسمها والنوع الذي تنتمي إليه وكل خصائصها وتفاصيلها، كيف تزرع وأي مناخ يناسبها وكيف تتنفس وتتغذى وما هي الأمراض التي يمكن أن تصيبها وماذا تنتج وفي أي فصل. إنه يستطيع أيضا أن يدرس ويحلل تركيبها الداخلي ويحلل أوراقها وجذورها وأزهارها وما تنتجه، وينظم كل ذلك في علاقات معقدة ومنطقية مع بقية الأشجار والنباتات. ويستطيع أيضا أن يذهب أبعد من ذلك بواسطة العلوم والتكنولوجيا الحديثة، حيث يستطيع الآن أن يتدخل في تفاصيل تكوينها العضوي الداخلي ويغير تركيبها الجيني حسب مشيئته، بحيث تنمو بشكل أسرع، تقاوم الأمراض والحشرات الضارة ونقص المياه الناتج عن فترات الجفاف، وتنتج أكثر مما تنتجه طبيعيا أو تنتج على سبيل المثال فواكه بدون بذور .. إن كل هذا ممكن ولا يشكل في حد ذاتة إشكالية لمن يدرك هذه الشجرة، والتي يستفيد منها في حياته اليومية لإنتاج التفاح والبرتقال والعنب أو الزيت والزيتون والخشب والظل الذي يستعمله للقيلولة في ساعات الحر. إن هذه العلاقة الأولية المباشرة بين الإنسان والعالم هو مايشكل تجربته الأساسية أي "الإدراك" بخصوص ما نسميه بالواقع. وقد عاش الإنسان آلاف السنين وهو منغمس في هذا الواقع يزرع الأشجار ويجني ثمارها دون أن يخطر في باله ولو للحظة واحدة التساؤل عن صحة ما يراه أو يسمعه أو يحس به. الزلزال أو الكارثة أو المعجزة وقعت عندما أراد الإنسان أن ينتقل من "الشجرة" إلى فكرة الشجرة، واضطراره لإختراع أداة جديدة تسمى "اللغة" لتمكنه من إختزال الواقع واكتشاف العمليات التجريدية المعقدة ليتمكن من نقل تجربته لإنسان آخر. وهنا بدأت المشاكل الإرتيابية في الظهور، فماذا لو أن كلمة "كلب" تنبح ؟، وماذا لو أن الشجرة التي أجلس في ظلها لا توجد إلا في ذهني كفكرة ؟ ومادا لو أن كل ما نراه ونسمعه ليس سوى حلم سيء؟ يبدو أنه منذ هذا الوقت البعيد بدأ الشك ينخر نفسية الإنسان وبدأ القلق ينخره من الداخل كالموت. لم يعد يثق لا في عينيه ولا في جلده ولا في بقية حواسه. وبدأ يفتش وينقب عن هذا الخطأ الأونطولوجي الذي يوجد في مكان ما في هذه العلاقة بينه وبين الكائنات التي تزاحمه. كان يعتقد بوجود شرك ما يهدده وقد يسقط فيه في أي لحظة. وبدأ يشك جديا في حقيقة العالم المحيط به، مستندا في ذلك على تجارب أخرى في حياته اليومية ترتبط إرتباطا وثيقا بنوع آخر من الوعي نسميه "الخيال". فحينما يجلس تحت شجرته الظليلة ليستريح من عناء اليوم، سرعان ما تبدأ مخيلته في العمل على خلق عشرات الصور ومئات الكائنات والمواقف المألوفة والغريبة والتي تتابع بعفوية ولا يمكنه التحكم فيها لأنه مستغرق فيها لدرجة لا تسمح له بملاحظتها، وما أن يركز ذهنه على صورة ما ليحاول رؤيتها بوضوح أكثر حتى تختفي هذه الصورة وتنزلق نحو العدم. وينتهي به الأمر إلى إغماض عينيه ويأخذه النوم، حيث يجد نفسه في عالم آخر مليء بالعجائب والأحداث والأشخاص الذين يتحركون بمنطق غريب وينتقلون من حالة إلى أخرى بدون مبرر واضح، أو يجد نفسه يطير في الهواء ويراقب البيوت من تحته صغيرة كلعب الأطفال، وعندما يستيقظ من غفوته ويجد نفسه مستلقيا في ظل الشجرة، فإنه لا بد له من التسائل عن واقعية هذه العوالم المختلفة، أيهما أكثر واقعية وأكثر حقيقية ؟ وبدأ هذا الإنسان منذ هذا الوقت في محاولة تخيل نظام كوني يفسر هذه الشكوك أو يضع لها حدا وذلك بتنسيقها في منظومة سردية وأسطورية مقبولة .. في البداية، التساؤلات الإنسانية كانت ترتكز على إكتشاف القانون الأول في الطبيعة وهو مبدأ العلية أو السببية، لكل شيء سبب، وهو القانون الدي استنتجه الإنسان من مراقبته وملاحظته للطبيعة من حوله. ولكنه لم يكن يمتلك الأدوات المعرفية الكافية لإكتشاف أسباب كل الظواهر التي تشكل مجمل الحياة في ذلك الوقت، المطر يسقطه السحاب، والسحب تأتي بها الرياح ولكن ما هو سبب البرق والرعد والنور والظلام والأمراض والموت والحب والكراهية والسيول والفياضانات والزلازل ؟ وبدأ الإنسان في إنشاء الفرضيات والإحتمالات لتفسير ما لا يفهمه مباشرة، وبذلك نشأت الأساطير والخرافات التي تحولت تدريجيا إلى معتقدات وأديان تفسر نشأة الكون وخلق العالم والإنسان. وبدأت السماء تزدحم بمئات القبائل الإلهيه من كل نوع وكل شكل، لكل وظيفته وعمله وصفاته ومميزاته، وفي تراتبية ترتكز أساسا على القوة والثروة والسلطة، على غرار المجتمع الإنساني ذاته. وهكذا تخيل هذا الإنسان عالما سديميا غير محدد الملامح لا يكف عن التغير والتطور تحكمه ذوات وكائنات غريبة متصارعة ومتناحرة، عالم فوضوي متوتر يشبه الأحلام. وتدريجيا، بدأ الفكر والعقل يحتل مساحات متزايدة من الفضاء السردى، حتى حدث ما لا مفر من حدوثه وهو ظهور العقل وإنعتاقه من القيود التي كانت تكبله مما أدى إلى بدايات الفكر الفلسفي الذي سيحاول عقلنة هذا العالم والغوص في ميكانيكيته المعقدة. وبارمينيدس من أوائل الفلاسفة الذين أرادوا الغوص في ميكانيكية المعرفة والوصول إلى معرفة يقينية بالعالم وما يحتويه من كائنات.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقل المفكك وبعثرة المقاومة
-
الكينونة كمصدر
-
سبحان الله
-
عن الوجود واللغة والضجر
-
أول مايو وضرورة الثورة
-
الكينونة واللغة
-
الجنة المفقودة
-
بين العبثية والأديان
-
كينونة اللاشيء
-
قصة النسخة - دوستوييفسكي
-
الفلسفة واللغة
-
فلسفة - الزمكان في اليابان
-
فيكتور هوغو وطفل اليونان
-
الكتابة عن الدم والأشلاء
-
فلسفة الفراغ اليابانية
-
الفكر المنغلق
-
عن فلسفة النقل
-
من بقايا أوراق السيد نون
-
السؤال الذي يقتل
-
الفلسفة بين الشرق والغرب
المزيد.....
-
حاكم خيرسون الروسية: 7 قتلى وأكثر من 20 جريحا بهجوم مسيرات أ
...
-
مكتب زيلينسكي يصدر تصريحا غريبا حول الحرب بين الهند وباكستان
...
-
أربعة سيناريوهات لمستقبل سوريا
-
الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية يقدم استقالته
-
وداع غير تقليدي.. ترامب لماسك: -كنت مذهلا!-
-
مدفيديف: ترامب -يحطم نهائيا- عناد نظام كييف حول التسديد بواس
...
-
مقتل 7 أشخاص وإصابة آخرين في قصف القوات الإسرائيلية على مناط
...
-
طفل في حالة حرجة و6 مصابين بحادث دهس في اليابان
-
حاكم خيرسون الروسية: 7 قتلى وأكثر من 20 جريحا بهجوم مسيرات أ
...
-
العنف الطائفي في سوريا، بين تحديات الداخل ومطامع الخارج
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|